رضا الحديثي
باحث
في ندوة خاصة عن السياسة الشرعية وعلاقة الوحي
بالواقع ، أقامتها جهة مرموقة ،وقَّدر الله لي ان احضر إحدى جلساتها ،واستمع لبعض
نقاشاتها ، أذهلتني بعض الطروحات التي قدمها أساتذة ب "لحى إسلامية " و
القاب تربطهم بتخصصات إسلامية ، وشهرة أُريد لها ان تنتشر .
كان الحديث دائرا حول واقع الأمة ودور القرآن
الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في واقعنا ، ورغم ان المتبادر للذهن لأول
وهلة أنني ساسمع منهم افكاراً لكيفية إنزال الوحي على واقعنا ، وسأسمع منهم وجهات
نظر تعين الأمّة للخروج من التيه والضياع .
لكن العجب العجاب ان هذه اللحى ، و الالقاب
الاسلامية كانت تنادي بتعطيل النص الشرعي ، و قطع صلة الواقع السياسي بالوحي ، تحت
شعارات كان اول من رفعها من قبلُ ليبرالي جزائري او ماركسي مصري ، وما كان يخطر
ببالي أنه سياتي يوم يظهر فيه البعض ليتحدثوا بإسم الاسلام وهم من ابنائه ليقولوا
بكل جهالة: " أن القران نص تأريخي عالج مشاكل مرحلة
زمنية معينة ولا دور له في واقعنا "، او يقولوا "ان النبي صلى الله عليه وسلم كان له دور
هامشي وليس محوري لأن امر الدولة كان متعلقا بتحقيق المصلحة وتقديرها لا بدور
الوحي ، ودوره كان التبليغ وليس الحكم ( لست عليهم بمسيطر ) " او يقولوا "
ان القران ليس فيه وصف للدولة " او " ان ختم الرسالة لا يعني انها صالحة
للاجيال بعدها ، بل تعني ان البشر وصلوا لمرحلة من الذكاء والتفوق تستطيع معه ان
تقدر مصلحتها وتضع ونظامها بمعزل عن الله " او قولهم " ان القران جاء ليبني منظومة قيم ليست
جديدة وانما كان دوره التذكير ، وكذلك ارتباطنا بالوحي هو فقط معرفة القيم العليا
التي يدعو اليها كالعدل والرحمة و غيرهما " او " انه لا يوجد نظام سياسي
اسلامي في القرآن ولا السنة ، وحتى فترة الخلافة الراشدة هي شئ تأريخي ، ولذلك
فالسياسة والحكم والدولة أمور تخضع لتقدير مصلحة البشر وأخذ النموذج الانسب ولو
كان غربيا".
مثل هذه الكلمات التي سجلتها من افواه
المتحدثين دقّت عندي صافرة إنذار بخطر داهم تواجهه الأمة ممن ينتسب الى مفكريها ،
خلاصته التأصيل للعلمانية وفصل السياسة عن الدين لكن بإسلوب اخر ، فبدلا من رفض
الوحي، والدعوة الى عزل الدين عن الحياة ، تأتي هذه الدعوة لتدعو لتعطيل الوحي عن
دوره تحت شعار " تأريخية النص " او " تأريخية القرآن " أو أي مسميات ومصطلحات أخرى .
والعجب كل العجب أن يحاكم بعضهم القرآن بعقله
فيقول " لا يوجد في الوحي نموذج للدولة الاسلامية ، والا أين هو " وهي
لغة التعطيل نفسها ، فعندما يقصر عقله عن بلوغ المعنى ، تتكبر نفسه عن إتهام ذاته
، فيكون الخيار هو إتهام الوحي بالقصور .
وأزعم ان هذه الطروحات لها غايات تُدفع من جهات
مشبوهة للوصول الى إعلان موت المشروع الاسلامي السياسي وأنه لا سياسة في الدين .
وعجبا
لقوم جهلوا مصدر عزهم وغلبتهم ، وبدلا من بذل الجهد لإستنباط منهاج النبوة
الذي وعدنا به " ثم خلافة على منهاج النبوة " ، بدلا من هذا فقد بذلوا الجهد في إثبات تعطيل
القرآن عن بلوغ واقعهم ، ولقد كان كفّار الأمس أعقل منهم حين اقرّوا بصراحة أن غلبة المسلمين مرتبطة بسماعهم لتوجيه الوحي ،
ومتى ما ارتفع اللغو ليمنعهم عن سماعه
كانت الغلبة "وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ" ] فصّلت: 26].