د. هشام الأنيس
أكاديمي وباحث
تتأسس سلامة السير الدعوي في أحد وأهم مستلزماته على
حالة الوفاق والتآلف بين القيادات التي تتولى زمام القيادة، بوصفها صورة تعزز أو
تطعن بوجود الثقة التي سيوليها الأفراد لها، فوجود المحبة والتآلف والتسامح
والحفاظ على سلامة القلوب من أهم ما يسترعي إعجاب الدعاة العاملين فيبدأ العمل
بتقليدهم والتماهي مع سلوكهم تأكيدا لحالة السرور التي فرح بها هؤلاء الأفراد عند
رؤية قياداتهم، ويتأكد هذا التآلف عند الأزمات التي تتعرض لها الدعوة، فمما هو
معلوم عند حدوث هذه الأزمات تبدأ الاختلافات وتنوع وجهة النظر بين القيادات بسبب حرصها
على سلوك ما يُخرِج الدعوة من ازمتها، وهنا يدخل الأفراد مرحلة التشتت في تصديق
هذا وتخطئة ذاك، وينشغل الصف بالقيل الذي يعطل الأعمال ويهدر الأوقات فتكون الدعوة
ساحةً اللاعبُ الأبرز فيها الشيطان الذي سيظل يستثمر التحريش بين المؤمنين ليوصلهم
إلى ما قد قال الله عنه " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" ، فكيف نحفظ
للدعوة قوتها في موضوع التآلف القيادي؟
التآلف
القيادي : مفهوم من كلمتين تشتمل الأولى على كل أصناف ومجالات التآلف، من تآلف قلبي وفكري واجتماعي ونفسي، حتى يصل الأمر بتكوّن كيان
واحد وصف بأنه زمرة القلب الواحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض، والكلمة الثانية جاءت
وصفا لهذا التآلف كونها قيادياً أي مختصا بهم، ويمكن دخول الكلمة الأولى على
مسميات كثيرة مثل التآلف الفردي، الأسري، الدعوي، ولكن ما يعنينا في هذه المقالة
هو التآلف القيادي الذي هو أس البناء السليم وقاعدة انطلاق الأفراد نحو عمل مستديم
ومبارك.
مجالات التآلف القيادي:
قد تدفع
لوائح الانتخابات وفردانية التعيين أشخاصا إلى سدّة القيادة مما يجعل أمر الاختلاف
الثقافي او النفسي أمرا لا مناص منه، وقد تحتاج هذه الثلّة بعد اجتماعها إلى وقت
لتتخالط وتندمج وتكوّن نسيجا فسيفسائيا جميلا يغري الأتباع بالاقتداء والطاعة
والعمل في ظل شعور بالفرح والارتياح، و في الوقت نفسه قد يتعزّز الاختلاف في حال
بقاء بعض القيادات مسجونين في إطار المؤسسة التي يقودونها والتي تمثّل جزءا صميما
من مؤسسات الدعوة، مما يجعل إيجابية التنوع أمراً نسبيا قد يحقق فائدته وقد لا
يحقق. وهنا لابد من الحديث عن أسس الوصول إلى قيادة متآلفة تحقق أهداف الدعوة
وقيادة الأفراد بشكل مرضي وناجز.
1. الأساس الأول
هو تحقيق حزمة أركان البيعة العشرة التي أفاض الشرّاح فيها، وكثرت الكتب حولها،
وما تزال وسائلنا عاجزة عن معرفة مدى تحقق هذه الأركان عمليا، إذ ما زلنا نقيس
تحققها نظريا وكلاما فحسب.
2. لابد لهذه
المجموعة أن يتحقق فيه قدر من الوعي بمتطلبات القيادة والإدارة الفاعلة خاصة في
مرحلتنا التي نمرّ بها من واقع متغير، وصراع متعدد الجهات، بما يدعو إلى وعي
بالسياسات الحاكمة للعمل والتي تحقق وجودا وتأثيرا في الواقع، وهذا يدعو إلى
انفتاح وإعادة نظر في كل القيم ومنزلتها في الشريعة والعرف الدعوي، فما كان ثابتا
بميزان غير الشرع قد يتغير وفقا لطبيعة المرحلة والصراع الذي يحكم القوى في
المجالات كافة، والعمل الصحيح هو ما يوصلنا إلى مقاصد الشريعة ولسنا بحاجة إلى
تعقيد المباحات ووضع قيود جديدة على ممارستنا الدعوية غير تلك التي صحّ النص
الشرعي باعتبارها أو إلغائها أو إرسالها.
3. القيادة
الجماعية قد تضعف ويتأكد ضعفها عندما تتحول إلى رؤوس قيادية، كل رأس يهمه أمر
اختصاصه، ومن نافلة حضوره أنْ يعلق على هذا الأمر أو ذاك، وهذا من معوقات العمل
بروح الفريق الواحد، الذي تتضاعف قوته عند تحقق روح ووعي واحد في أجساد عدّة.
4. إن منْ تدفعه
الانتخابات إلى سدّة القيادة، قد يكون مبادرا حازما يصل الليل بالنهار، ويصل الوعي
والحصافة والرأي بالسكينة والرحمة، وقد يكون دون ذلك، بما يدعو هذه القيادة إلى
أمرين: الأول هو تأهيل هذه القيادات بما يجعلها أهلا لاستكمال الوعي إن اشتط،
والعزيمة إن فترت القلوب، والثاني هو الإفادة من خبرات منْ لم ترفعه الأصوات، أو
منْ كان مشغولا بأمر كان حائلا دون شهرته ومعرفة القواعد به، ففي الدعوة طاقات قد
لا تصلح أن تقود ولكنها أفضل منْ يكون عند المشورة والاستخبار.
5. القيادة لا
عصمة لها وهي معرضة لخطأ التقدير الدعوي أو السياسي على اعتبار أنّ الصواب قد تغبش
صورته إنْ كان من شؤون الدعوة والاجتهاد العملي بخلاف الصواب المنصوص عليه شرعاً،
وبناء عليه فمشورة القواعد بضوابطه ( من دون إفراط ولا تفريط) مطلوب لتحقيق أمرين:
الأول إشعار القواعد بأهميتها وحضورها ومشاركتها، وهو كاف لردع التطلعات التي
تعتلج في صدورهم الداعية إلى مزاحمة قياداتهم،
الثاني هو إشغالهم بمهام القيادة وتعريفهم بالسياسات المتبعة وسيرورة العمل
والأهداف والوسائل وغيرها من مستلزمات الخطط التي تضعها، ومن ثمّة نضمن التواصل
وتحقق الفهم وتحقيق الأهداف.
6. العدل أساس
الملك قاعدة قررها فقهاء السياسة قديما، وتحقيق التآلف بين المجموعة القيادة يحتّم
على مسؤول القيادة أن يكون على مسافة واحدة من مجموعته، فلا يقرّب هذا لألفة نفسية
ويبعد ذاك لعدم ارتياح له، أو يقرّب من يتماشى معه ولا يعارضه ويُبعد ذاك الذي
يخالفه، إذ هو مستأمن وراع وأمير، وعند الوقوع في مثل هكذا سلوك فسيكون الفضاء
الذي تشتغل فيه المجموعة مشغولا ما بين ضعيف يسعى للحفاظ على منزلة القرب بصمته
ومسكنته، وما بين مناكف لا يطيق صبرا على هذا الضعف، أو هذه القيادة المائلة، ويتحول
الأفراد إلى فئات تطلب التأييد في وقتٍ الأوْلى أن يُشغل بإدارة القواعد التي تنظر
بعين الإكبار والرقابة عليهم.
مستلزمات تحقيق التآلف ضرورة أولى
إن المجموعة
القيادية يتحتم عليها دور توفير النخبة القيادية القادمة، لا بأس بحضور بعض
السابقين كشرط للتواصل بين المجاميع القيادية وتوريث الدعوة، ولكن الأصل أنّ تجديد
حضور القيادات الوسطية إلى سدّة القيادة أمر يسقي الحركة وينمّي البراعم النابتة
في أجواء جديدة، وفي مقابل ذلك فإن تنحي القيادات السابقة سيحقق سهولة الحركة بين
القيادات الوسطية في المناطق أو المراكز التابعة للحركة، فلا ضير من إيجاد وتوفير
مهام وظيفية جديدة، توسع أفقية العمل ومن ثمة نضمن توزيع الكفاءات القيادية في
أكثر من موطن، وننبذ روح التدافع المذموم لو تسرب إلى وعي هذه القيادات لسبب أو
آخر، وبالعودة إلى مهمة توفير القيادات الجديدة فإن من شرف ونبل الموقع الذي شغلته
مجموعة ما أن تسعى جاهدة لتوفير الآتي الذي سيحقق زخماً إضافيا للإنتاج ومن أهم
ذلك:
1. بناء تصوّر عن
وضع الحركة وما آلت إليه بعد هذه السنوات ، ويُفضّل عدم الخوض في نقد الآخرين وجلد
الذات والبكاء على الأطلال والمكاسب فمشروع الدعوة باق إلى أن يرث الله الأرض ومنْ
عليها وفهم سنن الفتن والابتلاء والتعثر والهبوط في مسيرة الدعوات والجماعات
الإنسانية.
2. الإقلاع عن
فكرة أنْ ليس هناك منْ هو أفضل مما كان ومنْ كان، فالدعوة ولود لا عاقر، ومن خلال
التمازج القيادي ستتكوّن الكفاءات وتتشذب الطاقات.
3. البدء بالبحث
عن مجموعة قيادة أولى تتحقق فيها حزمة الأركان العشرة مع مواصفات أخرى إضافية حتى
لا يبدأ عمل الحركة من نقطة الصفر، ومحاولة التنسيق بينها من خلال توجيه أعلى
وإشراف استشاري لا بأس من أنْ يكون من النخبة القيادية السابقة أو أهل السبق
الفكري والعمل الدعوي.
4. اعتماد
التوزيع الأفقي للقيادات لا التوزيع الهرمي/ العمودي وذلك بتوفير أجواء عمل تحفظ
للجميع جهدهم وعطاءهم، وتحقق التمازج والمعايشة القيادية مع القواعد ونقل الخبرة
إلى مواقع أدنى الحركة بحاجة إليها.
5. النظر إلى
أبعد من الطاولة، وذلك بربط الكفاءات المعطّلة مع هذه المجموعة الجديدة، أو ربطها
بتلك القيادات المعايِشة من موقع أدنى، فقد يكون سبب انكفاء بعض هذه القيادات بسبب
عدم تآلفها مع مَنْ سبق، ولا مشاحة في ذلك ولا يقدح في علاقة التواد والأخوة
بينهم، فالعمل يحتاج إلى تثاقف وتواصل واتفاق على مهام أما العلاقات الأخوية
والتراحم والحب في الله أساس قبْلي يفترض وجوده مسبقاً.
6. البدء بمشاريع
نوعية تتجاوز حدود الخطط المرسومة، فالحركة تعيش مرحلة جديدة تحتاج فيها إلى
مشاريع نوعية قصيرة الأهداف يتحقق فيها حضور دعوي على المستوى العام الدعوي، وحضور
تنظيمي على المستوى الداخلي، ويمكن أن يتم تدوين هذه المشاريع من خلال ورشة عمل
موسعة.
إن ما نطمح إليه هو حصاة تحرك ركود الماء وتحوّله إلى
دوائر تتوسع وتستمر كلما أدمنا إلقاء هذا الحصى الذي يتمثل بهذه المشاريع النوعية،
والأمل معقود على المجموعات القيادية السابقة واللاحقة لاستدراك ما فُقد في مرحلة
سابقة.