عامر
ممدوح
باحث
يختار الإعلامي المشهور أحمد الشقيري نماذج متنوعة ليوجه
لهم سؤال في مقطع مؤثر : (لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمامك الآن ، فماذا
تقول له ) ؟َ!
تنهال الدموع وقتها شوقاً ، وتحمر الوجوه خجلاً ، ويقشعر
بدن من يسأل ومن يجيب ومن يتابع في آن واحد ، ومن بين هؤلاء جميعهم يستوقفني
بإعجاب ذلك الرجل البسيط الذي قال : لو رأيته الآن لركضت أصلي ، فأنا لا أصلي !
تأملت ملياً بالمشهد وبالكلمة ، وقلت في نفسي ، ماذا لو
طرحنا محبة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كإحدى منظومات التغيير الواجبة ، بل
نعدها وسيلة من الوسائل المحققة لرسالتنا في الحياة (إلا ليعبدون ) نحو الوصول إلى
الرؤية المطلوبة ( خير أمة ) .
إن تنمية الشعور الوجداني المتعلق بالنبي الحبيب صلى
الله عليه وسلم لا يتعلق بالمحبة الشخصية الواجبة على كل مسلم فقط مما هو معلوم
بالضرورة ، مثلما لا يعني اعتمادها لوحدها وترك ما سواها كما فهمها البعض خطأ ، أبداً
.. أبداً ! إنما هي فعل إيجابي يحقق التغيير المنشود في الذات والأمة والمجتمع على
حدٍ سواء .
إن محبة النبي الكريم تمثل نقطة الانطلاق نحو تأكيد
الانتماء ، فلما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( يا رسول الله لأنت أحب
إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى
أكون أحب إليك من نفسك فقال له: عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر ( البخاري 11/523 ) .
ولهذا كان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: ما كان احد
أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن
املأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن املأ عيني منه
(مسلم 8/145 ) .
إننا إن وضعنا اليوم في مناهجنا أو اعتمدنا في طرقنا هذا
التذكير المستمر بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ، سنعمل على إثارة مكامن المحبة
، ونعيد توجيه البوصلة القلبية نحو الرمز الأول لدى المسلمين ، وفي ذلك تحفيز
مباشر نحو النبي ( القدوة ) ، وارتباط تجديدي برسول ( الفكرة ) .
وقد يستغرب المرء ربما لأول وهلة هذا الحديث الذي قد
يكون بعنوانه بديهياً ، ولكننا نتحدث لأمة تراجعت في منظوماتها القيمية
والسلوكية ، وتحولت تلك المشاعر القلبية الكامنة لدى الكثيرين إلى تراث وعرف
وتقليد له مناسباته الروحية دون العملية ، في وقت كان التمثل لمنهج وسنة النبي صلى
الله عليه وسلم هو أول دليل للمحبة (قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يحدثنا
أنس بن مالك ــ : يا بني إن قدرت أن تصبح
وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل ثم قال لي يا بني وذلك من سنتي ومن أحيا سنتي فقد
أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة ( الترمذي5/46 ) .
ولذلك
جعل ابن رجب الحنبلي ( ت 795هـ ) محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على درجتين: (فرض
) وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به من عند الله وتلقيه بالمحبة والرضا
والتعظيم والتسليم ، و( فضل ) وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به، وتحقيق
الاقتداء بسنته وأخلاقه وآدابه ونوافله وتطوعاته ، وغير ذلك من آدابه الكاملة
وأخلاقه الطاهرة (استنشاق نسيم الأنس 35،34 ) .
وفضلاً عن ذلك ، من المهم جداً ان نعيد ربط الفرد المسلم
وعبر مناهجنا التعليمية وبنائنا المعرفي الذي نحاول به إعادة تشكيل العقل المسلم
بالتاريخ الباهر الذي حققه النبي الأكرم ، والصحابة الكرام ، وبما يحقق مغزى
المحبة ( الفعل ) للوصول إلى النتيجة المرجوة ( الواقع ) .
إن ربط الذاكرة المسلمة منذ لحظة نشوئها بالنموذج النبوي
إنما يحقق أهدافاً عدة ، اولها إعادة الثقة في النفوس والعقول ، وإبقاء الأمل بإمكانية
استئناف المنجز من جديد ، ووضع محددات التصحيح والتصويب لمسيرة حياة المسلم والأمة
، والأمر يزداد أهمية وتأثيراً في أزمان الفتن والتراجع والضعف والنكوص ، إذ
الأفراد يعانون الهزيمة النفسية ، ويكاد اليأس والقنوط يهزمهم .
ولو راجعنا تراث علمائنا لوجدناهم يدركون ذلك الأمر بشكل
واضح ولا سيما من كتب في أهمية التعليم ومراتبه وخصائصه .
فابن عبد البر الأندلسي (ت 463هـ ) يجعل من أقسام معرفة
الدين ، معرفة مخرج خبر الدين وشرائعه ، وذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم الذي
شرع الله الدين على لسانه ويده ( أي دراسة السيرة النبوية ) ومعرفة أصحابه الذين
أدوا ذلك عنه ( قراءة تاريخ الصحابة والتابعين ) ، ومعرفة الرجال الذين حملوا ذلك
وطبقاتهم إلى زمانك ( الطبقات بعمومها ) ومعرفة الخبر الذي يقطع العذر لتواتره
وظهوره ( التاريخ العام ) . ( جامع بيان
العلم ، ص 796 ) .
ويعود ابن عبد البر ليؤكد إن الواجب الوقوف على اسماء
الصحابة والبحث عن سيرهم وأحوالهم ، ليهتدى بهديهم ، فهم خير من سلك سبيل رسول
الله وأقتدى به .( الاستيعاب في معرفة الأصحاب ، جـ 1 ص 7 ، 18 ) .
ولو تأملنا سبب هذا الاهتمام الكبير لدى ابن عبد البر
بالتدوين في هذا الحقل التاريخي لوجدنا الأمر متعلق بالبيئة التي وجد فيها ، فهو
من مدرسة جيل الفتنة الأندلسية والأحداث المؤلمة التي عاشها وطنه وقتذاك دفعته كما
يبدو للبحث عن الأنموذج المفتقد ، فلم يره إلا في السيرة النبوية والصحابة
والتابعين والعلماء والفقهاء ، فترجم لهم ، وحرص على بيان مزاياهم بالشكل الذي
قدمه ونال الإعجاب ، وكأنه كان بالفعل يريد جعل القراء يعيشوا في تفاصيل حياة ذلك
الجيل ، ويشدهم إلى (القدوة ) الأنموذج .
إن العمل الحثيث لعودة الأمة إلى مرافئ الدين القيم
يستلزم خططا متكاملة ، ومنظومات فاعلة ، ومن بينها هذه المحبة النبوية التي تعزز
الشعور بالهوية من جهة ، وتمنح الفرد التحفيز المطلوب للعمل من جهة أخرى ، أي بتعبير
ابن رجب رحمه الله ، الجمع بين ( الفرض ) و( الفضل ) في محبته صلى الله عليه وسلم
.