مبدأ فصل السلطات الثلاث في السياسة
الشرعية.
د. عبد الكريم العاني
اكاديمي
وباحث
من المعلوم أن هناك ثلاث سلطات في أنظمة الحكم كما هو مقرر في
الشرائع السماوية والقوانين المدنية، تشريعية، وقضائية، وتنفيذية، وكانت هذه
السلطات تجتمع في يد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وما كان في ذلك أي خطر لتأيده بالوحي، مع ذلك
فإن الفعل المجرد لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يدل على الوجوب إلا إذا كان بيانا لواجب كأعمال الصلاة
والحج([1])،
وكانت الدولة في بدايتها محدودة النفوس نقية طاهرة والوازع الديني يقظا ومسيطرا
على التصرفات، والفقهاء رحمهم الله تعالى بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
اختلفوا في حكم الجمع أو الفصل بين هذه السلطات، فالفصل بين السلطات أو الجمع
بينهما_ والله تعالى أعلم_ من السياسات الجزئية المرتبطة بفقه الوقت والمصلحة،
بدليل أن سيدنا الفاروق )رضي
الله عنه)، فصل بين السلطتين التشريعية والقضائية (لم يخالف رسول الله صلى الله
عليه وسلم)، بخلاف سيدنا عثمان )رضي
الله عنه) فقد جمع بين السلطة التشريعية والقضائية، فكان يجلس للقضاء )رضي الله عنه).
إذن فالفصل بين السلطات هو من الأمور المباحة التي قد تقيد
بواجب الوقت، والمصلحة؛ لذلك فهي من السياسات الجزئية وليست من السياسات العامة
المستندة إلى نصوص قطعية. وفي ذلك يقول ابن خلدون رحمه الله تعالى: "وأما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة
لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي وقطعاً للتنازع، إلا أنه
بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة، فكان لذلك من وظائف الخلافة ومندرجاً
في عمومها. وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلون القضاء إلى
من سواهم. وأول من دفعه إلى غيره وفوضه فيه عمر )رضي
الله عنه) فولى أبا الدرداء)رضي
الله عنه) ([2]) بالمدينة، وولى شريحاً رحمه الله تعالى
بالبصرة وولى أبا موسى الأشعري )رضي
الله عنه) بالكوفة. وكتب له في ذلك الكتاب المشهور
الذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة فيه"([3]).
والذي أراه _والله تعالى أعلم_ أنه في الوقت الحاضر لابد من
فصل السلطات، لمصلحة ضمان إقامة نظام دستوري يكفل حماية الحريات في العصر الحديث؛
لمنع تمركز السلطة بيد واحدة، أو بيد هيئة أو مجلس واحد، فلو جمعت هذه السلطات
الثلاث بيد واحدة وقيدت نفسها بقواعد أو ضوابط دستورية لعملها، فمن سيكفل ضمان
احترام وتطبيق هذه القواعد والضوابط، إذا كان المشرع والقاضي والمنفذ واحد.
وسداً لذريعة
الاستبداد والظلم والبغي والتفرد بالقرار ولكي نحمي الحريات المقيدة بالشرع، ونضمن
حق الشورى المكفول شرعاً؛ فلابد من إسناد الوظائف الثلاث التشريعية والتنفيذية
والقضائية لسلطات أو هيئات ثلاث، فيكون هناك جهاز خاص للتشريع، وجهاز خاص للتنفيذ،
وجهاز ثالث للقضاء، ومتى تحقق ذلك أصبح لكل عضو اختصاص محدد لا يمكن الخروج عليه
دون الاعتداء على اختصاص الأعضاء الأخرى، ولا شك في أن الفصل بين السلطات يمنع ذلك
الاعتداء لأن كلاً منها سيوقف عدوان الأخرى ([4]).
إلا أن هذا الانفصال إنما هو انفصالٌ مرنٌ فيمكن للسلطة القضائية مثلاً مراقبة
السلطة التنفيذية، كما يحصل اليوم من المراقبة القضائية على النظام الانتخابي في
الدول الدستورية الحديثة، كذلك فإن البعض يرى أن هناك تداخلاً في بعض المسائل بين
السلطة القضائية والسلطة التشريعية أو التنفيذية، فنجد أن الإمام القرافي رحمه
الله تعالى في تحديد العلاقة بين الإمامة والقضاء يقول: "إن الإمام نسبته
إليهما([5])
كنسبة الكل لجزئه والمركب لبعضه، فإن للإمام أن يقضي وأن يفتي.... وله أن يفعل ما
ليس بفتيا ولا قضاء كجمع الجيوش وإنشاء الحروب وحوز المال وصرفها في مصارفها
وتولية الولاة وقتل الطغاة وهي أمور كثيرة يختص بها لا يشاركه فيها القاضي ولا
المفتي، فكل إمام قاض ومفت، والقاضي والمفتي لا يصدق عليهما وصف الإمامة
الكبرى"([6])،
هذه العبارة تؤيد ما ذهبنا إليه إن الجمع بين السلطات جائز لكنه ليس منتهى
السياسة، والفصل جائز ولكنه ليس النهاية في السياسة الشرعية.
والضابط في ذلك كله مصلحة الظرف الزماني (واجب الوقت)، وفقه
الواقع الحالي، وسد ذريعة استغلال السلطة لمصالح شخصية.
ولكي يستقيم عمل تلك
الهيئات على وفق شرع الله ومصالح العباد لا بد مراعاة ما يأتي:
1. أن تكون عقيدتها عقيدة التوحيد، وأن لا حاكم
إلا الشرع؛ لقوله تعالى: }
وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا{
([7])،
وفي ذلك إشارة نص واضحة بعدم تسلط الكافر على المسلم في الحكم.
2. أن تكون سلطتها
وإرادتها إنفاذ حكم الله؛ لقوله تعالى: } وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ{ ([8]).
3. أن يكون
أعضاؤها من الأمناء الأكفاء ومن أصحاب الاختصاص، فلا يوسد الأمر إلى غير أهله فتضيع الأمانة، فأساس
الكفاءة القدرة والخبرة، وأساس الأمانة عدم التفريط بالحقوق، قال تعالى: }إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ
الْأَمِينُ{([9]).
وهو عبارة نص واضحة في الأجير، وإشارة
نص في كل عمل.
4. أن يقدم الأصلح لإشغال مكانه في تلك
الهيئات، بعد انطباق الشروط السابقة عليه.
5. منع من طلب الولاية أو التسابق إليها، وهذه
قاعدة عامة تنطبق على الولاية العامة والولاية الخاصة، فلا يقدم الرجل الذي طلب
الولاية؛ لأن الولاية أمانة ثقيلة لا
يتسابق عليها، فعَنْ
أَبِي ذَرٍّ )رضي الله عنه) قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه )صلى
الله عليه وسلم) أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي
ثُمَّ قَالَ (صلى الله عليه وسلم): يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا
أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ
أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا"([10])، وعن أَبِي مُوسَى )رضي
الله عنه) "قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ
(صلى الله عليه وسلم) أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ قَوْمِي فَقَالَ أَحَدُ
الرَّجُلَيْنِ أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَالَ
الْآخَرُ مِثْلَهُ فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم): إِنَّا لَا نُوَلِّي هَذَا مَنْ
سَأَلَهُ وَلَا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ"([11])،
وهذه عبارة نص واضحة في منع من طلب الإمارة أن يُؤمّر، وفي ذلك يقول شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "طلب الولاية أو سبقٌ في طلب يكون ذلك
سبب المنع"([12])
أما مصدر هذه السلطات في الإسلام فهو الشرع، وأما من
يتولى هذه السلطات في الحكومات الدستورية الحديثة فهم أعضاء المجالس النيابية، وهم
الذين يقومون بسن القوانين وتشريع الأحكام التي تقتضيها حاجات الزمن ومصالح الناس،
ويشرفون على تنفيذها.
وأما في الدولة الإسلامية فالذي يتولى
السلطة التشريعية هم المجتهدون وأهل الفتيا، وسلطتهم لا تعدو أمرين:
1. ما كان فيه نص
فعملهم تفهم النص وبيان الحكم الذي يدل عليه.
2. ما لا نص
فيه فعملهم بطرق الاستنباط بواسطة الاجتهاد.
ومن يتولى السلطة القضائية في الإسلام
هم رجال القضاء، وقد روعي في الحكومات الدستورية الحاضرة أن يكون رجال القضاء غير
رجال التشريع تطبيقا لمبدأ الفصل بين السلطات.
ومن يتولى السلطة التنفيذية فهم ولاة
الأمصار وقواد الجيوش وجباة الضرائب ورجال الشرطة وسائر عمال الحكومة([13]).
([2]) وهو الصحابي الجليل عويمر بن زيد بن قيس بن أمية
الخزرجي الأنصاري t، أسم يوم بدر وشهد أحد فقال عنه رسول الله r نعم الفارس عويمر، حكيم أمتي، توفي t في خلافة سيدنا عثمان t.
ينظر:: ابن عبد البر:
الاستيعاب، تر(2006) 3/1227؛ ابن الجوزي: صفة الصفوة،
تر (76)، 1/627؛ ابن حجر: الإصابة، تر (6121)، 4/747.
([4]) ينظر:: بدوي ثروت، النظم السياسية، (د.ط، دار
النهضة العربية، القاهرة، 1972م)، ص 175؛ البياتي منير حميد، النظام السياسي
الإسلامي مقارنا بالدولة القانونية، (ط1، دار وائل للنشر، عمان الأردن، 2003م)، ص
161 ومابعدها؛ مدكور محمد سلام (معاصر)، معالم الدولة الإسلامية،
(ط1، مكتب الفلاح، الكويت، 1403هـ_1983م)، ص441.