الاحتياج
التربوي.. تأصيله و ضبطُه.
د.
هشام الأنيس
اكاديمي
وباحث
لا
شيء يفرض وجوده على ساحة العمل الإسلامي مثل قضيتين، الأولى: تطوير الأداء و حيازة
مواقع تأثير مجتمعي، يعزز التأثير الإيماني الذي يسعى لتحقيقه العامل في الحركة. و
الثانية: ضمان هذا العمل و ديمومته وفق المسار الذي تخطط له الحركة و الذي يُعدُّ
من بديهيات الشرع التي عبّر عنها النبي صلى الله عليه و سلم بقوله" أفضلُ
الأعمال أدومها و إن قلّ" و كمال القضيتين عبر عنهما حديث آخر " إن الله
يحب إذا عمل أحدُكُم عملا أن يتقنه".
الاحتياج
التربوي مفهوم يحدد ضرورة تقتضيها حركة العمل و الداعية تتمثل بحاجته التي لابد من
وجودها، و بما أنّ الاحتياجات كثيرة و متنوعة فإن الحديث هنا مقتصر على الاحتياج
التربوي، و من هنا لابد من توضيح مفهوم التربية و حدودهاو مساحاتها، فالتربية
مفهوم تجتمع اشتقاقاته على معنى النماء و الإصلاح و الزيادة، فهي عملية تنمية لما
تشتمل عليه شخصية و كيان الشخص، عقلا و قلبا و سلوكاً، و التربية ضرورة لا غنى
للعامل عنها فهي زاد له للتخفيف من وحشة الطريق و هي زاده في مواجهة عوائقه، و هي
قبل ذلك المركب الآمن الذي يحمله الى جوار ربه، و قد تسلمته هذه التربية و التزكية
ليكون ممن يحمل في جوفه قلباً و صفه الله تعالى " يوم لا ينفع مال و لا بنون
إلا من أتى الله بقلبٍ سليم" و سلامة هذا القلب هو المقصد و الهدف الأخير
الذي يسعى له المؤمن قبل انتقاله الى الدار الآخرة.
و
إن قِوام الشخصية التي ربّاها النبي صلى الله عليه و سلم، كانت محققة لهذه السلامة
في جانبها السلوكي التي كانت مثالا متفرداً للبناء السليم بعيداً عن رهبانيات
مبتدعة، و منزّهة عن الأشكال و الغايات
التربوية التي تطوّرت لتتحوّل الى
سببٍ في إنشاء شخصية تضخّمت عقدتُها من الواقع و من الضعف و الهزال الروحي، فاتخذت
طريقا مبالَغا في تنمية النفس و ترويضها، و ووصل الأمر الى تحقيرِها و إهانتها و
قتلِ الطاقة الكامنة فيها، بحجج الخوف من الوقوع في شَرَك العجب أو الرياء و
الكبر، و الذي بدوره قد يتحوّل عند غياب البوصلة التربوية الصحيحة و المتوازنة إلى
حالة الانقطاع عن ممارسة الطاعة لأنها مشكوك في صحة القصد فيها، و هو ما يحقق
الهدف الأول الذي يسعى اليه الشيطان في إغوائه للنفس و التضييق عليها بعدم فعل
الطاعة، حتى إذا لم يستطع اتَّخَذ وسيلة التشكيك بالعمل، و التربية السليمة تحققت
بأفضل صورها في جيل الصحابة الذين جمعوا بين احتياجهم التربوي و ممارستهم الدعوية،
و لم يكن هناك ما يستوجب فرضية الترتيب و التوالي التي تفرض على المرء أن لا ينتقل
الى العمل العام الا بعد مخاضات تربوية و نفسية، فإذا استكمل ذلك فسيبدإ بالخطوة
التي تليها، و الملاحظ أن الممارسة التي يفرضُها بعض المربين تتقاطع مع حوادث
كثيرة تشير الى ممارسة الدعوة بالمصاحبة مع التربية و تزكية النفس حتى لو لم
تستكمل احتياجها المثالي، الذي هو حالة تكاد تكون شبه مستحيلة، و لعل أنموذج ابي
ذَر و الطفيل بن عمرو الدوسي مع قومهما و ثلة الصحابة في ارض الحبشة و سفراء
الإسلام و على رأسهم مصعب بن عُمير، كلها أمثلة ترتكز على وعي صحيح بقضية (
الاحتياج) التي ينبغي أن تكون على قدر الحاجة حتى لا تتحول الى إفراط يعطّل النفس
عن أجل أعمالها و هي الدعوة و التبليغ و النزول الى الميدان " و مَنْ أحسنُ
قولاً ممن دعا إلى الله و عمل صالحا وقال إنني من المسلمين"
و
بالعودة الى ممارسة هذه التربية بهذا الشكل المتوازن في حياة النبيّ عليه الصلاة و
السلام، نجد تحديدا كمّيا لهذه المرحلة ذكره أهل السير و هو أن النبي قبل البعثة
كان يختلي الليالي ذوات العدد، فمرة اختلى عشرا و مرّة عشرين و كان آخرها ثلاثين
يوما قبل البعثة، و في هذه النسب إشارة واضحة على اقتصار الخلوة على الحاجة، و عدم
الإفراط فيها، و التربية هنا معنيّة بجانب واحدٍ هو الروح و النفس، من دون أن يعني
ذلك ترك المساحات التربوية المرافقة للنفس و الروح، فقد كان النبيّ بكارية تربية
فكرية و عقيدية على أتباعه مع تلك التربية الإيمانية.
و
بالانتقال الى ضبط هذا الاحتياج لابد أن نوقن أن التوازن من سمات التشريع، فلا
تجاوز لقضية على أخرى و استلابها لنسبتها الا في حالات محدودة يتضح من خلالها أن
جانبا ما يحتاج إلى دعم و تكريس، و هذا ما يجعل مناهج التربية في العمل الإسلامي
مرنة في تحديد الاحتياج و تحديد نسبته، و الأصل هو التوازن و المفاضلة بين جانب و
آخر مقترنة بحالة و ظرف معين.
و
هذا ما يسلمنا الى الحديث عن تركيز بعض المربين على مفاهيم تربوية و برامج تزكية
قامت بسبب وجود خلل في منظومة في مناهج و برامج الحركة الإسلامية، فأصبحت تجتهد
لمعالجة الخلل بعنف تربوي يتجاوز حدود الدعم و التكريس إلى حدود التهميش و إرجاء
البرامج العامة بل يصل الأمر أحيانا إلى حدّ الإلغاء و إِنْ لم يصرَّح بذلك، و لكن
الممارسة تفضحُ هذا التوجّه، و لعلّ ما تمرّ به الحركة من تراجع تربوي قد سُوِّغ
لظهور اجتهادات فردية لبناء رؤية و مهام تربوية، منطلقة من أنّ كل هذا التراجع و
خسارة المواقع هو بسبب الخلل الإيماني و الهزال الروحي، و هو تشخيص صحيح إلا أنّه
ليس السبب الوحيد لهذا التراجع، و إنما
هناك أسباب أخرى لا تقلّ اهمية عن سبب الضعف الروحي و الإيماني، مثل غياب
البرامج الملائمة لتطورات كل مرحلة تمر بها الحركة، أو الضعف في استكمال بناء
الشخصية في مجال مواجهة التحديات التي تتعرض لها الحركة و الأفراد على حدٍ سواء، و
هذا الاستكمال هو من أسس الصلاح الذي ذكره القرآن " و لقد كتبنا في الزبور من
بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" و الصلاح الذي يعمّر الأرض و يحقق
الاستخلاف هو ذلك الذي جمع التربية في بُعدِها الإيماني بالتربية في بُعدِها
التنموي، و بهذا الجمع تنبني شخصية الفرد الذي يؤسس عمله على تقوى من الله و رضوان
من جهة و يستكمل مؤهلات القيادة و مستلزماتها، فهو المعنيّ قبل غيره أن يأخذ زمام
المبادرة.
و
تشتبه أحيانا عند البعض قضية فهم متطلبات التزكية بمتطلبات التنمية، و سبب هذا
الخلط هو غياب البوصلة و اضطراب عملها، أو ردة الفعل غير الموزونة تجاه رؤية الخلل
الذي يعتري مسيرة العمل، و الخطورة هي في تفسير كل عمل إيجابي يستلزم حضور الشخصية
و المبادرة الفردية على أنه مركب لشهوة النفس و حب في الظهور الذي تناقل الكثيرون
كيف أنه قاصم للظهور!! و هو صحيح أيضا، و لكن من الخطأ استخدام لغة التعميم، وكل
ممارسة مهما كانت قابلة للتطبيق غير السليم، لذا فما زالت مناهج الحركة الاسلامية
لا تختلف في هذه البديهية و هي : أننا بحاجة الى تربية الذات و استكمال مقوماتها
لتصل الى منزلة القبول، و بحاجة في الوقت ذاته الى الحضور الإيجابي الذي يقارع
الحجة بالحجة و يجادل بالتي هي أحسن، و كلّ عملٍ لا يراعي هذين المطلبين أو يهمل
أحدهما و يعتني بالآخر هو عمل يتعارض مع هدي الشريعة ابتداء، و الله يقول " و
ابتغِ فيما آتاكَ الله الدار الآخرةَ و لا تنسَ نصيبكَ من الدنيا" و هذه
الآية تجمع بين خيري الدنيا و الآخرة و بين حاجة النفس التي فطرها الله من متاع
الدنيا و الأخذ منه، و بين حاجة الروح و القلب الذي ينبغي أن يكون سليماً.
و
خلاصة الامر أن كل ممارسة تربوية تستبعد واجب العمل تجاه المجتمع هي ممارسة ستؤدي
بالحركة الى صفوف المتراجعين و ستسهم في تغييبها عن الواقع و الحياة ومن ثمة رسم
معالم حركة روحية لن تقوى على الصمود و مواجهة التحديات حتى لو امتلكت رصيدا
تربويا فرديا، و معادلة النصرة بالإيمان تتحقق بوجود مؤهلات الريادة في مجالات
الحياة و قنواتها في السياسة و الإعلام و الاقتصاد و غيرها.
كما
ينبغي الحذر من البرامج التربوية الارتجالية التي قد تصلح في مكان او زمان ما، و
لكنها في غيرهما لا تصلح،و الصواب لمن يعمل في حركة لها تاريخ و خبرة في العمل
الإسلامي أن ينزل الى البرامج التربوية الشاملة المتفق عليها، و لا تستهويه
الاجتهادات الفردية، التي يمكن أن تُسهِم بالبناء و لكن إذا لم تتعارض مع الأهداف
الجماعية المتفق عليها، و لم تكن بديلا عن البرنامج الجماعي و مناهجه المتنوعة
التي هي خلاصة تفكير جمعي، و إذا كان كل أحد يرى خللا و يضع برنامجا، فإنه بذلك
يستبدل العمل الإسلامي بفرديته التي لن تكون في أحسن حالاتها إلا اجتهادا و تصورا
من فرد قد يحالفه الصواب و قد لا يحالفه.
إن
العمل لا يمنع مبادرات فردية و لكن ينبغي أن تكون مؤطرة بهذا التصور و هو لا تقاطع
بين تزكية النفس ومتطلبات العمل في المجتمع، و أن مشكلتنا يجب أن لا تنحصر في
الخلل الذي قد يحصل في تعاملنا مع النفس او التامل مع المنهج الرباني المحدد ب(
القرآن والسنة).