الأمة والحالة (السيامية)
وسام الكبيسي
كاتب وباحث
لا شك أن تنظيم حياة الناس يمثل أولوية من أولويات
الوجود البشري وقيامه على صورة مجتمعات، كما إنه لا شك أن الإمامة والإمارة أمران
عظيمان يمتد أثرهما على المجتمع، دول وأفراد، وأمم وجماعات، ولا يمكن أن نتخيل
انتظام العيش واستقرار الحياة، إذا خليت حياة الناس من مجتمع يلازمه وجود إمامة
وإمارة، فبخلوها تحل الفوضى ويعدم الناس الأمن في كل مصاديقه.
وقد عني الإسلام بهذا الأمر كثيرا، وسعى إلى تنظيم حياة
المجتمعات في جوانبها الدنيوية والتعبدية، ودلَّ أتباعه عبر الوحيين إلى أنظمة
الكون من حولهم، ودعاهم إلى التفكر بها ليصبح النظام عنصرا من عناصر تكوينهم
وبقائهم.
فالكون من حولهم منظم، وقائم على مجموعات كل مجموعة تدور
حول قطب واحد، ثم تدور هذه المجموعات في مدار أكبر هو المجرة، ومن ثم تدور مجموعة
المجرات في مجال أوسع… وهكذا حتى تصبح كل المخلوقات في الكون في حالة تسبيح دائم وطاعة
كاملة لربها، وانصياع تام للقوانين التي أوجدها خالقها العظيم، فهي (جماعة) واحدة
تضم تحتها (مجموعات) تتكامل ولا تتصادم في أداء أدوارها في رسم صورة الجمال وصفة
الكمال في هذا الكون المنظور العظيم.
وإذا أضفنا إلى ذلك عددا كبيرا من الأدلة في الكتاب
المسطور، والتي تدعو إلى بناء الأمة المسلمة لتتمثل بالجسد الواحد والصف الواحد
والأمة الواحدة، وتأمرهم بالاعتصام والتمسك (جميعا)، وليس كجماعات، بـ(حبل) واحد،
وليس بحبال عديدة، كما قال ربنا تعالى "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا
تفرقوا…" (آل عمران: 103)، فإننا سنقف أمام مفارقة واضحة في حياة الأمة، وهي
ظاهرة تعدُّد وتنازع (الجماعات) التي تصدُر عن أصل واحد، وتنزع عن مرجعية إسلامية
واحدة.
إن تعدد الرؤوس على جسد واحد، أمر يحكم العقل والواقع
باستحالته، ولو قدر الله تعالى أن جاء مولود برأسين - عبر طفرة جينية - فإننا
سنكتشف أن المولود في الحقيقة يقوم على جسدين ومع ذلك فمن النادر لهذا المخلوق أن
يعيش، ولو عاش بعد عدة عمليات جراحية للفصل بين الجسدين (السياميين)، فسيكونان
مشوهين بنسبة ما.
تعدد رؤوس أم تعدد أطراف؟
الجماعات تقوم على رؤى متعددة، وأهداف مختلفة تسعى
لتحقيقها، ولكل جماعة قضيتها التي تناضل من أجلها، والتفرق على توصيف القضية
والاختلاف على الأهداف أو وسائل تحقيقها، أدت إلى تنازع دائما، وتصادم أحيانا، قاد
الأمة إلى الفشل، حيث ارتضت الجماعات أن تكون كالرؤوس المتعددة لجسد الأمة الواحد،
ولم يستطع جسد الأمة تحمل كل هذه الرؤوس دفعة واحدة، فبات ينازع الموت، وهم
"كل حزب بما لديهم فرحون".
لكن الجسد الذي لا يتحمل عدة رؤوس، نجده يحمل عدة أطراف،
بل لا تستقيم حياته إلا بها، وهي تتناغم في حركاتها وسكناتها مع الجسد، بما يصدر
من أوامر عامة من الرأس، وهذه الأطراف مع تنوعها في مهامها فإنها تتكامل في
أدوارها، فلا تعمل اليد اليمين إلا بمساعدة اليد الشمال، ولا تمشي الرجل اليمين
إلا مع الرجل الشمال، وتعمل اليدان إذا انتقلت بهما الرجلان، وهكذا الأمر مع أطراف
وأعضاء الجسد الواحد، كل يؤدي دوره التفاعلي داخل هذا الجسد الواحد، ليكون جسدا
(حيا).
الاختلاف سنة كونية، وطبيعة بشرية، والنصوص الربانية
تنزلت بما يراعي هذه الطبيعة البشرية، ويفسح المجال لاختلافات متعددة على صعيد
الفقه أو الفكر أو الذكر، ولكنها أرادت لهذه الاختلافات الطبيعية أن تتشكل لتكون
(مجموعات) كالأطراف والأعضاء بالنسبة
للجسد والرأس، وليس لتكون (جماعات) ورؤوس متنازعة فوق جسد واحد.
الإنسان عبارة عن رأس وجسد يتكون من أعصاب ودماء وأعضاء
داخلية وأطراف خارجية، والسر الأعظم هو تلك اللطيفة الربانية التي نسميها الروح
ولا نعرف سرها وكنهها وطبيعتها.
فالرأس في الأمة لأوامر الوحيين المقدسين، والكل بعد ذلك
يستجيب لأوامر الوحيين، والأمة من أصغر وظيفة فيها إلى القادة والأمراء في حالة
تكليف "تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من
سواهم" (حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي)، والمناصب فيها لأداء المهام
والتكامل الداخلي وليست للتشريف ولا للتفاخر، وغاية الجميع رضا الله تعالى، وبلوغ
الجنة ونعيمها.
وجموع الأمة هي الجسد الواحد، (تقاتُها وعصاتها)،
والتفاعل بين الجميع مطلوب لتستقيم حركة الحياة في الجسد، وأفكار علمائها هي
الأعصاب التي تقيس إحساس الجسد وتنبهه على مواضع الخلل، وآراء أفرادها هي الدماء
التي تتنقل في الجسد وتنقل التغذية والتغذية العكسية (feed & feedback)، من وإلى أصغر وأبعد عضو في الجسد.
أما (المجموعات)، كمصفوفات أو كُتل تفرضها الطبيعة
البشرية، فهي بمثابة الأطراف الخارجية التي لا يستقيم عمل الجسد إلا بها، ولا يكون
الجسد سليما كاملا إلا بوجودها، والسؤال الان، كيف تتحول هذه المصفوفات المجتمعية
من رؤوس (جماعات) متنازعة تُثقل جسد الأمة، إلى أطراف (مجموعات) تتكامل وتتفاعل
لخدمة جسد الأمة؟
إن ذلك يقوم على ثلاثة أمور نحتاج أن نتفق عليها وهي؛
- أن يكون الأخذ من مصدرية الوحيين الشريفين، مع
الاسترشاد بآراء الرجال وأفكار المجموعات بلا تقديس ولا تبخيس.
- الإتفاق على عقد اجتماعي - أو ميثاق عمل مشترك - يستند
إلى الوحيين الشريفين، ويَردُّ الجميع إليهما عند حصول الاختلاف .
- أن يبنى الولاء والبراء في الأمة على الهوية الجامعة،
وليس على هويات المجموعات الفرعية، بما يُدخلُ كل المؤمنين بالوحيين الشريفين -
على المعنى العام للإيمان - بتقاتهم وعصاتهم داخل دائرة الولاء العام للأمة
"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا…" (المائدة: 55)، ومعلوم أن
"الذين" من ألفاظ العموم، فيكون الإيمان المقصود هنا بمعناه العام دون
الخاص الذي يعني الأتقياء.
إن جسد الأمة بأعضائه وأطرافه ورأسه يبقى مفتقرا إلى
الروح لتدب فيه الحياة ويتحرك فيه النشاط، كما يفتقر جسد أحدنا إلى الروح، وبدونها
يعود جثة هامدة، والقرآن العظيم هو الروح لجسد الأمة، ليس باعتباره أوامر ونواهٍ
تنظم المسيرة وتصحح المسار فحسب، بل باعتباره روحاً ربانيا ونورا صمدانيا وسرا
إلهياً من أمر الخالق العظيم ينبغي أن نبقي قلوبنا على تواصل تام وتعلق دائم به.
وكما كانت أرواحنا من أمر الله "ويسألونك عن الروح
قل الروح من أمر ربي…" (الإسراء: 85).
كذلك كان القرآن روحا لجسد هذه الأمة من أمر الله
"وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن
جعلناه نورا نهدي به…" (الشورى: 52)، ولن تجتمع هذه الأمة إلا إذا اتفقت على
عودة الروح إلى الجسد بالتلاوة والتلقي والامتثال والتزكي.