د. عبد
الوهاب أحمد حسن
أكاديمي وباحث
إن
الحديث عن التجديد في علوم الشريعة ومن أهمها علم العقيدة أمر يحتاج إلى رؤية
ثاقبة وجرأة في الطرح، وقدرة على التحليل والنقد في آنٍ واحد.
ولا
أزعم هنا بأني أمتلك كل هذه الخصال، فلست قادراً ولا مؤهلاً لذلك؛ وهذا في الوقت
نفسه لا يعني عدم المحاولة وبذل الجهد في سبيل الوصول إلى الغاية والمقصود، وهو
مراجعة بعض ما تحتويه كتب العقائد القديمة، ومحاولة عرضها عرضا يناسب عصرنا الذي
يحتاج منا أن نفكر بأسلوبه المعاصر.
إن
من أهم ما امتاز به أسلافنا هو المراجعة والتدقيق والتجديد للعلوم التي اختصوا
بتصنيفها، فتارة يختصرون المطوّل، وتارة ينظمون المنثور، وتارة يشرحون المتون،
وتارة يضيفون الحواشي...
لقد
تصدى علماء الأمة من سلفها لدعاوى المبطلين وشبهات المشككين بهذا الدين، فدحضوا
حججهم، وردوا كيدهم وفنّدوا شبههم، وقاموا بالأمر حق القيام، فحمى الله تعالى بهم
دينه، وردَّ بهم أعدائه، فأثبتوا الحجة وأبانوا المحجة، وردّوا على الشبه التي
أثيرت في عصرهم بما يناسب تلك الأفهام في تلك الأيام.
ونحن
اليوم نواجه غزواّ جديداً وشبهاَ حديثة، وأفكاراّ معاصرة، ولكي نتمكن من تقديم
عقيدتنا الإسلامية الأصيلة بثوبها الجديد لتواكب هذه التيارات الهدامة المعاصرة
علينا تغيير بعض أنماط عرضنا لعقيدتنا التي هي في ذاتها لا تقبل التبديل ولا
النسخ.
وعنواني هذا: (تجديد علم العقيدة) لا أريد به
هدم القديم؛ بل توظيف القديم في خدمة الدين في عصرنا الحديث.
والتجديد
الذي أعنيه لا يقصد به تناول أسس العقيدة والاجتهاد فيها؛ لأن أصول العقائد لا
تتبدل ولا يطرأ عليها التغيير، فهي أصول ثابتة، إنما المراد صياغة القديم بثوبٍ
جديد يناسب مدارك وأفهام المعاصرين.
وكل
ذلك مبني على الإفادة من تراث علمائنا في إثبات العقائد والتدليل عليها، ودحض
الشبه وإبطالها.
أولا:
تعريف التجديد
1_ التجديد لغة:
الجديد
ما يقابل القديم، ويطلق التجديد ويراد به: إعادة القديم إلى ما كان عليه.
قال
ابن منظور: ((تجدّد الشيء يعني صار جديداً، وجدّده أي صيّره جديداً. والجديد نقيض البالي.
فيقال "بلى بيت فلان ثم أجدّ بيتاً من شعر" أي أعاد بناءه. ويقال
"جدّد الوضوء" أي أعاده، "وجدّد العهد" أي كرّره وأكده))([1]).
ولقد
استعمل مصطلح التجديد في الفكر الإسلامي أخذاً من الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو
داود في سننه عن أبي هريرة t عن رسول الله r: «إِنَّ الله يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَة عَلَى رَأْسِ كُلِ
مَائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدّدُ لَهَا دِينَهَا»([3]).
2_
التجديد اصطلاحاً:
والمعنى
الاصطلاحي لا يبتعد عن اللغوي كثيراً، فيحمل معنى التكرار، والإعادة والتحديث.
قال
العظيم آبادي: ((وإنما كان التجديد على رأس كل مائة سنة لانخرام العلماء فيه
غالباً، واندراس السنن وظهور البدع، فيحتاج حينئذ إلى تجديد الدين، فيأتي الله
تعالى من الخلق بعوض من السلف إما واحداً أو متعدداً)) انتهى. وقال القاري في
المرقاة: ((أي يبين السنة من البدعة ويكثر العلم ويعز أهله ويقمع البدعة ويكسر
أهلها)). انتهى.
فظهر
أن المجدد لا يكون إلا من كان عالماً بالعلوم الدينية، ومع ذلك من كان عزمه وهمته
آناء الليل والنهار إحياء السنن ونشرها، ونصر صاحبها، وإماتة البدع ومحدثات الأمور
ومحوها، وكسر أهلها باللسان أو تصنيف الكتب والتدريس أو غير ذلك، ومن لا يكون كذلك
لا يكون مجدداً البتة وإن كان عالماً بالعلوم مشهوراً بين الناس، مرجعاً لهم)([4]).
يقول
الدكتور بسطامي محمد سعيد: ((والمراد بتجديد الدين: إحياء معالمه العلمية والعملية
التي أبانتها نصوص الكتاب والسنة وفهم السلف))([5]).
ويقول
الدكتور بسطامي:
((ومما
سبق يتبيّن أن التجديد في أصل معناه اللغوي وفي استعماله النبوي يدل على الإحياء
والبعث والإعادة، وأن هذا المعنى يكوّن في الذهن، كما بين بسطامي محمد سعيد،
تصوراً تجتمع فيه معان ثلاثة يستلزم كل واحد منها الآخر:
الأول:
أن الشيء المجدّد قد كان في أول الأمر موجوداً وقائماً، للناس به عهد.
الثاني:
أن هذا الشيء أتت عليه الأيام فأصابه البلى وصار قديماً.
الثالث:
أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى))([6]).
وبناءً
على هذا المفهوم اللغوي بنى بعض العلماء المعاصرين تعريفهم لمفهوم التجديد. يقول
الدكتور يوسف القرضاوي: ((إن التجديد لشيء ما، هو محاولة العودة به إلى ما كان
عليه يوم نشأ وظهر بحيث يبدو مع قدمه كأنه جديد. وذلك بتقوية ما وهِيَ منه، وترميم
ما بلى، ورتق ما انفتق، حتى يعود أقرب ما يكون إلى صورته الأولى))([7]).
ويقول
جمال سلطان: ((إن التجديد في مجال الفكر، أو مجال الأشياء على السواء، هو أن تعيد
الفكرة أو الشيء الذي بلى أو قدم إلى حاله الأولى))([8]).
لكن
الجدير بالملاحظة أن مصطلح التجديد في الساحة الفكرية الإسلامية قد شابه بعض
الغموض، وعدم الضبط، لاكتسابه من خلال التداول العام معنى الإلغاء والتجاوز.
وإذا
بحثنا عن الأسباب التي حمّلت مصطلح التجديد هذا المعنى، بل وجعلته المعنى المتبادر
إلى الذهن عند إطلاقه عند بعض الباحثين، نجدها تنحصر في عنصرين:
1.
عدم
اشتهار مصطلح التجديد في تراثنا الإسلامي.
2.
بروز
مصطلح التجديد في الفكر الإسلامي الحديث في مرحلة بدأت تتسرّب فيها المنهجية
العلمانية إلى حياتنا الفكرية والمعرفية والقيمية والفنية، فشاع استعماله الحديث
عند بعض مفكري الإسلام الذين يقتربون في نسقهم الفكري من القيم والمناهج الغربية.
فأصبح
بعضهم يتوجس من هذا المصطلح خيفة، لأن التيار العلماني استطاع تأميمه وتعبئته
بمضامين جعلته رمزاً لتجاوز الشريعة([9]).
ثانيا: تعريف العقيدة لغة واصطلاحاً
1_ تعريف العقيدة لغة:
أصل كلمة العقيدة من العقد والشّدّ, قال الجوهري: ((عقدت
الحبل والبيع والعهد، فانعقد. وعقد الرُّب([10]) وغيره، أي غلظ، فهو عقيد. وأعقدته أنا وعقدته
تعقيدا))([11]).
قال ابن فارس: ((العين والقاف والدال أصلٌ واحدٌ يدلُّ
على شَدٍّ وشِدّةِ وُثوق، وإليه ترجعُ فروعُ البابِ كلها))([12]).
وقال الزبيدي: ((الذي صرح به أئمة الاشتقاق أن أصل العقد
نقيض الحل..، ثم استعمل في أنواع العقود من البيوعات وغيرها، ثم استعمل في التصميم
والاعتقاد الجازم))([13]).
والخلاصة: أن العقيدة هي ما انعقد عليه القلب، وصدّق به
واطمأن اليه وأصبح يقيناً عنده لا يمازجه ريب ولا يخالطه شك.
2_ تعريف العقيدة الإسلامية اصطلاحاً:
إن مصطلح عقيدة إسلامية لم يرد في القرآن الكريم ولا في
السنة المطهرة، ورغم ذلك شاع استخدامه، ولاسيما في العصور المتاخرة للدلالة على
الأبحاث المتعلقة بمسائل الإيمان، ولا مشاحة في الاصطلاح ما لم يؤد إلى مفسدة، وقد
عرف أهل العلم هذا المصطلح بعدة تعريفات منها:
ما ذكره الآيجي بقوله هو: ((علم يقتدر معه على إثبات
العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس
الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد عليه الصلاة والسلام))([14]).
وعرفت: بأنها الحكم الجازم المطابق للواقع الحق([15]).
ويمكننا عموما تعريف العقيدة الاسلامية: بأنها جملة من
الأصول والحقائق الإيمانية التي جاء بها الشرع ودعا الإنسان الى التصديق والاعتقاد
بها، والجزم بصحتها سواء كان منشأ تلك الأصول السمع أم العقل أم الفطرة أم هذه
جميعاً، إيمانا لا يرقى إليه شك ولا تزعزعه الشبهات.
ثالثا:
معنى تجديد العقيدة:
بعد
تعريف كلٍ من لفظي التجديد والعقيدة، أخلص إلى معنى هذا اللفظ المركب: تجديد
العقيدة فأقول:
هو
إحياء الإيمان في النفوس، واليقين في القلوب، والعودة بهما إلى ما كان عليه
الصحابة والتابعون، عن طريق الأدلة العلمية وتجديد طرق الاستدلال على الإيمان
بالله تعالى لتجمع بين الثبات والمرونة من غير أن تمس أركان الإيمان وثوابته.
رابعا:
لماذا التجديد؟
وقبل
الخوض في مسائل العقائد أود إيضاح أمر مهم وهو: لماذا التجديد؟
وللإجابة
على هذا السؤال أقول:
-
التجديد
ضرورة، لأن هذا الدين خالد، ومن عوامل خلوده ومتطلبات خلوده: التجديد.
-
التجديد
ضرورة؛ لأن النصوص محدودة والوقائع والحوادث غير متناهية، فلزم أن يتجدد الفهم
لهذا النصوص التي تقبل التجدد، وأعني بها هنا: غير القطعية، والتي يمكن لأهل العلم
الاجتهاد فيها بالفهم والتأويل.
يقول
الشاطبي: ((فلأن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة،
ولذلك احتيج الى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا بد من حدوث وقائع لا تكون
منصوصا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك فإما أن يترك الناس
فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضاً اتباع للهوى، وهو معنى
تعطيل التكليف لزوماً، وهو مؤدٍ إلى تكليف ما لا يطاق، فإذن لا بد من الاجتهاد في
كل زمان، لأن الوقائع لا تختص بزمان دون زمان))([16]).
-
والتجديد
ضرورة لأن تقادم الزمن وبعد الناس عن عصر الوحي يؤدي إلى تغير المفاهيم، ووقوع
الإنحراف في الفهم والتطبيق.
-
والتجديد
ضرورة، لأن الصراع مع الباطل مستمر، وأساليب أعداء الدين متنوعة متجددة، فكان لابد
من تجديد وسائل أهل العلم لتضارع وسائل أعدائهم وتوازيها.
-
والتجديد
ضرورة ليبقى هذا الدين صالحاً لكل زمان، وكي لا يوصف بالجمود والتخلف، فيستوعب كل
المستجدات، وبمرونته يحتوي كل المتغيرات، فهو الدين الخالد، والشريعة الباقية.
خامسا:
ضوابط التجديد:
ليس
التجديد في الدين هو التبديل، ولا التلاعب بالثوابت، وحتى لا يفهم بعض الناس
الدعوة إلى التجديد أنها تنَّكّر لكل قديم، أو تنصل عن ثوابت الدين، أرى أن تكون
هناك ضوابط وشروط للتجديد الذي ننشده، وهي باختصار كالآتي:
1-
لا
يكون التجديد في قضايا العقيدة التي لا مجال للعقل فيها.
2-
لا
يكون التجديد في الحقائق الإيمانية والأخبار الغيبية، فأركان الإيمان الستة، وأن
الدين المرضي عند الله سبحانه هو الإسلام، والإيمان بالغيبيات واليوم الآخر،
والجنة والنار، كلها أمور غيبية لا نقاش فيها.
4-
لا
يكون التجديد في الأخلاق والفضائل العامة، فهي ثابتة لا يطرأ عليها النسخ ولا
التغيير.
5-
لا
يكون التجديد في القطعيات كالحدود والمقدرات من الأحكام، كعدد الجلدات، وأنصبة
الزكاة، وأحكام الميراث التي وردت النصوص بها.
6-
ومما
يشترط للذي يتصدى للتجديد في العقيدة، أن يكون عالماً معروفاً بصفاء العقيدة،
وسلامة الدين، والصلاح، فلا تُقبل دعوى التجديد ممن عُرف بالفسق والانحراف في
الفكر، والابتداع في الدين مما يخالف فيه جمهور المسلمين.
7-
أن
يكون التجديد مما يحتاج إليه المسلمون من أهل زمانه، ويعُم نفعه، ولا يقبل ممن
يقدمه إرضاء لجهة ما، داخليةٍ، أو خارجيةٍ.
وفيما
عدا ذلك فكل ما لم يكن قطعياً، ولا معلوماً من الدين بالضرورة، فهو محل اجتهاد
ونظر.
هذا
فيما أرى والله أعلم، فما كان فيه من صواب فبتوفيق الله تعالى، وما كان فيه من خطأ
وخلل فمن نفسي، والله ورسوله منه براء.
وصلى
الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
([3]) ينظر: صحيح
سنن أبي داود، مكتب التربية العربي لدول الخليج- الرياض، كتاب الملاحم، باب ما يذكر
في قرن المائة، برقم 4270 ورمز له الشيخ ناصر الدين الألباني بالصحة، ط1، 1989م،
3/809، حديث رقم3606، وينظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، حديث رقم 599، وصحيح الجامع
الصغير (بيروت: المكتب الإسلامي، 1986م) حديث رقم 1874.
1 التعليقات:
التعليقاتالسلام عليكم محتاج التواصل مع د. عبد الوهاب أحمد حسن ربي يجزيكم الخير .
رد