باحث
وأكاديمي
كثيراً من توقفت عند العنوان الذي
اختاره المفكر الكبير الدكتور عماد الدين خليل رعاه الله لأحد كتبه وهو ( إعادة
تشكيل العقل المسلم ) .
ولفت انتباهي أن عقولنا من الممكن أن
تكون قابلة للتطويع والترتيب والتعديل أو ( التشكيل ) بحسب تعبيره استاذنا ، وذلك
ــ وكما تضمنت مقدمة الكتاب للقدير عمر عبيد حسنة ــ بهدف اعادة صياغة وترتيب
العقل العام لمسلم اليوم ، وتخلصه من النظرات الجزئية المتناثرة ، وعجزه عن مواجهة
مشكلاته ، وتحدياته الداخلية منها والخارجية على حدٍ سواء على ضوء رؤية إسلامية
ذات اخلاص وصواب ، ودراية وفقه .
والحقيقة أن هذا الموضوع من الأهمية
بمكان ، ولا سيما في مسار إعادة الفاعلية لأمتنا لممارسة دورها المنشود ، فالكثير
من الاخفاقات التي تواجهنا تقف وراءها عجزنا عن التمثل لمراد الله من إشغال عقولنا
بعيداً عن التلقين والتلقي دونما ادراك ووعي .
في كتابه الممتع الرائع ( التعليم
الديني بين التجديد والتجميد ) يصحبنا الاستاذ الكبير الدكتور طه العلواني عافاه
الله في رحلة فكرية تاريخية تبين مراحل تشكل عقله الثر خلال عقود عمره المبارك
بدءأ من موطن الصبا الفلوجة العزيزة ، مروراً ببغداد ومصر وأمريكا ، وانتهاءً بمصر
من جديد حيث يقيم اليوم ويواصل العطاء !
وكل ذلك يصلح ان يكون أنموذجاً معاصراً
مفيداً للغاية ، يحفزنا من جهة ، ويمنحنا الثقة بالقدرة على إعادة انتاج تلك
الأمثلة المتميزة من رموز أمتنا الذين يشار إليهم بالبنان ، مع ملاحظة مهمة وهي
إني لن أقف كثيراً عن بعض المضامين الفكرية والآراء التي قد يختلف معها البعض ،
ولكن يهمني فقط الوقوف عند مراحل التطور الفكري للرجل .
وابتداءً .. يقول العلواني إلى إنه ((
قد يصاب بعضهم بنوع من الدهشة عندما يعلم أنني درست في الكتاب ( الملا ) ومدرسة
المسجد ، ونلت كل شهاداتي من الأزهر ، ولم أسكن الغرب إلا بعد أن بلغت درجة (
الأستاذ ) وجاوزت الخامسة والأربعين )) ص 24.
ويشير إلى أهمية الدراسة لدى ( الملا )
إذ تعد (الكتاتيب) والتي تمثل بحسب وصفه أرخص مدرسة لتلك المرحلة على وجه الأرض
وأكثرها فاعلية ، ففيها تعليم يتميز بغاية البساطة واليسر والخلو من التعقيد ، إذ
يخرج هؤلاء الطلاب بعد سنتين وقد تعلموا القرآن والقراءة والكتابة والحساب وشيئاً
من علوم اللغة العربية ، وبذلك يستطيعون أن يحيوا حياة طيبة في محيطهم ، ويكونوا
قادرين على القراءة وتنمية قدراتهم إن وجدت بين أيديهم كتب ووسائل أخرى ( ص 17) .
ويبين العلواني أن ( المسجد ) مثل محطة
مهمة في طريق التقدم العلمي ، وبحدود واضحة المعالم ، تلك التي تمنح المرء القدرة
على امتلاك مؤهلات الإمامة والخطابة ومقدار جيد من العلم الشرعي دون الوصول إلى
ميادين الفتوى !
أما بغداد ، فنجده يؤشرها مرحلة
وانتقالة جديدة ، دفعته للمقارنة بحسب التحولات التي رآها على شيوخها وعلمائها ،
ففي بغداد (( هؤلاء المشايخ لم يكونوا بحكم عيشهم في مدينتهم بغداد مثل شيخي
بمدينتنا الصغير ــ الشيخ عبد العزيز السامرائي في حرصه ومواظبته وارتباطه بطلابه
ــ على جلالة أقدارهم وتفوق بعضهم على شيخنا عبد العزيز في العلم ... واستطيع أن
أقول حينما أرجع إلى تلك السنوات إنه قد بدأت تنمو عندي حالات المقارنة بين مات
كان يقوله شيخي الأول في الفلوجة ، وبين ما يذهب إليه هؤلاء المشايخ ، والتساؤل
والمقارنة جرتني إلى نوع من النقد )) ( ص 31 ــ 32 )
ونجد هذا العقل السائر في التشكل يزداد
خبرة ورصانة وجرأة ، فيقول إن العراق حين التعامل مع الاحزاب الشيوعية وقت عبد
الكريم قاسم ، كان هو يرى أن هذا (( النوع من المشاكل لا يحل بالفتاوى ! فلن نسقط
الشيوعية بفتوى ... ولم أكن مثل غيري أحارب الفكر بالفتاوى ، ولكني اجلس مع
الشيوعي والبعثي والعلماني واستمع إليهم وأحاور كلاً منهم في مذهبه وفي معتقداته
ونتجاوز المرحلة السطحية والعاطفية إلى مرحلة لا استطيع أن أقول علمية ولكن على
الأقل فيها بعض المالك التي نكون قد حصلنا عليها من خلال قراءتنا ودراستنا لكتبهم
ومطبوعاتهم ، وبطبيعة الحال كنا نقرؤها لنطلع على معتقدات وفكر الغير ، ولكن كان
لها آثار داخلية تجعلنا في بعض الأحيان وخاصة عندما لا نكون تحت ضغط نقاش أو سجال
معهم تجعلنا نعيد النظر في كثير من الأمور التي درسناها أو ندرسها !! )) ( ص 43 ــ
44 )
وفي مصر ، كان على موعد مع انتقالة
أخرى ، فيقول : (( انفتحت أمامي في مصر آفاق أخرى لم تكن مفتوحة في بغداد رغم أن
نمو الحاسة النقدية بلور عندي كثيراً من التساؤلات التي كانت قد ظهرت في بغداد
أولاً ، ولكن دراستي في مصر .. كان لها أثر كبير في تطوري الفكري ... وبذلك وجدت
عندي نوعاً من الحس النقدي قد بدأ ينمو ويزداد وينتعش ، وأخذت أمارس هذا النقد
فيما أقرأ .. بدأت أدرك أن هناك مشكلات في العلوم النقلية تحتاج إلى مراجعة
ومعالجة)) ( ص 35 ــ 36 )
(( لما تخرجت وحصلت على الدكتوراه
وعايشت الإمام الرازي لمدة أربع سنوات وأنا أعد لنيل درجة الدكتوراه في تحقيق
كتابه الأصولي المحصول جرّني ذلك إلى قراءة تراجم لسبعمائة أو ثمانمائة عالم من
علماء المسلمين الذي ذكرت أسماؤهم في الكتاب ، وهذا قد فتح لي نوافذ على قراءات
أخرى لمعرفة مواقف هؤلاء العلماء ، وبدأت تتكرس عندي نزعة النقد والمعيارية
والمقارنة والموازنة والنظر في المآل والمقدمات والربط بين المقدمات والنتائج إلى
غير ذلك )) ( ص 50 ــ 51 ) .
كل تلك المراحل ، نجدها تطبع العلواني
بخصائصها فكأنه هنا ليس هو هناك ، وهو ما حصل حين انبثقت فكرة تأسيس المعهد
العالمي للفكر الإسلامي ، فكان له هدف وهو (( كيفية اخراج الاجتهاد من المفهوم
الفقهي الاصولي الضيق إلى أن نجعل منه من جديد حالة فكرية وعقلية ونفسية للأمة ،
وأن ندمج بينه وبين الابداع بحيث يصبح هناك لدى الأمة وعي يجعلها قادرة أن تمارس
دورها العقلي والفكري في معالجة أزماتها )) ( ص 55)
كما إن الجو الجديد جعله يحتك بمنافذ فكرية
واسعة ومختلفة ، فيقول : (( عملي في البحوث والدراسات فتح أمامي نوافذ عديدة على
العلوم الاجتماعية والإنسانية ، بل والطبيعية والفلسفية وغيرها ، لأنه لا يمكن أن
نثري دراسات منهجية إذا أهملنا هذه العلوم )) ( ص 57 )
إن هذه النقولات المهمة رأيت من
الضروري الوقوف عندها ، وهي لا تغني عن قراءة أصل الكتاب بطبيعة الحال ، فيها درس
بليغ حول كيفية انضاج العقل والفكر وبنائه واغنائه بالتجارب ، حتى وصوله للمستويات
القادرة على التأثير والعطاء .
إن التأسيس الصحيح لمرحلة التغيير
المنشودة ، لن يكون مع عقل مسلم مصاب بكسور خطيرة ــ كما يصفه الدكتور عماد الدين
خليل ، ولذلك بات التأكيد على إعادة التشكيل العقلي في الإطار الإسلامي ضرورة ملحة
وأمراً محتوماً .