د. عبد الكريم العاني
أكاديمي وباحث
أعني هنا بالقواعد الأساسية: هي
القواعد التي تكون الأساس للدولة الإسلامية التي تحكم بشريعة الإسلام، لأن الشرع
كفيل بتحقيق متطلبات السياسة العادلة، فلا يضيق عن حاجة، ولا يقصر عن إدراك مصلحة،
فلا تكون السياسة؛ سياسة شرعية إلا بالخضوع الكامل للخالق U،
ولكون الفرد المسلم اللبنة الأساسية للمجتمع الذي تتعلق به الآمال وتتشوف إليه
الرؤى، فلا بد أن تكون له رؤية موافقة للشرع ينوب عنه مجموعة من ذوي الحِجى وأولي
الأمر والنهى لما يستجد من الوقائع فلابد من وجود تشكيل معين يقوم بهذه المهمة،
أطلق عليه مجلس الشورى، كذلك فلابد من طاعة ولي الأمر في تطبيق الشريعة الإسلامية
بالعدل والمساواة ، وفي هذه الحلقة سنتعرض لقاعدة الحاكمية لله .
نعني هنا
بالحاكمية لله إن الكون بما فيه مخلوق من مخلوقات الله U،
فالله U هو المالك
الذي يتصرف في ملكه كيفما يشاء، ونحن المسلمين مكلفون بالعمل بما في كتاب الله
سبحانه وتعالى وسنة نبيه محمد r، ففي القرآن
الكريم آيات وإشارات صريحة وغير صريحة تتكلم عن الحكم، والملك، والاستخلاف،
والقضاء، والحرب، والسلم، والشورى، والعدل والمساواة، والطاعة... الخ، ألا ترى أن
الله U يقول: } وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى
وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{ ([1])، صحيح أننا لا نجدها باللغة الاصطلاحية للقرن الواحد والعشرين، بل هي
بلغة القرآن الكريم، وكما يقال العبرة بالمسميات لا بالأسماء.
لأجل ذلك
كان مرجع الفقهاء في السياسة الشرعية إلى الحاكم الأوحد الله U،
وقد ذكر القرآن الكريم آيات عدة تدل على هذا المفهوم منها قوله U:
} وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ([2]){،
وقوله أيضاً عز من قائل: } وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{([3])، وقوله
أيضاً جل جلاله في السورة نفسها: } وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{([4])، ويوضح ذلك
خطاب الله عز وجل لحبيبنا محمد r بقوله : } وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ{ ([5])، فإن كانت الآيات الثلاث الأُوَل خطاباً لليهود والنصارى، إلا أنها
خطاب لنا أيضاً بدليل الآية الأخيرة المخاطب بها رسول الله r،
وهي خطاب لنا أيضاً.
ولم يخل
كتاب إلا ما ندر عن تعريف الحاكم إلى جانب الحكم والمحكوم به والمحكوم فيه، ففي
تصوري أن هذا المصطلح ليس جديداً، إنما الجديد هو نفس المصطلح (الحاكمية لله)،
بمعنى أن علماء الأصول رحمهم الله تعالى قد عرفوا الحاكم بأنه:الْمُخَاطِبُ، قال
الغزالي رحمه الله تعالى: "فَإِنَّ الْحُكْمَ خِطَابٌ وَكَلَامٌ فَاعِلُهُ
كُلُّ مُتَكَلِّمٍ , فَلاَ يُشْتَرَطُ فِي وُجُودِ صُورَةِ الْحُكْمِ إلاَّ هَذَا
الْقَدْرُ.
أَمَّا اسْتِحْقَاقُ نُفُوذِ
الْحُكْمِ فَلَيْسَ إلاَّ لِمَنْ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ , فَإِنَّمَا
النَّافِذُ حُكْمُ الْمَالِكِ عَلَى مَمْلُوكِهِ لَا مَالِكَ إلَّا الْخَالِقُ
فَلَا حُكْمَ وَلاَ أَمْرَ إلاَّ لَهُ أَمَّا النَّبِيُّ r وَالسُّلْطَانُ وَالسَّيِّدُ وَالْأَبُ وَالزَّوْجُ فَإِذَا أَمَرُوا
وَأَوْجَبُوا لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ بِإِيجَابِهِمْ بَلْ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى
طَاعَتَهُمْ, وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ أَوْجَبَ عَلَى غَيْرِهِ
شَيْئًا كَانَ لِلْمُوجَبِ عَلَيْهِ أَنْ يَقْلِبَ عَلَيْهِ الْإِيجَابَ, إذْ
لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ.
فَإِذًا الْوَاجِبُ طَاعَةُ اللَّهِ
تَعَالَى وَطَاعَةُ مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى طَاعَتَهُ"([6]).
يفهم من هذا الكلام أن هناك ضابطاً
أصوليا ليس لأحد أن يمتنع عنه، مستنبطا ذلك من قوله تعالى: } أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ{([7])، ومن قوله U
أيضاً: } إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا
لِلَّهِ{ ([8])، وفي ذلك يقول الإمام الزركشي([9]) رحمه الله
تعالى: " [لاَ حَاكِمَ إلاَّ الشَّرْعُ ] إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ
الْحُكْمَ خِطَابُ الشَّرْعِ فَلاَ حَاكِمَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ إلاَّ الشَّرْعُ
خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. حَيْثُ حَكَّمُوا الْعَقْلَ"([10])،
وإن كان هناك من قال بأنه: " لا خلاف إن الحاكم هو
الله تعالى"([11])،
بمعنى إن المعتزلة أيضاً يقرون بأنه لا حاكم إلا الشرع، "فليس لأحد أن يقول
إلا من جهة علم مضى قبله، وجهة العلم بعدُ: كتاب الله، والسنة، والإجماع، والآثار،
وما وصفت من القياس عليها([12])، "فالْحَاكِمُ فِي الْمَسْأَلَةِ
الِاجْتِهَادِيَّةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ إلاَّ
بِالصَّوَابِ فَالْحُكْمُ الْمَنْسُوبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ
الَّذِي لاَ يَحُومُ حَوْلَهُ الْبَاطِلُ وَمَا وَقَعَ مِنْ الْخَطَأِ
لِلْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ حَقِيقَةً بَلْ ظَاهِرًا، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي
ذَلِكَ"([13]).
كذلك يوضح
هذه الحقيقة إن من حقائق التوحيد الثلاثة([14]): ألا
تبتغي غير الله حكماً بدليل قول الله تعالى: }أَفَغَيْرَ
اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ
مُفَصَّلاً{ ([15]).
([9])هو
العلامة الهمام الفذ محمد بن عبد الله بن بهادر أبو عبد الله بدر الدين الزركشي
الشافعي التركي الأصل، الفقيه الأصولي المحدث الأديب، صاحب التصانيف النافعة، ولد
سنة خمس وأربعين بعد السبعمائة للهجرة، من مصنفاته البحر المحيط، وتشنيف المسامع
شرح جمع الجوامع، وغيرها، توفي رحمه الله تعالى سنة أرع وتسعين بعد السبعمائة
للهجرة.
ينظر::
ابن قاضي شهبة: طبقات الشافعية، 3/167؛ ابن حجر: الدرر الكامنة، 5/135.
ينظر::
القرضاوي: السياسة الشرعية، ص19.