محمد
حميد رشيد
تتطور (المصطلحات) كما تتطور الكثير من
الأشياء والمفاهيم والعلوم والثقافات ؛ فقد يبدأ (المصطلح) وهو يحمل معناً حرفياً
(نصياً) لغوياً محدداً ثم يتطور هذا المعنى ويتحرك بتطور الحياة وتعقدها وبتطور
المستجدات الفكرية والحاجة إلى التوسع المفاهيمي وقد يخرج عن الأصل اللغوي إلى
معنى إصطلاحي جديد ومتجدد هو الآخر .
وإذا كان من الظلم أن نجرد
المعنى المصطلحي إلى المعنى اللغوي البحت فإن من الظلم الأكبر والتعسف أن نضع
المعنى اللغوي المجرد أمام (المصطلح الشرعي )! نحن نظلم الشريعة حينما نضعها أمام
(النقيض المصطلحي) حينما نرفض المعنى اللغوي للمصطلح ونظلمها حينما نترك المسألة
عائمة من دون أي (مصطلح بديل) واضح وعملي ومتفق عليه وليس مجرد إجتهاد شخصي أو
نشاط فكري إنساني مجرد ثم نضفي عليه الشرعية الملزمة . كما إننا نظلم المعنى
المصطلحي حينما نجرده إلى المعنى اللغوي البحت الذي قد لا يمت له بصلة عملية .
الديمقراطية نموذجا
وعلى سبيل المثال نجد أن
لفظة (الديمقراطية) كمصطلح تطور كثيراً من المعنى اللغوي إلى المفهوم المصطلحي ثم
تطور في المعنى الإصطلاحي أيضاً .
فالمعنى اللغوي لل(الديمقراطية)
هو حكم الشعب وهي مشتقة من المصطلح الإغريقي δημοκρατία (باللاتينية: dēmokratía) و يعنى "حكم الشعب" لنفسه ، وهو مصطلح قد تمت صياغته
من شقين δῆμος
( ديموس ) " الشعب" و κράτος ( كراتوس ) "السلطة" أو " الحكم " في القرن
الخامس قبل الميلاد . والمصطلح مناقض ل ἀριστοκρατία (أرستقراطية) وتعنى " حكم نخبة ". بينما يتناقض هذين
التعريفين نظرياً ، لكن الاختلاف بينهما قد طمس تاريخياً . فالنظام السياسي في
أثينا القديمة ، على سبيل المثال ، منح حق ممارسة الديمقراطية لفئة النخبة من
الرجال الأحرار واستُبعد العبيد والنساء من المشاركة السياسية.
والنقيض المعاصر للديمقراطية هو
(الدكتاتورية) أو حكم الأقلية أو حكم الفرد .
وينصرف قسم (غير قليل) من
الإسلامين إلى الأخذ بالمعنى اللغوي المباشر للمصطلح والتركيز عليه (تمت صياغته في
القرن الخامس قبل الميلاد) وهو (حكم الشعب) دون المعنى اصطلاحي المتغير والمتطور
ويجعله النقيض (لحكم الله) ويستشهدون بالآيات :
آية 57 من سورة الأنعام : قُلْ إِنِّي
عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ ۚ مَا عِندِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ
وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ .
آية 62 من سورة الأنعام : ثُمَّ
رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ
أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ .
آية 40 من سورة يوسف : مَا
تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم
مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ
أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ .
آية 67 من سورة يوسف : وَقَالَ
يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ
مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ .
آية 70 من سورة القصص : وَهُوَ
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ
وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
آية 88 من سورة القصص : وَلَا
تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ
هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
آية 12 من سورة غافر : ذَٰلِكُم
بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ۖ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ
تُؤْمِنُوا ۚ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ .
وبالرغم من إن معنى
(الحكم) يختلف من آية إلى أخرى (حسب تفسير الآيات) وبغض النظر عن معنى (حكم الله)
عز وجل المعني في الآيات الكريمات وآلياته وتفاصيله فإن (الديمقراطية) قطعاً ليست
(نظام حكم) كما يدل عليه المعنى (اللغوي) للمصطلح بل هي وسيلة لإختيار وإقرار
نوع نظام الحكم (شكل الحكم) وهنا يتضح الفرق الكبير بين المعنى الإصطلاحي والمعنى
اللغوي المباشر !
الديمقراطية تعيد الحق للشعب
(بموجب العقد الإجتماعي) في إختيار نوع الحكم الذي يريده عبر إختيار ممثليه فهو
يستطيع إختيار الإسلاميين مثلاً إن أحب أن يكون نوع الحكم إسلامياً أو يختار
القوميين إن أحب أن يكون نوع الحكم قومياً ؛وهكذا وكل يتحمل مسؤولية قراره
وإختياره حسب قناعته وإيمانه ! (وحسب الإسلاميين هناك مسؤولية شرعية على الناخب
عند إختيار ممثليه أشخاصاً أو أحزاباً).
بل قد نجد في بعض الأحيان أن
(الشعب) قد تحول إلى (أداة) من أدواة الممارسة الديمقراطية وليس غاية لها خصوصاً
حينما نقيد المفهوم المصطلحي للفظة (الشعب) أو نقيد شروط (الناخب) أو شروط
(المُنتخب ـ المرشح ـ) أو شروط وآليات الإنتخاب وهكذا نقيد أو نطلق مفهوم
الديمقراطية عبر تقييد المفاهيم الأخرى المقترنة أو المرتبطة بها فهو مصطلح مقيد
بمفاهيم ومصطلحات مكملة تعطيه شكله النهائي. وهكذا نجد أن المعنى (اللغوي)
مناقضاً في بعض الأحيان للمعنى (الإصطلاحي) وإن المعنى الإصطلاحي معناً غير مقيد
ويحتمل التأويل والفهم المختلف وهو يتطور ويتكامل وينمو بفعل عوامل خارجية متعددة
.
ومع هذا فإن المعنى
الإصطلاحي العام لل(الديمقراطية) المعاصرة هو التداول السلمي للسلطة عبر
آليات تمنح الأمة (والأفراد)حرية إختيار (نوع) الحكم الذي يريده أو تغييره (عبر
إختيار أو إقالة الحكام). وهذا يعني (مشاركة الأمة) في تولي شؤونها . وتتخذ هذه
المشاركة صور مختلفة للديمقراطية منها : [الديمقراطية المباشرة والديمقراطية الغير
مباشرة والديمقراطية الشبه المباشرة والديمقراطية الشعبية والديمقراطية الوسطية
والديمقراطية الليبرالية ...الخ] . ويعدد (ديفيد هيلد) في كتابه (نماذج
الديمقراطية)أنماط ونماذج أخرى للديمقراطيات وكذلك كتاب (الديمقراطية) ل(لاري
دياموند ومارك بلتز) ومنها [الديمقراطية الكلاسيكية وديمقراطية الجمهورية الحامية
والديمقراطية اللبرالية وهناك الديمقراطية التعددية والتعددية الجديدة
والديمقراطية التشاركية...]
وهكذا نخلص إلى القول أن ليس
لمفهوم (الخاص) للديمقراطية (على سبيل المثال) معنى محدد ودقيق بل هو مصطلح متغير
ومتطور ومتشعب أما كون الدولة عادلة أو نزيهة أو ناجحة أو فاشلة أو فاضلة فلا تحدد
(الديمقراطية) ذلك وإن كانت {(محاولة) لإختيار الأفضل} أو من تراه الأمة الأفضل
لحكمها وقد تفشل الأمة في هذا الإختيار فيكون أمامها خيار إقالة الحكومة أو حل
البرلمان على سبيل المثال لذا فهي السبيل الأفضل (لحد الآن) في تداول السلطة
بالطرق السلمية وعلى رأي تشرشل ((أقل الوسائل سوءًا في الحكم)؟!).