د. صباح الكبيسي
أكاديمي وباحث
لكلمات الاولياء والصالحين والربانيين نور وتأثير لا
تجده في كلام غيرهم، والسبب انهم يقتبسون من كتاب الله ومن مشكاة النبوة الشريفة
فهم حفظوا كتاب الله وتشبعوا منه ومن احاديث النبي (صلى الله عليه وسلم ) فتراهم
يفيضون بكلمات تكتب بماء الذهب وقديما قالت العرب ( وكل اناء بالذي فيه ينضح ).
فلما ارتووا من كتاب الله ومن سنة نبيه (صلى الله عليه
وسلم )خرج الري على وجوههم نورا وبهاءا وفي صدورهم وقلوبهم اشراحا وانبساطا وعلى
اخلاقهم حلما وعلما وحكما وكرما وفي كلامهم طلاوة وحلاوة وبيانا وسحرا وأثرا.
ومن كلماتهم التي جاءت مختصرة جدا وتحمل من المعاني
العظيمة والكثيرة والتي لو اردت شرحها لاحتاجت الى كتاب او اكثر ، كلمة (المتلفت
لا يصل ) وهذه الكلمة قد اختلف في قائلها بين جلال الدين الرومي او الحلاج ، والصحيح
انها اقدم من الاثنين لانها متداولة عن ارباب السلوك والتربية من قدماء علماء
وصلحاء السلف الصالح (رضي الله عنهم ) وفي نفس المعنى قالوا:
(اعلم أن من خلص النظر إلى ورا ، سلم من الانتكاس بين
الورى ).
ويقصدون بالمتلفت هو الذي جد السير الى الله جل وعلا في
طريق مملوء بالشهوات والعقبات والتي قد تكون عقبة كؤودا تعيق المسير الى الله والى
جنته .
وحقيقة السير هو السير القلبي الذي يحتاج الى قلب فارغ
من الملهيات والصارفات التي تلهيه وتصرفه عن محبوبه ومقصوده الذي هو الله تعالى.
فملتفت لا يصل، ما دام القلب منشغلا بالأغيار التي تحجبه
عن ربه، وطالما أن التعلقات الشهوانية والدنيوية قد تمكنت منه، وطالما أن أهواءه
هي المتمكنة المسيطرة، فلن ينعم بتجليات الحق سبحانه وفيوضاته، ولو صدق في حبه
لربه ما التفت لغيره، كما قيل: (رأى فقير في طريق مكة امرأَة فتبعها فقالت مالك فقال
قد سلب حبك قلبي قالت فلو رأَيت أُختي فالتفت فلم ير أحدا فقالت أَيها الكاذب في دعواه
لو صدقت ما التفت).
والملتفت لا يصل ، لان الإنسان الذي ينظر حوله كثيرا لا
يصل إلى هدفه، ولن يصل إلى الله، كأن يلتفت إلى أشياء غير صحيحة في قلبه، ولكن إذا
اتفق مرادك مع مراد الله فهنا أنت تحقق رغباتك مع رضا الله عليك، وإذا فعلت العكس
فأنت تبتعد عن طريق الله، قال تعالى: {..فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. وَمِنْهُم مَّن
يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 200-201 ) فلا تلهيك الدنيا عن الدارالآخرة،
واجعل الله ورضاه محور حياتك، أنت أيها الإنسان مقصود الله من الكون، أنت من خلق
لك كل شيء وسخره في خدمتك، وأكبر مخلوق قدرا عند الله، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي
خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا..} (البقرة: 29)، فكما جعل الله كل شيء
لك، يجب أن تجعل الله جل وعلا هو مرادك ومحور حياتك.
وعلامات الالتفات عن الله كثيرة اجملها بالاتي :
الالتفات لنصرة النفس: وهي من أعظم الالتفاتات التي يقوم
فيها الإنسان بنصرة نفسه دون نصرة الحق، كما يحدث في النقاشات السياسية، أو نصرة
نفسك من خلال القوة والجاه، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن وصفها للنبي
صلى الله عليه وسلم: "ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط
إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم بها لله"
الالتفات لشهوات استحوذت على النفس والقلب : كالجاه
والنساء، حتى لو ستحصل على هذه الشهوة من خلال الظلم والسرقة، فبدلا من أن تحصل
على الجاه من خلال خدمة الناس من خلال الإحسان إليهم تحصل عليها من خلال الظلم
والطغيان واكل حقوق الناس بالباطل .
الالتفات للخلق: أي أن تعمل كل ما يريده الخلق إرضاء
لهم، فيقوم شخص بتغير مبادئه في جلسة إرضاء لهم، قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ
أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (الأنعام: 116)
الالتفات لما بأيدي الناس: من أكثر القلوب الساكنة هو
الشخص الراضي عن الله، وأطلق العلماء على هذا الشخص بالقنوع، فالملتفت لما بأيدي الناس
لا يرضى أبدا ولو اعطي مال قارون وملك سليمان عليه السلام .
قارن نفسك بنفسك لكي تحاول دائما أن تصل إلى النجاح، دون
النظر لغيرك؛ لأن دائما يوجد من هو أفضل منك، قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} ( طه:
131)
قال صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: "من كانت همه
الاخرة، جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأَتته الدنيا راغمة، ومن كانت همه
الدنيا، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأْته من الدنيا إلا ما
كتب الله له".
أي من كان الله
هو همه ليرضيه وهو في نفس الوقت سعيد ستأتيه الدنيا وهي راغمة ، ومن كان لا يرى
الله ولا يرى نعمه الظاهرة والباطنة عاش تعيسا لا يفرح بشيء ولم يأتيه من دنياه الا ما كتب له ولو سعى فيها
سعي الوحوش في البراري .
وكل متلفت ... لا يصــــــــل ...والالتفات له معانٍ
كثيرة ... منها :
- الانشغال عن الهدف الاسمى والغاية العظمى رضى الله
والجنة بأهداف أتفه من جناح بعوضة
- الالتفات لنقد الآخرين والوقوف عنده ... وكأنها نهاية
الدنيا
- البكاء على الأطلال ... وكأن البكاء سيعيد الماضي
- انت تتلفت لترى رضا الناس عنك ... وتنسى من بيده النفع
والضر
- انت تتلفت كثيرا لتقارن نفسك بالاخرين ... وكل ميسر
لما خلق له
- انت متلفت لهواك ونفسك ... لذلك الجميع مخطأ الا انت
- انت ترى قوتك ولا تطلب المساعدة ... لكي لا يقال ضعيف
- عينك على مكافئة الناس ... وتنسى ان المعطي هو الله
- لا ترى ما اودع الله فيك من قوى ... وترى ضعفك فقط
- انت تنظر الى النصف الفارغ من القدح ... ولا ترى النصف
الاخر
- تتلفت للوقت كثيرا ... ولا تقف للمراجعة ولو مرة
- انت تجادل لا ترى غير نفسك ... ولا تجادل نصرة للحق
- انت ضايع في اودية الدنيا ... ولا تعلم بأيها ستموت
- انت لا ترضى ان تتخذ لنفسك موجها ...خوفا من ان يدلك
على عيوبك
- انت باق في احلامك بعيدا عن الواقع ... وتعيش في سراب
- هواك هو دليلك... وكفتا ميزانك غير متساويتين
- انت تعتبر التغيير امرا حاصلا ... لانك تريد ذلك
- تدبيرك في امور دنياك ... وتساهلك في امور دينك
- عينك على تغير نفسك ظاهر ... وباطنك بيت خرب.
وأختم بكلمة اخيرة من كلمات ارباب السلوك والتربية تحذرك
من الارتداد والنكوص بعد التوبة النصوح والتجرد عن كل العقبات والملهيات في طريقك
الى الله بقولهم :
(اعلم أنه إذا نظر المريد بقلبه إلى الدنيا نظر شهوة
بعد أن خرج منها عوقب بالحجاب أو بالحساب أو بالعذاب ).
فانظر لنفسك وانظر الى مواضع خطواتك في الطريق الى الله
فإن الطريق طويل والعقبة كؤود ولا أنيس بحق الا الله تعالى .