د. سعد الكبيسي
أكاديمي وباحث
هل عندنا مشكلة حقيقية في النظرة
للمال؟!!
حدث عندي نوع إشكال قديم في الجواب
عن هذا السؤال وفي فهم بعض المعاني الشرعية فيما يخص المال وفلسفته والتعامل معه.
يقول صلى الله عليه وسلم: "أفلح
من اسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه"، ويقول:
"من أصبح منكم آمنا في سربه
معافى في جسده عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا ".
لكني أجد أبا بكر وعثمان وابن عوف
رضي الله عنهم وآخرين من كبار الصحابة لا يقفون عند الكفاية بل كان عثمان وابن عوف
من مليارديرية الصحابة كما نعبر الآن!!!!
هل ندرك ما معنى ان يجهز عثمان نصف
جيش العسرة ويوقف بئر رومة للمسلمين؟!
معنى ذلك انه تكفل بنصف ميزانية
وزارة الدفاع وسقاية مواطني الدولة"المدينة" آنذاك!!!!
بعد تأمل في الموضوع لا أجد إلا ان
المال كان يمثل لأثرياء الصحابة مشروعا لتقوية الأمة ولا ينظر اليه باعتباره صادا
له عن العبادة او ملهيا عن حقوق الله او لشهوة جمع المال أو مخرجا له من دائرة
الزهد
ابتداء لسنا نتحدث عمن يشملهم قول
النبي صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة فهؤلاء في
دائرة الذم المتفق عليه.
ان السياسة العالمية الان يحركها
المال العالمي وما السياسة الا وسيلة لتسهيل حركة المال بل أصبح المال في العالم
المعاصر يصنع السياسة وهي أداة من أدواته، وما التبعية الاقتصادية والمالية التي
تعيشها دولنا الا مظهر من مظاهر هذه المشكلة،
وهو ما كان يعبر عنه قديما ان الدول
تقوم بالمال والرجال وتسقط بفقدانهما أو أحدهما.
نعم كان يمثل جمع المال للسلف
الصالح مشروعا بحد ذاته، فقد ترك جملة من الصحابة مالا كثيرا بعد وفاتهم، وهذا
الليث بن سعد من أثرياء السلف وكان ينفق على تلاميذه من طلبة العلم، وهذا ابن
المبارك كان من التجار الاثرياء ويقول لتلاميذه: لولاكم لما اتجرت، ويقول سفيان
الثوري: المال سلاح المؤمن في هذا الزمان.
وقد كان هذا المال سببا في
استقلالية العلماء في المواقف والحركة والافتاء، وقد لخصوا لنا فلسفة المال والنظر
إليه حين قالوا: "اجعل المال في يدك لا في قلبك".
فليست العبرة بكثرة المال وقلته
تربويا وايمانيا.
فرب فقير امتلأ قلبه بالسخط
والحسد!!
ورب ثري امتلأ قلبه زهدا ورضا
وقناعة !!!
ان المال في الاسلام اداة من ادوات
الخلافة في الأرض: "وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه"، كما انه مال الله
وليس مال العبد: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم"، وهو جزء من الاعداد
وحماية الأمة: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، "انفروا خفافا
وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله".
وكلما كثر مال الله عند العبد
الصالح كثرت المصالح المقضية فيه للمسلمين.
يتلهف المسلم للحصول على وظيفة مهما
كانت ممتهنة في مؤسسة يقول هو عنها انها للاعداء ثم يلعن صاحب المؤسسة لانه يدعم
اعداء المسلمين!!!
بل لا نجد هذا الموظف يفكر ان يملك
أو يدير مثل هذه المؤسسة ما دامت حققت له الوظيفة فيها الستر والكفاية!!!
ومن الغريب أن كثيرا من أصحاب
المشاريع الخيرية والدعوية التي ينتفع منها ما شاء الله من الناس يقفون على أبواب
المحسنين إلى حد التذلل أحيانا لدعم هذه المشاريع
لكنه لا يفكر في دعم أو وقف أو
صناعة عثمان أو ابن عوف جديد!!!
تبتدأ الحكاية من التركيز المستمر
في نفوس المتدينين وأهل الصلاح على تقبيح المال والتحذير منه بدوافع وعظية غير
ناضجة
مثل ترديد قوله تعالى دائما: "انما
اموالكم واولادكم فتنة"، نعم هو فتنة لكن ليس المطلوب عدم استحصاله بل
التحذير من استحصاله بالحرام وعدم اداء حقوقه.
والقران كان يكرر دائما على بذل
المال والنفس بل كان يقدم الاموال على الانفس في كل الآيات عدا آية واحدة!!!
فكيف ينفق من ليس عنده مال او ليس
عنده ما يكفيه او حتى من عنده حد الكفاية؟!!
إن الكفاية الممدوحة في الحديث هي
الكفاية التي تحصن المسلم من التحسر على رزقه أو انشغال القلب بما فوق الكفاية أو
قضاء كل الاوقات في الاستكثار والجمع وشهوة المال التي لا تشبع
ولا تعني بحال من الاحوال أن لا
يكون المسلم غنيا أو ميسورا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: "نعم المال الصالح للعبد الصالح"!!!!
لم يرد ذم المال لذاته في نص شرعي
بل لما اقترن به من الشح والبخل وجمعه من الحرام
من الاشكالات في فهم النصوص الشرعية
التعارض الظاهر بين ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر عليه الشهر والشهران ولا
يوقد في بيته نار ويضع الحجر من الجوع على بطنه لكنه في الوقت نفسه كان يدخر قوت
سنة!!!!
وما هذه الأحاديث إلا تعبير عن
أحوال مختلفة كان يمر بها صلى الله عليه وسلم لا أن الفقر فضيلة بحد ذاته والا كيف
يدخر قوت سنة وكيف كان يستعيذ بالله دائما من الكفر والفقر ؟!!!
ثم لماذا يجعل الحال الاول هو الاصل
وليس الحال الثاني؟؟!!
ولماذا يضرب المثل بفقراء الصحابة
ولا يضرب المثل بأغنيائهم كعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم.
ان الاصل عند المسلم هو الغنى والكفاية
وليس الفقر والحاجة واليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا هي المنفقة
والسفلى هي السائلة كما في الحديث في صحيح مسلم.
بل ان نظام الزكاة نفسه يقول ينبغي
ان لا يوجد في المجتمع المسلم فقير على الاطلاق ،والسارق المحتاج لا تقطع يده شرعا.
من يا ترى الافضل عند الله والانفع
لمجتمعه مسلم عامل في مصنع يأخذ الكفاية او دون الكفاية منه أو مسلم يملك هذا
المصنع ليشغل فيه ألفا أو آلافا من المسلمين؟!
كسب المال ينبغي أن يكون مشروع
إغناء أمة للمسلم وليس شهوة جمع أو ترف قبيح.
المال عند المسلم وسيلة للتقرب الى
الله وليس غاية بحد ذاته، "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك
من الدنيا"، هذا الكلام قيل لقارون فلم يعب عليه جمع المال، "وآتيناه من
الكنوز" فالله هو من آتاه هذا المال، بل عاب عليه الشح بهذا المال ومنعه واعتباره
هدفا لا وسيلة.
فأنت مخير بين أن تكون (قارونيا) او
(عثمانيا).
البعض يقول نبقى نحذر من فتنة المال
حتى لا ينساق المسلم خلفه ويلهيه عن واجباته بل ويوقعه في حب الدنيا او الكسب
الحرام .
وأقول: لقد خطت الشريعة خطا لا
يستطيع مجاوزته، وضابطا لا يتخطاه، فقال تعالى: "والذين يكنزون الذهب والفضة
ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم".
وقال سبحانه: "يا أيها الذين
آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله".
وضرب لنا مثلا بقارون "فخسفنا
به وبداره الأرض".
وقال عليه الصلاة والسلام: "
ما نبت من سحت فالنار أولى به".
ان هذه الحدود والضوابط تجعلنا
نطمئن أن المسلم لن ينحرف في هذا الباب فكل كسب حرام او يلهي عن العبادة أو فعل
واجب فهو كسب مذموم.
ان المسلم يمر بحال الفقر لكن عليه
ان يسارع للخروج منه بالعمل الجاد الدؤوب والكسب الحلال ولا يعيش عالة على غيره ما
استطاع.
فان كتب الله عليه الفقر لأسباب
قدرية قهرية فعليه الصبر آنذاك واحتساب ذلك عند الله.
وليس أقبح من فعل مسلم يعيش على
المعونة وهو قادر على الكسب!!!!
ان هناك مشكلة حقيقية عند شبابنا
وهم يقفون في طابور الانتظار لسنوات طويلة حتى تتحنن عليهم الدولة لتعطيهم وظيفة
بملاليم وهم يملكون من القدرات ما يؤهلهم لتاسيس شركات ومصانع صغيرة فقط لو
يتنازلوا عن حلم المكاتب والكراسي.
بل ان الوظيفة الان اصبحت نوعا من
انواع الرق والعبودية والفقر لان حياته مرتهنة للراتب الذي يعطيه من فوقه من دولة
او مؤسسة
هل نتحدث عن الجميع؟ اقول: نعم، لكن لكل حالة خصوصياتها.
وهل يعني كل ما قلناه ان لا نرضى
بالكفاية ولا نبقى في وظيفة ؟
اقول: ليس هذا هو المقصود بل
المقصود والخلاصة:
1_ من لم تكن عنده وظيفة فليبادر
بمشروع مهما صغر ولا يظل عاطلا
2_ ومن كانت عنده وظيفة لكنها تقتل
طاقاته وقدراته في تنمية نفسه ماليا فليبادر بتركها بعد دراسة الموضوع
3 _ومن كان موظفا فعليه أن يتعلم
مهارة أو صنعة لأن الوظائف لا تدوم
4 _ومن وجد في نفسه القدرة والموهبة
من ابناء المسلمين ان يكون رجل اعمال ويعرف دروب كسب المال والثراء فليسلكه
وليعتبر ذلك مشروع تقوية امة من خلال ما سيحققه من خلال ماله من مصالح للمسلمين
5 _ومن كان عنده مال فوق الكفاية
أصلا وقد أغناه الله تعالى فليتخذ ماله الفائض مشروعا استثماريا تنتفع به الامة
وحسب الاولويات
إن وجود المسلم بين ضجيج مصنعه
ودكانه لا يقل عن وجوده في مسجده ومحرابه
فالحياة كلها مسرح للعبادة إذا ما
اتقى الله ونوى الخير.