د. صلاح الدين
محمد قاسم النعيمي
باحث في السياسة
الشرعية
المقدمة:
لم تكن السياسة مقيدة بالشرعية،
انطلاقاً من أن السياسة هي
الإصلاح، ولا إصلاح حقيقي إلا بالشرع،
فكان إطلاق لفظ السياسة بدون
قيد كافياً في إفادة المطلوب، ثم مع ضعف العلم وعدم الفقه الجيد لسياسة الرسول r عند بعض
الولاة صارت السياسة تخالف الشرع، فاحتيج إلى تقييد السياسة بالشرعية لإخراج تلك السياسة
الظالمة من حد القبول.([1])
والذي يبدو لي أن السبب وراء وصف
–أو تقييد- السياسة بأنها
(شرعية) راجع إلى الحكم في كثير من المسائل
-وبالأخص الجنايات-
بأحكام لم تثبت بنص من كتاب
أو سنة، ومن ثم قد يُتَّهم من يصدر تلك الأحكام بمخالفة الشرع،
فوصفت السياسة بأنها شرعية
خشية من تلك التهمة لبيان أن ذلك الحكم لم يخالف الشرع،
وإن لم يثبت بنص،
إذ قد يكون مستنداً إلى دليل
تبعي أو ما إلى ذلك.
الأول:
موافقة حكم السياسة الشرعية
لمقاصد الشرع وغاياته وكلياته وقواعده العامة الحاكمة للسياسة مبدأً ومساراً
وغايةً.
الثاني:
عدم مخالفة أي دليل شرعي ولو
كان فرعياً ثبت بدليل عام لجميع الأزمنة والأحوال أو أي دليل من أدلة الشريعة
التفصيلية.
بيان جهود
العلماء لضبط مدلول السياسة الشرعية:
فقد اهتم علماؤنا ــ قديماً وحديثاً ــ بهذا
المصطلح اهتماماً كبيراً، وبذلوا في سبيل إبانته جهوداً متميزة تمخضت عن ضبط
مدلوله واستقراره استقراراً اصطلاحياً.
ولبيان هذه الجهود المتميزة،
أرى أن نبدأ بتعريفات
علمائنا الأقدمين أولاً ، ثم بتعريفات علمائنا المعاصرين ثانياً:
أولاً: تعريفات علمائنا الأقدمين
للسياسة الشرعية عند علمائنا الأقدمين مدلولان، عام وخاص
ولتوضيحهما فإني أورد كلاً من هذين المدلولين على حدة:
أ-التعريفات العامة:
عرِّفت السياسة الشرعية
بمدلولها العام بتعريفات عدة، منها:
(السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح
وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسولr ولا نزل به وحي).
وهذا التعريف من أوسع وأشهر تعريفات السياسة الشرعية، لذا فإنه نال اهتمام الباحثين –قديماً وحديثاً- وأهم ما
يمتاز به أمران:
الأول: إنه يبين الجانب العملي للسياسة الشرعية بقوله (السياسة ما كان فعلاً)، وعليه فالسياسة هي فعل ولي
الأمر بما يراه مناسباً لإصلاح الرعية على وفق مقاصد الشرع.
الثاني: توسع في مفهوم السياسة الشرعية ليشمل الوقائع والنوازل
المستجدة التي لا نجد لها حكماً
خاصاً في الكتاب والسنة والإجماع، ولا
لمحلها نظيراً نقيسه عليه، وهذا يعني أن مرجعها إلى مبدأ المصلحة والاستحسان وسد
الذرائع...ونحوها، وهذا يفهم من
قوله (وان لم يضعه الرسول r ولا نزل به
وحي).
(السياسة هي: التدبير المؤدي
إلى مصلحة الدارين، وهي لين من غير ضعف، وشدة من غير عنف([5])،
ووضعهما في موضعهما اللائق بهما، ووضع أحدهما مكان الآخر فساد في التدبير).
وقوله ( لين من غير ضعف، وشدة من غير عنف) منسوب إلى أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب t ، وأصله: أن ابن عباس t اقترح تولية عبد الرحمن بن عوف
t لخلافة المسلمين، فقال عمر: نعم الرجل ذكرت لكنه ضعيف وأنه لا
يصلح لهذا الأمر يا ابن عباس إلا:
القوي في غير عنف، اللين في غير ضعف، والممسك من غير بخل، والجواد من غير
إسراف
وهذه رسالة للسياسيين، ولكل من أـراد أن يكون سياسيا.
ويمتاز هذا التعريف بالآتي:
1- إنه موافق للمعنى اللغوي للسياسة من خلال قوله (التدبير
المؤدي إلى المصلحة).
2- المصلحة المرجوة تشمل الدارين(الدنيا والآخرة)وهذا ما
يميز السياسة الشرعية من غيرها من السياسات التي تقتصر المصلحة فيها على دار
الدنيا فقط.
3- وَصَفَ السياسة بوصف محمود، وسط بين اللين والشدة، وكلاهما
محتاج اليه في السياسة، فاللين في موضعه مأمور به كما قال الله تعالى لنبيه r ]فَبِمَا رَحْمَةٍ
مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ
مِنْ حَوْلِكَ[([6])
والشدة في
موضعها محتاج إليها بدليل قول عمر بن الخطاب t (إن السائس قد يحتاج في سياسته إلى نوع من الشدة والغلظة ليخافه
أهل الريبة، وأن من هشَّ لعامة الناس ولانَ جانبه لهم، قلَّت هيبته في صدورهم)([7]).
4-
أكد أنه لا يجوز وضع اللين
مكان الشدة ولا
عكسهما، ويناسب هذا ما قاله معاوية([8]) t في سياسته (إني لا
أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني
لساني)([9])
وضع الندى في موضع السيف بالعلى مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
ومعنى البيت: كلٌ يجازى
ويعامل على ما يستحق، فمن استحق
العطاء لم يستعمل معه السيف، ومن استحقَّ القتل لم يكرم بالعطاء، ومن فعل ذلك أضر بعلاه.([12])
يتضح مما تقدم أن السياسة الشرعية بمعناها العام تتضمن
المعاني الآتية:
1- إن السياسة
الشرعية إنما يقوم بها الإمام سواءٌ أكان رئيساً أم ملكاً أم خليفةً ..الخ، في
تدبير شؤون الناس وتحقيق مصالحهم، على وفق ضوابط الشرع.
2- السياسة الشرعية
تهدف إلى تحقيق سعادة الدارين (الدنيا والآخرة)، وهذا من أهم ما تمتاز به عن بقية
السياسات.
3- إنها تهدف إلى
إصلاح الخلق (بالإرشاد) و(الفعل).
4- إنها تستمد من
المصادر المعتبرة المختلفة سواءً أكانت نقلية أم عقلية.
5- إنها تقدم
الحلول لشتى المسائل سابقة كانت أم مستجدة .
6- السياسة الشرعية
موازنة بين اللين والشدة، سواء أكانت على مستوى الأفراد أم الجماعات أم الدول.
ب- التعريفات الخاصة:
السياسة الشرعية بمعناها الخاص:
هي كل ما يصدر عن الإمام أو
القاضي من قرارات وعقوبات بحق المفسدين زجراً لهم أو وقاية من فسادهم لمصلحة
يراها، وجعلها بعض العلماء تعني التعزير، وذلك عند تعلقها
بالجنايات، والجامع بينها وبين التعزير أن كلاً منهما غير
مقدر وموكول إلى الإمام -أو
من يقوم مقامه- في تقديره.
ومن التعريفات الخاصة نذكر التعريفيين الآتيين:
(السياسة: فعل
شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يَرِد بذلك الفعل دليل جزئي).
هذا التعريف أورده الحنفية في (باب الزنا)،
ومثلوا له بعقوبة تغريب
الزاني، أي نفيه من بلده لمدة سنة واستدلّوا بقوله e: (البكر
بالبكر،
جلد مائة وتغريب عام)([14])
وقالوا معللين مذهبهم: هذا التغريب ليس من الحدود الثابتة اللازمة في كل حال، لأن قوله تعالى: ]فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ[([15]) جعل الجلد جميع حد الزنا، ولو أوجبنا التغريب كان الجلد بعض الحد، فيكون زيادة على
النص،
والزيادة على النص نسخٌ([16])،
لذا قالوا: هو سياسة تعزيرية موكولة إلى الإمام أو القاضي يتصرف فيه وفق المصلحة،
فإذا وجد المصلحة فيه فعله، وإذا وجد المصلحة في غيره تركه([17]).
قال الجصاص([18]): (وليس نفيه بحد، وإنما موكول إلى الإمام إن رأى نفيه للدعارة فعل، كما
يجوز حبسه حتى يحدث توبة)([19]).
وتغريب الزاني يعد اجتهاداً من الحاكم، وهو من السياسة الشرعية على أساس المصلحة.
(السياسة: تغليظ جناية لها
حكم شرعي حسماً لمادة الفساد)
وهذا التعريف للحنفية -أيضاً- ذكروه في (باب التعزير)، وقالوا موضحين معنى السياسة الشرعية بمعناها الخاص بعد ذكرهم لتعريف الغزالي- رحمه الله-
بمعناه العام (وتستعمل –أي السياسة- أخص في ذلك مما فيه زجر وتأديب ولو بالقتل كما
في اللوطي والسارق ..إذا تكرر منهم ذلك حلَّ قتلهم سياسة.. ثم قالوا: قد ظهر لك بهذا أن باب التعزير هو المتكفل لأحكام
السياسة الشرعية.. والظاهر أن السياسة والتعزير مترادفان)([21]).
تحريق عثمان t للمصاحف وذلك لأن بعض الصحابة t أدخل في
مصحفه تفسيراً لبعض الكلمات فاختلط المفسَّر بالمفسِّر، فجمع عثمان t هذه المصاحف وأحرقها كلها، وكتب المصحف الإمام وألزم
الناس أن لا يأخذوا إلا عنه.([23])
ثانياً: التعريفات المعاصرة
عرف السياسة الشرعية مجموعة من العلماء والأساتذة
المعاصرين في سائر البلاد الإسلامية بطريقة تلائم تطورات السياسة في العصر الحاضر،
وتعمل على علاج جميع المشاكل
التي تعالج الأمة بشرط الرجوع إلى أصول الشريعة وأحكامها وعدم المساس بثوابتها،
وهذا يجعل شريعتنا قادرة على
أن تجد لكل معضلة حلاً مهما تطور الزمان وتغير المكان،
وبهذا تكون صالحة لكل زمان
ومكان،
وفيما يأتي عرض
لأهم
هذه التعريفات:
السياسة الشرعية هي
(تدبير الشؤون العامة للدولة
الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ورفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها
الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين)([25]).
والمراد بالشؤون العامة للدولة: كل ما تتطلبه حياتها من
نظم سواء أكانت دستورية أم مالية أم تشريعية أم قضائية أم تنفيذية سواء أكانت هذه
شؤوناً داخلية أم خارجية.
(السياسة هي الأحكام الشرعية التي تنظم بها مرافق
الدولة، وتدبير شؤون الأمة مع مراعاة أن تكون متفقة وروح
الشريعة، نازلة على أصولها الكلية، محققة أغراضها الاجتماعية ولو لم يدل عليها شيء
من النصوص الجزئية الواردة في الكتاب والسنة... وعدم دلالة شيء من النصوص الواردة
في الكتاب والسنة على أحكام السياسة الشرعية تفصيلاً،
لا يضر ولا يمنع أن نسميها
شرعية).
وأهم ما يلاحظ في هذا التعريف هو أن السياسة الشرعية يجب
أن تكون موافقة لمقاصد الشرع، وإن لم يفصلها الشرع.
التعريف الثالث:([27])
(السياسة الشرعية:
أحكام ونظمٌ وقوانين تعالج
بها أمور المسلمين من الناحية الدستورية والمالية والمدنية والأمنية وجميع مناحي
الحياة الداخلية والخارجية) ، أو هي: (القيام على الأمر بما يصلحه)
هذا بعض ما وقفنا عليه من تعريفات السياسة الشرعية قديماً وحديثاً،
وليس المقصود من ذلك الاستقصاء،
بل المقصود بيان مفهوم السياسة الشرعية، والتي يظهر أنها تصب في إصلاح العباد وشؤونهم على نحو
يحقق مصالحهم في الدارين وفقاً لمقتضى مقاصد الشريعة.
الاستنتاج:
يمكننا أن نستنتج أن كلمة السياسة لم يأت ذكرها في كتب
الفقه عند الأقدمين في أبواب خاصة بها، إنما استخدمها الفقهاء في عدة أبواب كالقضاء والحدود لأن
معناها شامل.
أما
السياسة في الوقت الحاضر فلا يمكن حصرها في تعريف جامع
مانع،
ذلك لسعة أبوابها ومواضيعها ، فهي تدخل في تنظيم شؤون البلاد، وعلاقة الدولة مع الدول الأخرى في شتى المجالات الحربية، الزراعية، الصناعية، ونحوها، وكذلك تدخل في اختيار ولي الأمر ومن يصلح لتولي المناصب
ونحوها،
لكن يمكننا أن نستخلص التعريف الآتي للسياسة في وقتنا
الحاضر:
(هي تدبير شؤون الدولة في الداخل والخارج على نحو يحقق
مصلحة الشعب وفقاً لمقاصد الشريعة الإسلامية) والله تعالى أعلم بالصواب.
ولاستكمال تعريف السياسة من جوانبها
المختلفة لا
بد لنا من الإشارة إلى المصطلحات ذات الصلة بالسياسة
وأهمها
التعزير والمصلحة: ([28])
أ- التعزير: هو تأديب على ذنب لا حد فيه، ولا كفارة غالباً سواء أكان حقاً لله تعالى أو لآدمي.
التعزير: عبارة عن عقوبة
ترك استحداثها وتحديدها للسلطة التشريعية الزمنية...
وجرائم التعازير ثلاثة أنواع:
1-كل جريمة حدية إذا حصلت الشبهة فيها تتحول
تلقائياً إلى جريمة تعزيزية، كجريمة السرقة
بين الزوجين أو بين الأصول والفروع، وكجريمة الزنا إذا لم تثبت بأربعة شهداء.
2-كل جريمة ورد النص على تحريمها دون تحديد عقوبتها كالتجسس والرشوة والغصب
وخيانة الأمانة والتزوير ونحو ذلك.
3- لولي الأمر (رئيس الدولة) بتعاون مع أهل الشورى اعتبار كل فعل يضر بالمصلحة العامة جريمة وله أن يحدد عقوبة تتلاءم
معها كالتهريب ومخالفات نظام المرور.
والتعزير ليس له قدر معين، بل لولي الأمر أن يقدره بحسب الجريمة، وله أن يزيد على الحد، وله أن يعفو.
ويؤيد ذلك ما قاله ابن القيم([30])-رحمه الله- (إن التعزير لا يتقدر بقدر معلوم بل هو بحسب
الجريمة في جنسها وصفتها وكبرها وصغرها، ثم قال: وعمر بن الخطاب قد تنوع تعزيره في الخمر فتارة
بحلق الرأس وتارة بالنفي وتارة بزيادة أربعين سوطا على الحد الذي ضربه رسول الله
وأبو بكر وتارة بتحريق حانوت الخمار وكذلك تعزير الغال وقد جاءت السنة بتحريق
متاعه وتعزير مانع الصدقة بأخذها وأخذ شطر ماله معها وتعزير كاتم الضالة الملتقطة
بإضعاف الغرم عليه وكذلك عقوبة سارق ما لا قطع فيه يضعف عليه الغرم وكذلك قاتل
الذمي عمدا أضعف عليه عمر وعثمان ديته وذهب إليه أحمد وغيره).
وعليه فالتعزير عنده يمكن أن يزيد عن الحد. وحجته: إن الحد في لسان الشرع أعم منه في اصطلاح الفقهاء،
فالتعزير أخص من السياسة.
قال أستاذنا
الزلمي ـــ رحمه الله تعالى ـــ : هذا خطأ للآتي:
1- الحد والتعزير متباينان من حيث المفهوم، ففي الحد الجريمة والعقوبة
ثابتتان بالنص الشرعي بخلاف التعزير.
2- السياسة أخص مطلقاً من التعزير، كل سياسة تعزير، لكن قد يتحقق التعزير بدون وجود السياسة
الشرعية لما ذكرنا من أنواع جرائم التعازير.
أ.م. د صلاح الدين محمد النعيمي
باحث في السياسة الشرعية
([10])
هو:
أبو الطيب، أحمد بن الحسين المتنبي (303- 354هـ)، والبيت من جملة قصيدة يمدح بها سيف الدولة الحمداني أنشدها في ميدان
المعركة سنة
(342هـ) ومن أجمل أبياتها قوله:
إن أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ينظر: فتح المقال في شرح كتاب الأمثال لأبي عبيد البكري، تحقيق: د. إحسان عباس، د. عبد المجيد عابدين (ط/مؤسسة الرسالة، بيروت، 1983م):
489.
[31]) للمزيد عن مدلول السياسة
الشرعية، أنظر: أثر المصلحة في السياسة الشرعية، د. صلاح الدين محمد النعيمي:113
ـــ 123.