د.
صلاح الدين محمد اسم النعيمي
باحث
في السياسة الشرعية
يكرم الإسلام الحياة أينما حلت, وبصورة عامة, تكريماً لا نكاد
نجد له نظيراً, حتى يُربَّى المؤمن على احترام الحياة, ويعمل على بقائها, ويحترس
من التعدي عليها, فتألفه ويألفها, وإن لهذه الحياة قيمة واحدة, يستوي فيها الفقير
والغني, والفاسق والتقي, والنابه والخامل والعالم والجاهل.([1])
لذا نجد أن الشريعة الإسلامية أعطت الحياة قيمة عالية من خلال
نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية التي نهت عن قتل النفس فقد تضافرت الأدلة على
حرمة الاعتداء على النفس وما دون النفس.
فمن نصوص القرآن الكريم
نذكر الآتي:
1. قوله تعالى: ]قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ
مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[([2]).
وجه الدلالة:
هذه الآية نهت عن قتل
النفس المحرمة, مؤمنة كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها.([3])
ومن الحق: قتلها
قصاصاً, أو قتلها بسبب زنا المحصن, وقتلها بسبب الردة .. ونحو ذلك من الأسباب التي
ورد الشرع بها، والإشارة بقوله }ذَلِكُمْ{ إلى ما تقدم مما تلاه عليهم, وهو مبتدأ }وَصَّاكُمْ بِهِ{ خبره, أي: أمركم به وأوجبه عليكم.([4])
2. وقوله تعالى: ]مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي
الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا
أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً[([5]).
وجه الدلالة:
إنه من قتل نفساً واحدة, وانتهك حرمتها
فهو مثل من قتل الناس جميعاً, ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها واستحياها خوفاً
من الله, فهو كمن أحيا الناس جميعاً.([6])
قال ابن عباس([7]) t من حرم قتلها إلا بالحق }فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعاً[ لأن ترك النفس البشرية حية دون اعتداء عليها يستلزم بقاء النفوس
حية حتى تموت الموت المقدر عليها في آجالها, وكذلك قتل النفس بغير حق يستلزم أن
يكثر القتل ويفشو فربما أفنى البشرية جميعها([8]).
وجه الدلالة:
هوَّل الله أمر قتل المسلم أخاه المسلم,
وجعله في حيز ما لا يكون, بصيغة المبالغة في النفي, وهي صيغة الجحود , أي: ما وجد
لمؤمن أن يقتل مؤمناً في حال من الأحوال إلا حال الخطأ ... كأن صفة الإيمان في
القاتل والمقتول تنافي الاجتماع مع القتل في نفس الأمر منافاة الضدين لقصد الإيذان
أن المؤمن إذا قتل مؤمناًَ فقد سلب عنه الإيمان.([10])
من نصوص السنة النبوية
نذكر الآتي :
1.
قول النبي r: ((إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ([11])
الأُمُورِ الَّتِي لا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ
الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ))([12])
وجه الدلالة:
إن قتل النفس المعصومة بغير حق يبيح
القتل, هو الهلاك الذي لا سبيل للخلاص منه.
وجه الدلالة:
محظورة جريمة القتل فإنها أول قضية يحاسب
الله تعالى العباد عليها.
3.وقوله r: ((أُمِرْتُ أَنْ
أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ([15])
فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ
وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ))([16])
وجه
الدلالة:
هذا
أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله r
-لأنه لا آمر لرسول الله r
إلا الله- أن يقاتل الناس بعد عرض الإسلام عليهم فإن اعترفوا بكلمة التوحيد: عصموا
،أي: حفظوا وحقنوا مني دماءهم إلا بحق الإسلام.
مما
تقدم يتبين لنا أن قتل النفس المعصومة أمر خطير عند الله تعالى وكبيرة من الكبائر([17]) لذا
فإن الله تعالى بين لنا في كتابه الكريم ما يترتب على القتل العمد العدوان من
الأثر وهو القصاص([18])
-يعني المماثلة- من القاتل في الدنيا, أو أخذ الدية أو العفو عنه لوجه الله تعالى،
وذلك في قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى([19])
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ
إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى
بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ[([20])
ثم بيَّن الله تبارك وتعالى الحكمة من تشريع القصاص فقال: ]وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ
حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[
([21]).
(فإنه -أي القصاص- ليس الانتقام, وليس
إرواء الأحقاد, إنما هو أجلّ من ذلك وأعلى, إنه للحياة, وفي سبيل الحياة, بل هو في
ذاته حياة, ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة, ولاستحياء القلوب واستجاشتها
لتقوى الله, والحياة التي في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة
الابتداء, فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمناً لحياة من قتل جدير به أن يتروى ويفكر
ويتردد، فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها)([22]).
وعليه فقاتل النفس بغير حق يجب قتله
قصاصاً, فهو جزاء عادل لا بد فيه من المساواة.
وعمدة من قتل الواحد بالواحد قوله تعالى: ]وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ[ فالنفس تقتل بمقابل قتل النفس([23]).
بيد أنه قد يحصل أن يشترك أكثر من واحد في قتل
شخص بغير حق, فلا ينطبق عليهم القصاص لعدم تحقق المماثلة أو معادلة النفس.
من هنا حصل خلاف بين الفقهاء في قتل
الجماعة بالواحد إلى مذاهب ثلاثة, نجملها بالآتي:([24])
المذهب
الثاني: قالوا لولي الدم طلب
القصاص من واحد منهم فقط, ويأخذ من الباقين حصصهم من الدية, وإليه ذهب بعض الصحابة
والتابعين.([28])
المذهب
الثالث: إن الجماعة لا تقتل
بالواحد, وإنما تجب الدية عليهم, وهو مذهب بعض فقهاء التابعين, ورواية عن أحمد بن
حنبل.([29])
الرأي الراجح:
الذي يبدو لي راجحاً هو ما ذهب إليه أصحاب
المذهب الأول من وجوب قتل الجماعة بالواحد، دل على ذلك أدلة عدة، منها:
إن الله تعالى كتب -أي فرض- القصاص على
القاتل من غير تفرقه بين واحد أو أكثر([31]).
فالنفس لا تتبعض فلا يكون زهوقها بفعل بعض دون بعض, وكان كل ذلك
منهم قاتلاً, مثله: لو اشتركوا في رفع حجر على رجل فقتله, كان كل واحد رفع الحجر,
فاشترك الجميع بقتله.([32])
2. قول النبي r: ((وَمَنْ قُتِلَ لَهُ
قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا يُودَى وَإِمَّا يُقَاد))([33]).
وجه
الدلالة:
فهذا
رسول الله r جعل لولي الدم الحق في الاقتصاص من القاتل, وله أن يختار بين
أمرين: فإما أن يودي: يعطي الدية, وإما أن يقاد: يقتص من القاتل, ولم يفرق النبي r بين الواحد والجماعة.([34])
ولعل ما يحسم هذه المسألة
هو قضاء سيدنا عمر بن الخطاب t في قتل جماعة اشتركوا بقتل غلام واحد في صنعاء, فقال:
(والله لو تمالأ أهل صنعاء على قتله لقتلتهم
جميعاً) ولم ينكر عليه أحد من الصحابة y فكان إجماعاً سكوتيا([35]ً).
وتمام
الحديث:([36])
(إن امرأة بصنعاء غاب
عنها زوجها, وترك في حجرها ابناً له من غيرها غلاماً يقال له أصيل, فاتخذت المرأة
بعد زوجها خليلاً, فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى, فامتنعت منه
فطاوعها, فاجتمع على قتل الغلام،الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها, فقتلوه ثم قطّعوه
أعضاءً, وجعلوه في عيبة (وعاء من أدم) فطرحوه في ركية (هي البئر ناحية القرية ليس
فيها ماء), فأخذ خليلها فاعترف, واعترف الباقون, فكتب أمير اليمن([37])
بشأنهم إلى أمير المؤمنين عمر t فكتب إليه عمر: بقتلهم جميعاً, وقال: والله لو أن أهل صنعاء
اشتركوا في قتله لقتلتهم جميعا، وفي رواية أقتلهم جميعاً)([38]).
يؤيد ما ذهب إليه عمر بن الخطاب t الآتي:
ج. لو لم تقتل الجماعة بالواحد لتذرع
الناس إلى القتل بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة لإسقاط القصاص عنهم.([41])
وهذا كله من السياسة الشرعية (القضائية) على أساس مصلحة الأمة
في حفظ النفوس من الاعتداء عليها.
قال ابن رشد:([42])
(فعمدة من قتل بالواحد الجماعة النظر إلى المصلحة, فإنه مفهوم
أن القتل إنما شرع لنفي القتل كما نبه عليه الكتاب)([43]).
في قوله تعالى:] وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ
حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[ ([44])
فأفادت هذه الآية الكريمة أن نماء الحياة الاجتماعية الطيبة
بحقن الدماء وصون النفوس والأجسام من العدوان يتوقف على القصاص الذي فيه تحقيق
للعدالة الكاملة.([45])
قلت: والعدالة الكاملة لا تتحقق إلا بقتل الكل.
وهذا الحكم لم يوجد فيه نص من كتاب, ولا سنة, ولم يوجد فيه أثر
عن الصديق t أنه قضى بمثله, وإنما بنى عمر t حكمه على فهمه لمقاصد الشريعة والتي جاءت لحفظ أمن المجتمع,
واستقراره, إذ إن الدماء ليست أمراً هيناً, ولذلك يقتضي العدل, ومصلحة الأمة,
ومقاصد الشريعة القصاص إذا ثبت: أن الجميع تواطؤوا على قتله ...وهذا الرأي هو الأرجح, والأولى بالاتباع, وذلك لقوة
الدليل في فعل عمر t وإجماع الصحابة y، ولما فيه من حكمة في ردع, وزجر الناس, وحفظ النفوس في المجتمع.([46])
الدروس السياسية:
من خلال عرض مسألة قتل الجماعة بالواحد يمكن أن
نستخلص الدروس الآتية:
1. الإجماع منعقد على قتل الجماعة
بالواحد.
2. لو لم يجب القصاص عليهم لجعل
الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القصاص عليهم بسفك الدماء.
3.اجتهاد عمر t لم يكن مخالفاً لنصوص القرآن الكريم, لأن آية القصاص دالة على أن
الجماعة تقتل بالواحد, بحكم تنصيصها على العلة, وبحكم وجود العلة كاملة في كل فرد
من أفراد الجماعة على حدة.([47])
4.هذا يدل على أن الصحابة y وعلى رأسهم عمر t كانوا ينظرون إلى مقاصد الشريعة الإسلامية.
5.هذا كله من السياسة الشرعية
(القضائية) على أساس مصلحة الأمة.
والله
أعلم بالصواب
([18])
القصاص (بكسر القاف) في اللغة مأخوذ من اقتصاص الأثر بمعنى اتباعه وتعقبه ثم غلب
استعماله في معنى القاتل لما فيه من تتبع أثر الدم بالعقاب, ويسمى القتل على سبيل
القصاص أيضاً: قوداً (بفتحتين, إذ كانت العادة أن يقاد القاتل بحبل إلى القصاص,
يقال: أقاد الأمير القاتل بالقتيل قتله به قوداً ... ينظر: المصباح المنير
للفيومي: 308 ؛ المدخل للزرقا: 2/679.