وسام الكبيسي
كاتب ومستشار مؤسسة أبعاد البحثية
السلف والسلفيون، هل هناك فارق بين
المفهومين؟ أم أنهما يشيران الى معان وتصورات ومنطلقات ومتبنيات متطابقة؟، وكيف
نستطيع أن نبني على إجابات هذا السؤال الكبير ناتجا ونتائج نافعة للتيار السلفي
المعاصر أولاً، باعتباره عنصرا مهما من عناصر الأمة المسلمة، وللأمة بصورة عامة
ثانياً؟
قد يكون من الغريب أن نجد من بين كتاب
وعلماء ومفكري السلفية المعاصرة من لا يزال لا يفرق بين المفهومين، - وكذلك بين
مفهومي السلف وأهل السنة والجماعة -، ويحاول - عن قلة معرفة أو عن قصد - أن يخلط
بين المفهومين بما يخرجنا عن دائرة النظرة إلى السلف كعصر ومرحلة تستوجب التبجيل
والتأسي العام، الى دائرة توسيع مفهوم السلف ليدخل فيه كل من ينتمي الى المدرسة
السلفية -حقيقة أو ادعاءا - وإلى أجل مفتوح!!، وربما هو سعي من بعض هؤلاء لكسب
الاحترام والتبجيل الذي تكنه الأمة لـ(خير القرون) ولو كان هذا الخلط سيُلحق
بالسلف الصالح ما لا يليق بهم ولا يتوافق مع سِيَرهم، من أفكار وتصورات وسلوكيات
المتأخرين.
بعيدا عما يتبادر للذهن عند سماع مصطلح
(السلف)، وبعيدا حتى عن المعنى اللغوي والاصطلاحي لكل من المصطلحين، فإن لدينا
فوارق من زوايا متعددة تفرض التفريق بين مفهوميهما، ومن هذه الفروقات:
أولا: لقد مرت المدرسة السلفية بعد
القرون (الأجيال) الثلاثة الأولى، بمراحل متعددة كان أول ظهورها الواضح مع ظهور
بدعة خلق القرآن ومحنة إمام المذهب الحنبلي أحمد ابن حنبل في زمن المأمون، وتميز
بالانشغال برواية وفقه النص بطرق الإستدلال والاستنباط، وجاءت ثاني هذه المراحل في
القرن الرابع الهجري على يد شيخ حنابلة بغداد الحسن بن علي البربهاري، الذي حمل
على مخالفي أهل الحديث والحنابلة بشدة لم تُعهَد في المرحلة السابقة، بينما تميزت
المرحلة التي بعدها (مرحلة ابن تيمية) بأنها مرحلة تمتين بنية السلفية عبر جمع ما
كان مفرقا بين الكتب من آراء، وجاءت بعد ذلك مرحلة محمد ابن عبدالوهاب لا لتكون
امتدادا فحسب، بل لتشارك آراؤه آراء ابن تيمية في التكوين الفكري لمن جاء
بعدهما...
ولسنا هنا في مورد التشريح والنقد
والترجيح بين هذه المراحل، ولكن أردنا أن نميز بين جيل السلف والمراحل التي مرت
بها السلفية، فإن كان مقبولا - وفقا لبعض الآراء - اعتبار الإمام أحمد من السلف،
فلا يصح بحال أن نعتبر من بعدَه كذلك، ولا ورد عن أحد منهم ادعاء أنه من السلف، بل
هم يرون أنفسهم من العاملين بنهج السلف في أحسن الأحوال، أو السائرين على هديهم،
ولا شك أن الفارق كبير.
ثانيا: هناك فارق تبعا لذلك بين هدي
السلف وتراث وأقوال السلفيين، وآراء السلفيين كابن مندة والبربهاري والمقدسي وابن
تيمية وابن القيم وغيرهم هي أقوال وآراء واجتهادات تندرج تحت المذهب الحنبلي،
عالجت ظروف وأحداث زمانها، وليس من اتِّباع منهج السلف أن نردد هذه الآراء
والأقوال لزماننا دون مراعاة لمقتضيات تغير الواقع.
ثالثا: امتازت مرحلة الإمام أحمد - كما
ذكرنا - بالموازنة بين الاهتمام بحفظ النصوص والآثار من جهة والاشتغال بفقه النصوص
واستنباطاتها من جهة أخرى، وتوسيع دوائر الفروع، والتوسع في مساحة الاختلاف
المستساغ والاعتذار للمخالفين والابتعاد عن التكفير ودفعه بأي شبهة، بينما امتازت
الكثير من المراحل اللاحقة بتضييق دوائر الفروع ومساحة الاختلاف المستساغ، وظهر
السعي لتغيير المنكر باليد - أحيانا - خارج دائرة الإمام العام والقضاء، وضعفت
دائرة الاجتهاد والاستنباط لصالح دائرة حفظ النصوص، ولا شك أن حفظ النصوص والاثار
الشرعية - على أهميتها - ليست كافية ليصبح حاملها سلفي النهج.
رابعا: لقد ظهر في مرحلة متأخرة جدا توجه
سلفي انشغل بالهدي الظاهر عن التربية الروحية والمجاهدات القلبية، وجمع الى قلة
الفقه بالنصوص جفوة الطباع وغلظة الأقوال، واكتفى من السلف بترديد بعض أقوالهم دون
أفعالهم وأحوالهم، وهؤلاء وإن لم يكونوا أكثر أتباع السلفية المعاصرة، إلا أن
صوتهم هو الأظهر لاهتمامهم بالتزلف للحكام الذين استخدموهم في تبرير الكثير من
قراراتهم وتصرفاتهم، وسخَّروا لهم الأموال والمؤسسات والفضائيات، فكيف يُلحق مثل
هؤلاء بالسلف الصالح؟.
خامسا: في الوقت الذي كانت فيه مرحلة ابن
تيمية وما قبلها من مراحل، تتعامل مع مفهوم الولاء والبراء في أضيق مساحة، ويوسعون
مفهومي (الأمة) و(أهل السنة)، ويجدون المبررات لإمام الأمة أو حاكم الدولة المسلم،
ما دام يعلن الالتزام بشرع الله ويسمح بإقامة شعائر الدين، فقد ظهر تيار في المراحل
المتأخرة يتعسف في استعمال مفهوم الولاء والبراء بما يؤدي - حكما - لتضييق مفهومي
الأمة وأهل السنة، ويغلو في تكفير أئمة المسلمين والخروج عليهم وقتالهم.
وكمثال على ذلك، فقد كفَّر الشيخ عبدالله
بن عبداللطيف آل الشيخ الدولة العثمانية وقال في كتاب الدرر السنية في الأجوبة
النجدية (من لم يكفِّر الدولة - يقصد العثمانية - ولم يفرق بينهم وبين البغاة من
المسلمين، لم يعرف معنى لا إله إلا الله…). وهذه الفتوى التي كانت من الأسباب التي استثمرت في وقتها ضد الدولة العثمانية وقد صدرت دون النظر في المآلات التي جرتها على
المسلمين وديارهم، ولو ذهبنا للمقارنة مع هدي السلف وتورعهم عن تكفير حتى من كفرهم
واستحل دماءهم من الخوارج وغيرهم، لرأينا الفارق واضحا.
السلف والسلفيون والتعامل مع النص
لقد جر الجمود على النص الى ضعف ملكة
الاستنباط - التي حث عليها الشارع الحكيم - لدى متأخري السلفية، وباتت غالب أقوال
هؤلاء متونا محفوظة ونقولا متكررة عمن سبقوهم، دون مراعاة لتغير الأزمان والأمكنة
والبيئات، ولا لمحددات الأولويات، ولا لتقديرات المصالح والمفاسد وتحقيق
المقاصد، وبذلك فقد حرموا أنفسهم والأمة
من استعادة دورها على هدي السلف الأول الذي اجتهد في بناء منظومة حضارية متكاملة،
تقدمت من حيث التأصيل والمفاهيم والوسائل على كل أمم تلك الأزمان، ووجد أبناء
الأمة -حينها - في تلك المنظومة إطاراً اكتشفوا فيه ذواتهم وحققوا من خلاله آمالهم
وأحلامهم وقضوا في سبيل رفعته أعمارهم، بينما نجد سلفية اليوم - كحال غيرهم من
الحركات والتوجهات الإسلامية المعاصرة - غير قادرة على استيعاب طرق تفكير الأجيال
الجديدة، ولا على تحقيق آمالهم وأحلامهم وطموحاتهم، حتى صار الشباب نهبا للغرب
المتقدم في مدنيته، أو عرضة لأهل الإلحاد، أو أدوات في محارق أهل الغلو من كل
الأطراف، وزهدَ أغلبهم بميراث أمته وبات يتطلع الى الحلول والبديل لدى الليبرالية
والقومية وغيرهما، بعد طول انتظار ويأس من (الحل الإسلامي) في تحقيق الاستقلال
التام والحرية والكرامة الإنسانية والنهضة العلمية والمجتمعية.
حصل التشظي مؤخرا - ولا يزال - في
المدرسة السلفية، في مرحلة ما بعد محمد بن عبدالوهاب، كنتيجة لخلل التعامل مع
مفهومي الاجتهاد والتقليد، ذلك أن السلفية المعاصرة تساهلت - عمليا - في شروط
الاجتهاد والأهلية للفتيا، حيث سادت مفاهيم خاطئة في تلقي العلم الشرعي، وبات
الأخذ المباشر من بطون الكتب أو الأخذ عمن أخذ منها بلا سند من شيوخ العلم، كما
كان سائدا عند السلف والمراحل المتقدمة من السلفية أمرا طبيعيا.
هذا جرّأ الكثير من أتباع السلفية
المعاصرة على شيوخ العلم قديما وحديثاً، وساعد البعض على تضخيم ذواتهم والانقلاب
على/ أو الانشقاق عن شيوخهم، على قاعدة أنَّ (هُم رجال ونحن رجال) التي زرعها فيهم
الشيوخ أنفسهم، وسيستمر هذا التشظي داخل كل التيارات السلفية حتى يتم معالجة هذا
الخلل والعودة الى طريق السلف الصالح في أخذ العلم والتورع عن الفتيا قبل بلوغ
مراتب الاجتهاد، كما ورد عن الإمام مالك مثلا وهو يقول: (ما أفتيت حتى شهد لي سبعون
أني أهل لذلك).
لعلنا هنا نلاحظ الاستدعاء السيء
والانتقائي لموروث الآراء التأريخية، والدوران الدائم في فلك مسائل الإختلاف
(والخلاف)، والنقل النصي الحرفي لرؤى وفتاوى من المراحل المتأخرة، غير متناسبة مع
سعي السلف في الحفاظ على وحدة الأمة، أو على الأقل غير صالحة لهذا الزمن الذي
تحتاج فيه الأمة الى أسباب الوحدة لا الفرقة والى اجتماع الكلمة على المشترك
المتفق عليه، وتأجيل المختلف فيه الى وقت الترف الفكري والتنازع والتلاقح المعرفي،
وذلك حين انطفاء الحرائق المشتعلة في المنطقة وتحسن الأوضاع السياسية والاجتماعية للأمة
وأبنائها.
الأمة اليوم أحوج ما تكون الى عزمات تقف
في وجه التحديات والمخاطر الكبيرة التي تواجهها، حيث بات أهل السنة بكل مسمياتهم
وديار أهل السنة وحتى كعبتهم في خطر، ومسائل الاختلاف التي لم تتفق الأمة عليها
طوال القرون الماضية، ولا أظنها ستفعل في قابل الزمان، هي آخر ما تحتاجه هنا.
جمعني قبل فترة لقاء بأحد فضلاء السلفية
وشكا من أنَّ (الصوفية) - وقالها على إطلاق - أصبحوا جسورا لولاية الفقيه تستخدمهم
لاختراق الأمة السنية!!!، متحدثا عن ازدياد التأثير الإيراني هنا وهناك، فأجبته
بوضوح بأن إيران تستغل أخطاء الخطاب السلفي المعاصر، لأنه بحديثه المستمر عن
اعتبار الصوفية فرقة ضالة، وتصنيفها خارج إطار أهل السنة، وما تبع ذلك من آراء
فقهية ومعتقدية خلطت القليل من الصواب بالكثير من الخطأ والتعسف في الأحكام،
وبتوسيع السلفية المعاصرة لدائرة ومفهوم
الولاء والبراء وتضييقها لدائرة الاختلاف الفقهي والتناصح الشرعي، جعلت بعض جهلة
الصوفية في بلدان عديدة لقمة سائغة في يد مشروع الولي الفقيه القائم على العداوة
والتوسع على حساب أهل السنة.
وأكملت بقولي: لو راجعتم أنفسكم وغيرتم
منطقكم تجاههم، والنظرة إليهم والتعامل معهم، لوجدتم أنكم أقرب الى قلوبهم من
الآخر، ولكن الفارق الواضح هنا أن الآخر يعمل وفق خطة ومشروع وأنتم تبذلون جهدا
ليس بالقليل ولكنه في الوقت والمكان الخطأ، فالسلفية بوضعها الحالي ليست قادرة على
بناء مشروع يمثل وعاءً للأمة، ولا على التعاون مع التوجهات الفكرية الأخرى بما يفضي
لقيام مشروع تكاملي للأمة، لأن منطلقاتها الفكرية (الجديدة) وتصوراتها الذهنية
وتصرفات أفرادها وسلوكياتكم لا تسمح بالاحتواء ولا بالتكامل.
أخيرا فإنني ما كتبت هنا لانتقاد السلفية
من أجل النقد، بل هو من باب النصيحة، وليس غير السلفيين من أهل السنة بأقل حاجة منهم
الى المراجعة والتجديد في الخطاب ومنهجية التعامل مع النص والاجتهاد في سياقه،
وإنما هي محاولة لأن أكون مرآة لإخوتي وأساتذتي المخلصين المعتدلين من رؤوس
ومتبوعي ومبرَّزي السلفية - وهم كثر بحمد الله - ليقوموا بدورهم في تنقية وتجديد
هذا الخط المهم ليكون أهلا للتعامل مع هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها الأمة، بما
يساعدهم على قيادة السلفية والسلفيين ليكونوا عامل بناء وإصلاح وتقوية للأمة لا
عامل هدم وإضعاف لها، وليعدوا أنفسهم وأتباعهم لأدوار ومواقف جديدة تقتضيها واجبات
الشرع وضغوط الواقع، خصوصا ونحن نشهد تغيرا واضحا في مواقف واصطفافات أنظمة حكم
بعض دول المنطقة، تقتضي وجود عقول راشدة ومنفتحة لتلعب دور التقريب بين مواقف
الحكومات والشعوب من جهة والترشيد في توجهات الطرفين من جهة أخرى، تعبدا وإخلاصا
لله تعالى.
لقد آن للسلفية أن تخرج عن القوالب التي
ورثتها من القرون والعقود المتأخرة وأن تكسر الحواجز التي بنتها وفق نظرة ماضوية
متحجرة، لتنطلق الى فضاء التجديد الذي قام في جوهره لدى السلف الصالح على عملية
إنزال النصوص الشرعية على الواقع الذي عاشته الأمة في تلك العصور وفق نظرة عميقة
للمتغير والثابت فيها -أي النصوص - بلا تكلف ولا تعسف، وإلا فإن السلفية المعاصرة
تحكم على نفسها بالانتحار البطيء والخروج من مسار التأريخ.