د. سعد الكبيسي
أكاديمي وباحث
إن عملية الإصلاح ليست عملية سهلة ولا
مستحبة عند الكثير، لما فيها من تغيير مواقع وسياسات ومسارات قد اقتنع بها الكثير،
حتى اكتسبت درجة القطعية في العقول والنفوس، وبعبارة أوجز إن عملية الإصلاح لها ضريبتها
الشاقة على كثير من النفوس داخل أي مؤسسة.
ولا ينبغي أن تجنح بنا العاطفة كثيرا حتى
نظن ان عملية الإصلاح هي أمل وغاية للجميع لاسباب عدة منها:
ألفة الكثير لما هو موجود
أو ان هذا الإصلاح لا يلائم طبيعته وفهمه
أو يظن انه ضرب من الكلام النظري البارد الذي لا
ينتج عملا ولا يحرك مؤسسة!!!
أو إن الاصلاح له ضريبته القاسية في ترك
بعض الامتيازات
.....الخ
إن الإصلاح غالبا ما يكون هدف النخبة المتحركة الفاعلة التي وهبها الله
تعالى قدرا من الفهم والإخلاص الذين لا ينفك أحدهما عن الآخر، والفاهمون فقط، أو
المخلصون فقط كثيرون ، لكن ليس باستطاعة أحد الفريقين النجاح لوحده مهما أراد أن
ينجح في تشخيص أو حل أو تنفيذ عملي له ضريبته النفسية والادارية.
إن من طبيعة النفس أن تألف ما هو موجود
وليس بالإمكان أبدع مما كان، أو أنها تصل أحيانا إلى حالة من الزهد واللامبالاة
بأي شيء بسبب الإحباطات المتكررة والفشل المدوي.
نحن لا نتحدث هنا عن منطلقات المؤسسات في
حركتها بل عن منطلقات الإصلاح وفرق كبير بين
الاثنين فالمنطلقات التأسيسية غير
المنطلقات الاصلاحية.
ان منطلقات الإصلاح تحدد وجهة تصويب الأخطاء والإخفاقات والفشل
الحاصل
ولو رجعنا إلى القرآن لوجدناه قد أشار
ورسخ المنطلقات التأسيسية والتكوينية للمؤسسة المسلمة من الفرد الى الدولة من صواب
العقيدة وبيان الصراع بين الحق والباطل ومنظومة الأخلاق والقيم...الخ.
ووجدناه يرسخ منطلقات الإصلاح في حال
وقوع الخطأ والفشل كما في أحد وحنين والاستغفار
للمشركين ...الخ.
إن الإيمان بمنطلقات الإصلاح لتتحول
لبرنامج عملي أشق وأصعب من الإيمان بمنطلقات التأسيس والتكوين وتحويلها لبرنامج
عملي!!!!
إنك تتعامل في قضية التأسيس مع كيان خام
مستعد للتلقي والبناء، في حين إنك تتعامل مع قضية الإصلاح مع كيان ونفوي تشبعت
بالتكوين الصواب والخاطئ، وترسخت عندها مفاهيم وسلوكيات تحتاج إلى صدق وتجرد في
التنازل عنها وإحلال غيرها مكانها.
إن منطلقات التكوين والإصلاح في المؤسسات
كمنصات إطلاق الصواريخ ما لم تكن دقيقة فإن انحراف بضع سينتمرات كفيل بوقوع
المشكلة بل والكارثة لا سامح الله.
إن المنطلقات من خصائصها التعميم والشمول
وهو ما حرص عليه القرآن الكريم وهو يكررها ويضرب لها الأمثلة العامة والشاملة
،تساعده وتماثله في الوقت نفسه السنة والسيرة مع الدخول أكثر في التفاصيل.
إن الإسلام قد يغفر للمسلم والعامل
والمؤسسة ككل الخطأ في التفاصيل والجزئيات بل يثيبه عليها عند الصواب والخطأ وهو
الذي تركها للاجتهاد .
لكنه لا يغفر الخطأ في المنطلقات
والكليات الحاكمة للتصور والمؤسسة للمفاهيم والسلوكيات.
قد لا يهمنا كثيرا شكل الإصلاح مع
محاولتنا استكشافه والدلالة عليه لأنه في النهاية اجتهاد يخطئ ويصيب.
لكن الذي يهمنا القناعة بضرورة الإصلاح
والوصول للتشخيصات الصحيحة.
منطلقات الاصلاح
ما هي منطلقات الإصلاح إذا؟
لعلنا نوجز أهم منطلقات الإصلاح في
الآتي:
1_ إن أهم منطلق لعملية الإصلاح داخل
الفرد والجماعة والدولة والأمة هو العودة لمرجعية القرآن والسنة وتثويرها
واستنطاقها في هذه المنطلقات والكليات الحاكمة والمقومة حين حدوث الخطأ.
إن النفير العام لاستنطاق وسؤال التجارب
الإسلامية في أرجاء العالم الإسلامي واستكشاف رؤى أهل البصيرة والرأي من القادة
الفكريين والسياسيين لهو امر بالغ الأهمية وهو تطبيق لمبدأ الشورى، لكن المشكلة هو
في التوكل والإعتماد عليها دون العودة للمنبع الصافي وتكليف أهل الفكر والنظر في
استكشاف الهدايات القرآنية والنبوية في الإصلاح وتجنب التعامل المصلحي معها من
خلال استدعائها عند الحاجة للتأصيل الشرعي لموقف أو قرار أو سياسة أو توجه!!!
إن القرب من الوحي واستلهام قوانين
الإصلاح والتغيير الذي فيه لصالح عقل بشري أو تجربة مؤسسة ما ولو كانت ناجحة في
زمان أو مكان ما لهو انحراف عن المنهج الذي تأسست المؤسسات عليه أصلا وبحجة
التطوير غير المنضبط ربما ومواكبة العصر ضاعت البوصلة، ونشأت الضبابية التي تحتاج
الى تجلية.
إن قوانين الإصلاح والتغيير القرآنية
والنبوية كفلية بإمدادنا بالسياسيات والتوجهات الكلية والتفصيلية عدا التي تركت
لنا لحكمة بالغة، وهي قوانين تعيد العمل لمساره الصحيح من الجذور، وتبتعد عن كل ما
هو ترقيعي وترميمي مما يحاول العقل البشري فعله والقناعة والإقناع به.
2_ إن أي عملية إصلاحية لا بد وأن تتوافر
القناعة بضرورتها والإرادة الجازمة بتنفيذها، والا كان الكلام مجرد تحبير للورق من
دون أي عائد عملي، وفائدته أنه سيكون حجة على من هو في موقع المسؤولية.
3_ إن عمليات الإصلاح تحتاج ولا بد لقادة
جدد يتبنونها ويؤمنون بضرورتها وإلا ستصبح العملية عبارة عن ترقيع وترميم لا يغني
شيئا.
إن إيصال الرسائل تصريحا أو تلميحا بأن
الإصلاح المسموح به ينبغي أن يمر عبر القادة الحاليين، وما عداه سيكون مرفوضا، ثم
تتخذ إجراءات إصلاحية شكلية أو توكل للجان لهذا الغرض دون إرادة حقيقية فهذه من
مقاتل المؤسسات الكبرى.
إن افراد المؤسسة قد يتحملون أن يطلبوا
من قيادة اي مؤسسة عمليات الإصلاح في حالة أن لديها رصيد من النجاحات وقليل من
الإخفاقات لتأتي دعوات المطالبة بالإصلاح لتعدل الفشل الجزئي.
أما حين يكون الفشل متكررا وتحصل أزمة
الثقة بقيادة ما فلا بد من صعود الخط الثاني لموقع القيادة والإ فإن المآل في
المؤسسة هو مزيد من الإنشقاقات والتمردات والإنكماشات والتكلس الفكري والشيخوخة
الجماعية للوصول للموت لا سامح الله.
4_ إن خطة الإصلاح لا بد وأن تكون
واقعية، والحذر من أن تأخذنا الحماسة فيظن الظان أن خطة الإصلاح ينبغي أن تنشأ
واقع المثال مع أن الوصول إليه هدف استراتيجي تعبدي.
ليس الإصلاح أن تخلق أفكارا وبرامج
مثالية، إنما المقصود قراءة واقع الحال والإرتقاء بها رويدا رويدا نحو الحلول
والإصلاحات الجذرية المطلوبة.
إن أي مثالية أو خيالية سوف يفقد الثقة
باي محاولة للإصلاح ويسد الطريق على اي صوت صادق يريد الإصلاح ما استطاع.
5_ الربانية والتجرد والاستسلام للحق إذا
ما ظهر وبان، والإعتراف بالقصور والتقصير والإستعداد لخطط الإصلاح المقترحة إذا
تمت القناعة بها، وعدم إلقاء التهم بان ذلك نسف لكل الجهود الماضية للعمل وابتداء
من الصفر .
والمراد اعتبار كل ذلك من التعبد لله عز
وجل فالمخلص المبتغي وجه الله تعالى في اصلاحه لا يضره الرجوع للحق بل يعتبر ذلك
هدية من الله تعالى وهداية مطلوبة مستجابة نطلبها في كل صلاة.
6_ المسؤولية التضامنية المشتركة للجميع،
فالقائد ليس له عصا سحرية مهما تبنى من خطط إصلاحية متميزة ونافعة، وإن التكليف
الشرعي مع أنه متنوع بحسب المسؤولية فمسؤولية القائد ليست كمسؤولية المقود في
المؤسسة لكنه لا يعفي الجميع من التبعة قائدا ومقودا مهما كان موقعه صغيرا.
إن هذه المنطلقات الست ما لم تتوافر فإن
محاولات الإصلاح من أفكار وتنظيرات وخطط وبرامج عملية لن يكتب لها النجاح، لأن
الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
كما هي سنة التغيير القرآني.