د. عبد العزيز حميد الجميلي
أكاديمي وباحث
ذكرنا في مواضيعنا السابق أننا سنتناول تباعا، الاجراءات
التي رسمها وطبقها الرسول صلى الله عليه وسلم، رغم كل التحديات في حينه، ومنها
كانت قاعدة انطلاق الأمة، ومن هذه الاجراءات: التهيئة والتأسيس ، الاستشراف
والتخطيط ، والبناء ، واختيار المكان.
وقد تناولنا التهيئة
والتأسيس، والاستشراف، وفي هذا الموضوع نتناول:
بناء
الجبهة الداخلية ومواجهة التحديات وتشكيل مؤسسات قيام الدولة الإسلامية الوليدة :
القسم
الأول:
تفرغ
النبي صلى الله عليه وسلم لبناء الجبهة الداخلية ومواجهة التحديات وتشكيل المؤسسات
التي لابد منها لقيام الدولة الوليدة الناهضة ، حيث أن مجتمع المدينة يتكون من
نسيج متنوع ؛ من المؤمنين الأنصار من الأوس والخزرج ، والمؤمنين المهاجرين ،
والمشركين من الأوس والخزرج الذين لم يؤمنوا بعد ، وصنف أعلنوا إٍسلامهم ولم تؤمن
قلوبهم وهم المنافقون، واليهود وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة ، مع تركة
ثقيلة من ماضي هؤلاء جميعهم من وضع مادي ، وثارات لحروب آخرها بُعاث والتي استمرت
120 عاما كما يذكر المؤرخون ، كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يحل هذه
المشكلات جميعها ، بإزالة آثار الماضي ، وتوحيد قلوب المسلمين ، ويؤلف بين سكان
المدينة من مسلمي الأوس والخزرج مع المهاجرين، ويجعلهم كتلة واحدة تقف في وجه
اليهود إذا أرادوا الغدر وهو ديدنهم ، وكذلك يوجد حلا للمعضلة المالية عند
المهاجرين الذين هاجروا بدينهم وتركوا من أجل ذلك الأموال والأوطان .
يقول
د. ماهر عباس جلال ، حول التفرغ للجبهة الداخلية ومواجهة التحديات وتشكيل
الأجهزة المؤسسية :
وبعد
أن تمت الهجرة إلى المدينة المنورة ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم في بني النجار
يوم الجمعة (12 ربيع الأول سنة 1هـ
الموافق 27 سبتمبر سنة 622م)، رأى الرسول أن يخطط لبناء المجتمع الجديد تخطيطاً
جيداً، فوجد نفسه بإزاء تحديات داخلية وخارجية كان عليه أن يتعامل معها بكفاءة
وحنكة سياسية رائعة.
أما
التحديات الداخلية فتتمثل في عدم وجود الأجهزة المؤسسية لإدارة هذا المجتمع وتدبير
شئونه، والتركيبة السكانية، وأخيراً مواجهة اليهود والمنافقين.
ولذا
فإن أول خطوة خطاها الرسول في المجتمع المدني هي إقامة المسجد النبوي ليتخذ منه
مقراً للقيادة والإدارة لكافة أجهزة المجتمع المدني من شئون اقتصادية، وسياسية،
وعسكرية، ودينية، وغيرها. وساهم بنفسه في بنائه في المكان الذي بركت فيه ناقته، ثم
بنى بيوته إلى جانبه ليكون قريباً من مقر القيادة لسرعة اتخاذ القرارات الحاسمة،
والإطلاع على تطورات الأحداث فور حدوثها[1] .
يقول
محمود شاكر في أهمية المسجد :
وكان
لكل حي في المدينة مكان يلتقون ، يسمرون ويسهرون ، يتقاضون ، وينشدون الأشعار ،
فكانت هذه الحال تدل على التفرقة والاختلاف ، فعندما بُنِي المسجد كان مركز
المسلمين جميعا ، ومكان اجتماعهم ، يلتقون به في كل حين ، ويسألون رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، عن أمور دنياهم وأخراهم ، فيأخذون منه ، يرشدهم ويوجّههم ،
يبيعون ويشترون ، ويستقبلون ويجتمعون ، حتى إذا حدثت أصوات تزعج المصلين خُصِّص
جانب من المسجد لأعمال الدنيا وآخر للصلاة والعبادة ، وبهذا تجمّعت الأندية ،
والتقت الأحياء ، وتقاربت القبائل ، وتحابَّت البطون ، وانقلبت التفرقة إلى وحدة ،
وانقلبت التجزئة إلى انسجام ، ولم تعد في المدينة جماعات بل جماعة واحدة ، كما لم
تعد هناك زعامات بل قائد واحد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتلقى من ربه ،
ويعلّم أمّته[2] .
وحول
معالجة التركيبة السكانية يقول د. ماهر عباس جلال :
وبعد
أن شرع في بناء المسجد أراد أن يتفرغ لمعالجة التركيبة السكانية لهذا المجتمع
الجديد، من خلال ثلاث خطوات مهمة:
الأولى
: أنه قام بعمل من أروع ما يحفظه لنا التاريخ، وهو المؤاخاة بين المهاجرين
والأنصار في دار أنس بن مالك، وقد كان عددهم تسعين رجلاً نصفهم من المهاجرين،
ونصفهم من الأنصار، فآخى بينهم على المواساة والتوارث بعد الموت، حتى تذوب بينهم
عصبية الجاهلية، وتسقط فوارق النسب واللون والوطن .
وقد
ضرب الأنصار أروع الأمثال في الإيثار والمواساة لإخوانهم المهاجرين، فقد روى
الإمام البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد
الرحمن وسعد بن الربيع، فقال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فاقسم مالي
نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها
فتزوجها. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، وأين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع،
فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن....
وروى
البخاري أيضاً عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه
وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، فقالوا: فتكفونا المئونة ونشرككم
في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا .
وفي
إرساء أسس التكافل الاجتماعي ومنظومة القيم الاجتماعية يقول د. ماهر عباس جلال :
وفي
سبيل مجتمع متماسك متآزر ومتجانس وضع الرسول- صلى الله عليه وسلم- أسس التكافل
الاجتماعي بين المسلمين. من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: « يا أيها الناس، افشوا
السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة
بسلام» . وقوله: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» ، وقوله صلى الله عليه
وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وقوله أيضاً: «المسلم أخو
المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن
مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم
القيامة»[3].
ثم
زرع فيهم القيم السامية والمثل الجليلة، ودعاهم إلى التمسك بالأخلاق النبيلة، وضرب
لهم الأمثلة الحية من نفسه، فكان- صلى الله عليه وسلم- القدوة لهم في الأمجاد
والفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، مما جعلهم يبادرون إلى امتثالها،
ويتسابقون إلى التحلي بها، مما يحقق الوحدة الإسلامية والسياسية بين المسلمين في
هذه الدولة الإسلامية الناشئة[4].
وفي
تحقيق الوحدة السياسية يقول :
ورأى
الرسول ضرورة تحقيق الوحدة السياسية في هذا المجتمع الناشئ بين العناصر الوطنية
كافة، وقد تحولُ دون ذلك بعض العناصر السكانية التي تعد مصدر القلاقل والفتن مثل
اليهود، ومن أسلم من مشركي يثرب وهو يبطن العداوة للإسلام والمسلمين.
أما
بالنسبة لليهود في المدينة، فكانوا ثلاث قبائل مشهورة : بنو قينقاع حلفاء الخزرج،
وبنو النضير، وبنو قريظة. وهاتان القبيلتان الأخيرتان كانتا حليفتين للأوس. وهؤلاء
اليهود كانوا معروفين بالتمهر في فنون التجارة والكسب والتعامل بالربا، وبعصبيتهم
الجنسية، كما كانوا أصحاب دسائس ومؤامرات، يذكون نار العداوة والشحناء بين الأوس
والخزرج، ويثيرون بينهما الحروب الدائمة.
وحينما
نزل الرسول بيثرب كان اليهود يبطنون له وللمسلمين العداوة والبغضاء، فرأى الرسول
أن يقوم بحركة وفاق بينهم وبين المسلمين، فعقد معهم معاهدة تحقق الوحدة السياسية
والنظامية في المجتمع المدني، وتكفل لليهود مطلق الحرية في الدين والمال، وتدعو
إلى التلاحم بين اليهود والمسلمين لخدمة المصالح العليا للوطن ، فيعم بذلك الأمن
والسلام في هذا المجتمع الناشئ[5].
وكانت
هناك جماعة من مشركي يثرب لم يكن لها سيطرة على المسلمين، أسلم بعضهم وكان يبطن
العداوة الشديدة للرسول والمسلمين، فلما لم يستطيعوا مناوأتهم أسلموا ظاهرين الود
والصفاء للمسلمين، على حين يكيدون خفية للرسول والمسلمين بكل سبيل ممكن ، فكان
الرسول يضعهم تحت المراقبة الشديدة، وعلى رأسهم
عبدالله بن أبي، ويتعامل معهم بحنكة شديدة ليفسد
عليهم خططهم، ويحفظ على المجتمع الإسلامي تماسكه.
أما
بصدد مواجهة التحديات الخارجية فيقول د. ماهر عباس جلال :
بقيت
بعد ذلك التحديات الخارجية لهذا المجتمع المدني الناشئ، ومصدر هذه التحديات
استفزازات قريش التي زادها حنقاً أن أفلت من بين يديها المسلمون ووجدوا بالمدينة
مأمنا ومقراً، هذا بالإضافة إلى خطر الأعراب والقبائل العربية المتاخمة للمدينة
المنورة. وقد كان للرسول –صلى الله عليه وسلم- مع هؤلاء وأولئك سلسلة متواصلة من
الكفاح المسلح والغزوات والسرايا والمعارك الفاصلة مثل بدر وأحد، إلى أن تم توقيع
صلح الحديبية مع قريش سنة (6هـ) ليتنفس المسلمون الصعداء، وليبدأ طور جديد في حياة
المسلمين، ويبدأ النشاط الدعوي لهذا المجتمع، ونشر الإسلام، والنشاط العسكري خارج
حدود الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة[6].
أما
عن الإجراءات التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم لتأمين نواة الدولة الإسلامية
الأولى، وبطريقة
أكثر تفصيلا عما نقلناه عن الدكتور ماهر عباس جلال، فيقول محمد عبد الله
محمد خضر :
فما
هي الإجراءات التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم لتأمين نواة الدولة الإسلامية
الأولى الممثلة في المدينة المنورة؟ أو بتعبير آخر ، ما هي عناصر المدينة
الإسلامية كما وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم .
يمكن
تصنيف هذه العناصر إلى نوعين، عناصر مادية وعناصر تنظيمية .
العناصر
المادية:
وتتمثل
في مجموعة من الإنجازات ذات الطابع العمراني التي قام بها الرسول صلى الله عليه
وسلم داخل المدينة ، التي نجم عنها تغير جذري في هيكلتها العمرانية ، وذلك
بالموازاة مع التغيرات العميقة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي
والتنظيمي ، في هذا الإطار يمكن أن نذكر المنشآت التالية:
أولاً:
بناء المسجد: كان بناء المسجد هو أول عمل باشره الرسول صلى الله عليه وسلم بعد
دخوله (يثرب) وقد اختار له الموضع الذي بركت فيه ناقته وكان مربدا لغلامين يتيمين من الأنصار في كفالة سعد بن
زرارة ....
إن
الأهمية الروحية للمسجد ومركزية دوره في الحياة العامة للمسلمين باعتباره مجالا
وفضاء ليس فقط للعبادة ولكن ليتلقى فيه المسلمون تعاليم الإسلام وتوجهاته ، ومنتدى
تلتقي فيه وتتآلف العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزاعات
الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشؤون، وبرلمانا لعقد المجالس الاستشارية
التنفيذية ومع ذلك كله (مأوى) لعدد كبير من المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم
دار ولا مال ولا أهل ....
ثانيا:
تخطيط الأحياء السكنية: حول المسجد الجامع أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم انطلاقة
إنشاء مجموعة من الأحياء، وذلك من خلال عملية تقسيم الأراضي الشاغرة التي وهبها له
الأنصار ووضعوها تحت تصرفه عليه الصلاة والسلام لتوزيعها على المهاجرين قصد
استيطانها .
فقد
ذكر ابن سلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة جعل له أهلها كل
أرض لا يبلغها الماء يصنع بها ما يشاء (13) وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم
بتوزيع هذه الأراضي وفق نظام الخطط ، حيث أقطع لكل قبيلة خطة خاصة بها تاركا لها
حرية التصرف في تقسيمها بين أفرادها وفقا لظروفها وإمكاناتها وحاجاتها[7] .
وهكذا
خط مثلا لبني زهرة من ناحية مؤخرة المسجد، ولعبد الرحمن بن عوف الحصن المعروف
باسمه ، وأقطع الزبير بن العوام بقيعا واسعا (14)، وقد أدت عمليات الاختطاط هذه
التي تعني في المدن الإسلامية الأولى حيازة موقع ما في منطقة معلومة بإذن من
السلطات قصد إعماره (15)، أدت هذه العمليات إلى تجميع النسيج العمراني للمدينة بعد
تعمير المجالات الفارغة التي كانت تفصل بين مختلف أحيائها .
من
خلال طريقة توزيع الأراضي أو ما يمكن أن نسميه "بالسياسية العقارية"
التي انتهجها الرسول صلى الله عليه وسلم ، يتبين على أنه عليه الصلاة والسلام أراد
التوفيق بين اعتبارين أساسيين، متناقضين في الظاهر، لكن في واقع الأمر هما
متكاملان تماما، ويؤديان وظيفة واحدة ضرورية وحيوية جدا لأية مدينة، ويتعلق الأمر
بمسألة الاندماج الاجتماعي والاعتبارين اللذين سعا من خلالهما الرسول صلى الله
عليه وسلم ، لتحقيق هذه الغاية على الطريقة الإسلامية طبعا ، هما: من جهة تذويب
الفوارق القبلية، والهويات القائمة على اعتبارات الدم والنسب والعشيرة، لصالح هوية
جديدة تعلو فوق كل الهويات، هي هوية العقيدة بالنسبة للمسلمين فيما بينهم، وهوية
المواطنة بالنسبة لسكان المدينة في عمومهم مسلمين، يهود كفار ... ومن جهة ثانية
احترم الرسول صلى الله عليه وسلم الحساسيات القبلية والروابط العائلية التي كانت
مستحكمة في البنية الاجتماعية العربية، وذلك في الحدود التي لا تتناقض فيه مع
الهوية الجديدة للأمة، وهكذا تحققت وحدة المدينة على المستوى المجالي واندماجها
على المستوى الاجتماعي بعد أن كانت وحدات متفرقة وأحياناً متناحرة دون كيان ولا
هوية[8] .
[1] ( د. ماهر عباس جلال - جامعة
القاهرة ، من مقال : المجتمع الإسلامي بالمدينة المنورة ، موقع مجلة المنهل على
النت )
[3] ( د. ماهر عباس جلال - جامعة
القاهرة ، من مقال : المجتمع الإسلامي بالمدينة المنورة ، موقع مجلة المنهل على
النت )
[4] ( د. ماهر عباس جلال - جامعة
القاهرة ، من مقال : المجتمع الإسلامي بالمدينة المنورة ، موقع مجلة المنهل على
النت )
[5] ( د. ماهر عباس جلال - جامعة
القاهرة ، من مقال : المجتمع الإسلامي بالمدينة المنورة ، موقع مجلة المنهل على
النت )
[6] ( د. ماهر عباس جلال - جامعة
القاهرة ، من مقال : المجتمع الإسلامي بالمدينة المنورة ، موقع مجلة المنهل على
النت )
[7] ( محمد عبد
الله محمد خضر ، من مقال : الهجرة النبوية وتأسيس المدينة الإسلامية ، http://dubeibat.ahlamontada.com/t294-topic )
[8] ( محمد عبد
الله محمد خضر ، من مقال : الهجرة النبوية وتأسيس المدينة الإسلامية ، http://dubeibat.ahlamontada.com/t294-topic )