نشوان عادل
البدراني
كاتب وباحث
إن الاختلاف الفكري سنة كونية ولا بد من
وقوعه؛ وذلك لاختلاف العقول والطبائع فهو من لوازم وطبيعة البشر، وقد سأل النبي (r) لأمته ألا تهلك بسنة عامة، وألا يسلط الله عليهم عدواً من غيرهم
يجتاحهم، فاستجاب الله له هاتين، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم فلم يستجب له([1]).
وعَنْ جَابِرٍ (t)، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ
عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ))([2])
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (r): «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، قَالَ: ((أَوْ مِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)) ([3])،
قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» ((أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ
بَأْسَ بَعْضٍ)) ([4])،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (r): (هَذَا أَهْوَنُ - أَوْ هَذَا أَيْسَرُ)([5]).
فوقوع الخلاف هو أهون من الإهلاك بسنة عامة،
وحسن التصرف واستيعاب الخلاف وتخفيف آثاره على القلوب والنفوس، وتضييق مجالاته
أهون وأيسر، بل هو الواجب شرعا وعقلا، ومهما كان القدر الكوني، فإننا مأمورون شرعا
بتجنب أسباب الخلاف.
فمن عظيم مصابنا
أن تسلط الجُهال وأصحاب الاهواء والعقول الضيقة أن طعنوا في مخالفيهم وأخرجوهم من
الملة واستحلوا دماءهم وهذا فعل منكر وخبيث، والذي فعل ذلك أول مرَّة هم أجدادهم
الخوارج وأمثالهم، وقد اتفق علماء اهل السنة والجماعة على خلاف ذلك.
فتكفير المخالف
وقتله هو إرهاب فكري وجسدي، وهو فعل العاجز الذي لا حجة له ولا برهان؛ لان الفكر
السليم لا يستخدم القوة والسنان، بل الحجة والبيان، لا القتل والغصب والإكراه،
فهذا الفعل شنيع وخطر وله أثار سلبية على الحياة بعمومها، وهو مخالف لنصوص الكتاب
والسنة، بل وللعقل والفطرة السليمة، فالله تعالى بيَّن لنا أنه لا يصح أن نُكره
أحداً على اعتناق فكر أو رأي وهو غير مقتنع به ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد
تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ))([6])،
فمن أسمى وأعلى خصائص الإنسانية { حرية الإختيار} فإن سلبنا ذلك فقد سلبنا
الإنسانية، ولم تذكر لنا السيرة المعطرة أن سيدنا محمدا (r) أجبر أحدا على اعتناق فكر أو رأي، سواء أكان مسلما أم غير مسلم،
وإنما كان يدعو الجميع بالحجة والبيان.
ومما يزيد الطين
بلة جهلهم بالسيرة والواقع والتاريخ فيقولون أن الإسلام انتشر بالسيف! ولو
استنطقنا التاريخ لكذب ذلك ولقال أن الإسلام ما استخدم الإرهاب الفكري والجسدي على
المخالفين له بالفكر والرأي، ولم يُضيّق عليهم حتى يقتنعوا بفكره، بل كان النبي (r) يستخدم الحجة والبرهان والدليل والبيان، فمنهم من يقبل ومنهم من
لا يقبل، ومع ذلك ما استخدم اسلوبا فيه غِلظة أو إرهابا للمخالف بدليل فعله مع
المنافقين الذين فعلوا الأفاعيل، فاستأذن بعضُ الصحابة رسولَ الله (r) أن يقتلهم، فقال لهم (r): (لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)([7])،
مع العلم أنهم كانوا من المؤذين والمعادين له والمتآمرين عليه.
عن أبي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيَّ (t) قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ (r) وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا أَتَاهُ ذُو
الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
اعْدِلْ، فَقَالَ: ( وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟! قَدْ خِبْتَ
وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ)، فَقَالَ عُمَرُ (t): يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ،
فَقَالَ: ( دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ
صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ
تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ
الرَّمِيَّةِ....)([8]).
حتى قال الإمام
قال السندي (رحمه الله): "ظاهر هذا الحديث يفيد أن المسلم لا يقتل المسلم
بمثل هذه الكلمة المشتملة على مثل هذا التعريض المؤدي إلى إيذاء النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم، إذ ظاهر هذا الحديث يفيد أنه لا سلامة لم يتعرض له، وجعل إسلامه
الظاهري علة لعصمته مع وجود هذه الكلمة منه"([9]).
فهذا فعله (r) مع مخالفه في الفكر والرأي، فلم يسجنه ولم يعذبه ولم يهجره ولا
أمر بهجره، ولم يُبح قتله ولا مارس أي إرهاب فكري أو جسدي ضده، وإنما بَيَّن
وحذَّر من فكره المتشدد المتطرف، وهذا أيضا ما تربى عليه الصحابة الكرام، فسيدنا
علي (t) لم يُقاتل الخوارج حتى هم بادؤوه وقاتلوه
قاتلهم، وهم الذين كانوا ينتقدون سياسته واعترضوا عليه وشاكلوه حتى كفَّروه، ومع
ذلك لم يُقاتلهم حتى بدأو هم بذلك.
فالاختلاف في
الرأي لا يستدعي التكفير والتقتيل؛ لان ديننا الحنيف علمنا أنّ رابطة الإسلام
تجمعنا بكل مسلم شهد الشهادتين، تجمعنا بأقلهم وأكثرهم التزاماً، وهذا يستلزم منا
موالاة له بحسب صلاحه وتقواه، ولكنها لا تنقلب الى معاداة ومفاصلة إلا إذا خرج من
دائرة الاسلام بالضوابط المعروفة، وما دام مسلما فإنّ له ما لعموم المسلمين.
فكم يُعلّم هذا
الفكر الضيق السلبي (ما نختلف فيه)، ويُنسي أو يتناسى الكثير مما (نتفق عليه)، فما
الذي جنيناه من هذا الأمر السلبي إلاّ أن تولدت العصبيات والولاءات، فإما أنت معي
أو ضدي، وحولنا الكثيرين الى خصوم لنا، وما زادنا هذا الأفُق الضيق والفكر المتحجر
إلاّ مزيدا من التفكك والضعف.
أما آن لكم أن
تتحرر من عصبياتكم وتتخلصوا من الولاءات وتستظلوا بمظلة الاسلام الواسعة، وأن
تمتلكوا صدورا رحبة واسعة، وأفكارا كبيرة مستنيرة بنور الإيمان والرحمة والعدل
والإنصاف، وأن تخرجوا من آفاقكم الضيقة؟
فكم نحن بحاجة
إلى روح جديدة وفكر دقيق وعميق نعتمد فيهما المقاصد الشرعية، التي هي نفسها المقاصد
الإنسانية، وإلى فقه جديد للحياة كلها، يحمل لمسات حانية، نحافظ فيه على الجسدية
الواحدة، ولا نجرح المشاعر، وأن نعتمد المتفق عليه – وما أكثره – ونترك المختلف
فيه – وما أقله- ؛ حتى تأتلف قلوبنا.
فأيُّ منهج يقتل
مخالفه في الفكر والرأي لهو منهج وفكر هزيل وضعيف لا يملك حجة وبرهانا، ولا قوة في
فكره ومعتقده؛ لان المنهج القويم والمسلك السليم هو من يترك منطق القوة والسنان؛
لأنه منطق الضعفاء، ويقارع الفكر بالفكر والحجة بالحجة والبيان ثم بعد ذلك ((فَمَنْ
شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ))([10]).