د. هيثم عبد السلام
أكاديمي وباحث
ان الدراسات
الفقهية كثيرة وكبيرة في العراق، ولكن بلا شك اكثرها اهمية هو النتاج الجامعي لما
تمتاز بها الرسائل والاطاريح من دقة وجودة في الاصالة والبحث وهي خير معين لتتبع
مستوى ما يطرح من فقه يخدم الناس ويفيد المجتمع (كما يفترض).
والحقيقة ان
الدراسات العليا الشرعية في العراق ليس عمرها بالطويل، فأول دراسات عليا افتتحت في
جامعة بغداد/ كلية العلوم الاسلامية في منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم، ثم
تبعتها في التسعينيات: الجامعه العراقية "الجامعة الاسلامية سابقا"، ثم الان
في جميع الجامعات العراقية في المحافظات توجد فيها "كلية العلوم الاسلامية "
وبعضها بدأت بتخريج الدفعات الاولى من طلبة الدراسات العليا.
واكثر المدرسين
في الكليات الشرعية من الكلية الام "جامعة بغداد /كلية العلوم الاسلامية"
وتتلمذوا على يد اساتذتها ، الذين درسوا وتعلموا في الجامعات المصرية وحصلوا على
شهاداتهم منها.
وعندما تدقق فيما
كتبوا تجد ان اكثرهم قد كتب في
شخصيات من الصحابة او التابعين او تابع التابعين ، فينهض احدهم بجمع حياته
الشخصية ويجمع اقواله الفقهية ويذكر معها
ارآء المذاهب الاسلامية المعروفة , فمثلا استاذنا الدكتور هاشم جميل كتب عن "الامام
سعيد بن المسيب "، واستاذنا الدكتور عبدالله الجبوري كتب عن " الامام
الاوزاعي"، واستاذنا الدكتور عبد
الستار حامد كتب عن "الامام زفر"، والاستاذ الدكتور محمود مطلوب كتب عن
"الامام ابو يوسف"، وحتى في الاختصاصات
غير فقهية قد كتبوا في الشخصيات فالدكتور حارث الضاري رحمه الله في الحديث كتب عن "الامام الزهري"، والاستاذ الدكتور
محمد رمضان في العقيدة كتب عن "الامام الباقلاني وارآءه الكلامية"،
واستاذنا الدكتور محسن عبد الحميد في التفسير كتب في الماجستير عن "تفسير الالوسي"، وفي الدكتوراه عن "تفسير الرازي".
لا اعرف ما السبب
الذي دفع هؤلاء جميعا في تناول الشخصيات! هل كان بدافع ممن درسهم بمصر, ولعل في
مصر ايضا كان التوجه في الكتابة على هذا المنوال, او برغبة منهم من غير تأثر
باحد .
ومن الطبيعي حين
يدرس هؤلاء الاساتذة الافاضل ان يصطبغ طلابهم
بفكرهم وطريقتهم فاندفع أغلب طلاب الدراسات العليا ( الماجستير والدكتوراه )
لسنوات في الكتابه عن شخصيات سواء في الفقه او الحديث او التفسير او غيرها ، واذكر
اننا كنا في الماجستير سنه 1995م في الجامعة العراقية عشرة طلاب "8" منهم اختاروا شخصيات فقهية و"2"
اختاروا مواضيع أخرى.
ثم انتقلت هذه
العدوى الى البحوث ، فعندما تعين هؤلاء الطلاب كمدرسين اخذ الكل يبحث عن شخصيات لها ارآء فقهية حتى ولو
"خمسة" ارآء من غير التفات الى
قيمتها العلمية ويكتب عنها البحث فكتب عن شخصيات وارآء ليس لها وزن ، وقد كتبت في الماجستير عن شخصية فقهية واكملت العمل بها سنة
1997 م والى اليوم لم اسأل عنها ولاعن ارآئها، ويبدوا اني لن اسأل عنها الى الموت !
ان هذه الاعمال
تنفع الطالب فقط، فتعلمه كيف يكتب رسالة علمية، اما الاراء الفقهية للشخصيات فان
جميعها او معظمها, قال بها اصحاب المذاهب الاسلامية المشهورة فليس فيها ماهو غير معروف الا ما ندر .
وعندما اصبحت
دراسة الشخصيات متعذرة لشحتها اخذت الكتابة تدور حول "اختيارات
اوترجيحات" احدى الشخصيات الفقهية، وهي على غرار ماسبق من دراسات لشخصيات
فقهية يتناول فيها الباحث سيرة حياة الفقيه ثم يتكلم عن "ترجيحاته او اختيارته"
مع المقارنة بالمذاهب الاسلامية المشهورة.
واذا كان هناك
مايبرر اقدام الاساتذة الافاضل في الكتابة عن الشخصيات بحجة احياء ارآء الائمة
الاعلام المتناثرة وجمعها والتعريف بها ، فان ماقام به طلابهم لايرقى الى مستوهم لان
ماتناولوه من شخصيات فقهية اقل رتبة بكثير من الائمة الاعلام الذين ذكرناهم آنفا .
وعندما اصبحت هذه
الدراسة الفقهية ممجوجة ومملة مع تعذر
الحصول على شخصية فقهية لم يكتب عنها بغض النظر عن مكانة هذا الفقيه في دنيا الفقه
جاءت المرحلة الثانية : وهي تحقيق المخطوط
, فاندفع الطلاب بهذا الاتجاه فالكل يبحث عن مخطوط وما حصل مع الشخصيات حصل
مع المخطوط رسائل "ماجستير و دكتوراه وبحوث ترقية" الكل يلهث ويبحث عن
المخطوط في الانترنت من غير كد ولاتعب ويقوم بتخريج الاحاديث والآيات والاقوال .
ونحن الان في المرحلة الاخيرة من هذه الحالة ، فأصبح
الجميع على قناعة ، ان هذه الاعمال غير مثمرة
وفيها المسروق اوغير المهم للناس والمجتمع.
وصفوة القول ان
العمل الفقهي في العراق من خلال تتبع ماانتجته الجامعات العراقية مر بمرحلتين:
الاولى : الكتابة في الشخصيات وضمنها: "الترجيحات والاختيارات"، والمرحله
الثانية : تحقيق المخطوط.
ولا نعرف عن ماذا ستكون الكتابة في المرحلة الثالثة، وربما
نعود الى المرحلة الاولى ثم الى الثانية
فيكون الدور والتسلسل كما يقول المناطقة، ويبقى السؤال هو: متى نصل الى الفقه الواقعي المعاصر..؟