عبد المالك
السعدي
كاتب ومدرب
كثيرا ما يقف الانسان عاجزا عن تحديد مفهوم للإيمان
وخاصة بعد الاستدعاء النصي للتراث وقولبته بطريقة تجعل كل من خرج عن ذلك المفهوم
(التراثي) ليس بمؤمنا، وفي الحقيقة ان هذا النموذج التراثي انما هو في حقيقته (جزء
من ردود علم الكلام) على فرق وفلسفات كانت قائمة في فترة زمنية معينة ثم اصبح ذلك
الفهم (والمصطلح "العقائدي!") هو بمثابة (الوحي) فقدس ثم اصبح مقياسا
لدخول وخروج الناس في دائرة الايمان والاسلام , وبذلك يضيع
الفرد بين اختلاف التعريفات التي جاءت في
تراثنا الفقهي والعقائدي بل قد تضيع حياته
وتنتهك حرمته تأسيسا على ذلك الفهم التراثي المقدس .
اما حقيقة الايمان فقد جاءت بطريقة (نصية يدركها
العقل ) و (وعقلية متفاعلة مع الكون ) فأثبتها النص (تأسيسا لمنهجية "للإيمان الحقيقي" ) وهو ذلك
الايمان الذي الذي توصل اليه سيدنا ابراهيم ووضع له مجموعة من الخطوات والاسس
المنطقية التي اذا ما اتبعها اي (عاقل) سيتوصل الى نتائج عقلانية وثابتة ومقنعة
ومطمئنة وقد جاءت هذه التأسيسات عند سيدنا إبراهيم عليه السلام على ثلاثة أركان أو
منطلقات هي :
اولا : التساؤل
طريق الإيمان الحقيقي
وتجلى ذلك من خلال الآيات القرآنية في سورة
الأنعام { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا
آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ●وَكَذَٰلِكَ
نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ●فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ
قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ●فَلَمَّا
رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن
لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ●فَلَمَّا
رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا
أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ●إِنِّي
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا
أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام :75-79]
حيث نجد أن هناك
ثلاث أنواع من التساؤل الذي إتبعه سيدنا إبراهيم عليه السلام
ا-التساؤل مع
أبيه وقومه: وهي نقطة المفاصلة الحقيقية لدى إبراهيم عليه السلام وبنفس الوقت نقطة
الانعتاق والإنطلاق نحو العودة إلى الفطرة واستخدام العقل بطريقة سليمة فهو لم
يرضخ (لجبرية) قومه بأن يعبد ما كان يعبد الآباء والأجداد إنما بدأ بالتفكر
والتساؤل والبحث عن إيمان يقنع عقله الفتي ويطمئن قلبه الحائر فتوجه إلى قومه يسألهم
عن تلك الآلهة التي يصنعها لهم أبيه كيف يمكن أن تكون هي خالقتهم؟ وبذلك ابتدأ زلزالا
في عقله وعقول من حوله فادرك بسخف اجوبتهم
(الجبرية التسليمية السلبية) أن الإله الحق ليس هو ما يعبدون( وهذه الالهة قد
تتكرر عبر الزمان والمكان" الهة /افكار/ تراث / جماعات/ ..") فانطلق يبحث ويتساءل مرة آخرى وهذه المرة مع
الكون واجرامه.
ب-التساؤل مع
الكون : ويظهر ذلك بطريقة الاستدلال العقلي والمنطقي على اهمية التفكر في (الكون)
والوصول منه إلى معرفة الخالق جل في علاه فهي حوارية قل إن تجد مثلها في أي كتاب
مقدس بل لن تجدها إلا في القرآن لأنه جاء ليدفع الناس إلى قراءة الكون المنظور كما
يطلب منهم أن يقرأوا القرآن المسطور ..إذن هي الخطوة الثانية في نفي متسلسلة منطقي
لكل الآلهة المزعومة أو المتوقعة حتى لو كانت أكبر الإجرام السماوية ..وهنا عندما
ادرك أن كل هذه الاجرام (الاجرام هنا تمتلك رمزية عبر الزمان والمكان "الهة /
افكار / تراث / جماعات / احزاب ...")آفلة ..انطلق إلى (التساؤل الإستدلالي)
مع نفسه
ج - التساؤل مع
النفس : هي لحظة وئام بين العقل المنطقي والقلب العاطفي بين الروح المتعلقة
ببارئها وبين الجسد المؤمن بكل ما هو مادي ....هي لحظة تساؤل للنفس ولحظة وصول إلى
قناعة بأن الإله الحق لا تدركه الأبصار انه خالق (قومه والكون والإنسان بل هو الذي
فطر كل شيء) إذن فهو المستحق الوحيد بأن أفرد له صلاتي وحياتي كلها ..بأن امتثل
للوظيفة التي كلفني بها .. بأن اعمل كل أعمالي واتحرك لبناء هذه الحياة وأنا متيقن
بأنه يراني..
ثانيا : الشك ..خطوة نحو زيادة الايمان
بعد عدة سنوات
من الإيمان الاستدلالي والحركة في الحياة والانغماس في الماديات كضرورة لبناء
الحضارة قد يبلى الايمان كما يبلى الثوب فيحتاج إلى إعادة إنعاش. .يأتي الشك الإبراهيمي
ليس لإعادة الايمان إلى طبيعته فحسب بل ليزداد ايمانا ... {وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن
ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ
الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ
جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ} [البقرة : 260]
وفي هذا الشك
ثلاث وقفات
1- ليس هناك خطوط حمراء : نعم أنها نقطة حاسمة في
تاريخ الايمان يقررها القرآن أن (سل مابدا لك) استعمل عقلك واقتنع ثم تحرك فعبارة
(نفذ ثم ناقش او قولبة العقول وتقديس التراث) قد تم إلغاؤها في هذه الحضارة ..تأتي
هذه الآية في العهد المدني لتكمل قصة الايمان الإبراهيمي أي أنها جاءت بعد حركة
الصحابة في الحياة وانغماسهم في بناء (دولتهم/حضارتهم المرتقبة)و تعاملهم مع
الماديات الضرورية لبناء الحياة .. فأصبح هناك ركام على ذلك الايمان كنتيجة طبيعية
للتفاعل بين الثنائيات(الوحي /الواقع) (المادة/الروح)(العقل/العاطفة)(الفرد/الجماعة)..
فتنزل هذه الآية لتجدد ذلك الايمان بل لتعيد مفهوم التساؤل مرة أخرى إلى الواجهة
ولكن هذه المرة بطابعه المدني ..
2- الرقي في
الأسلوب :المتأمل لطريقة الشك الأبراهيمي وطريقة عرضها يجدها قمة في الرقي في
التساؤل وطلب الأدلة فلم يتجاوز سيدنا إبراهيم عليه السلام أسلوب الأدب مع الله
رغم أنه امتلك جراءة في طرح تساؤله فلم ينس في لحظة (الضعف العاطفي)و (القوة
العقلية) الأدب في التعامل مع الله تعالى وهذه الحقيقة تأتي في العهد المدني الذي
بدأ في الاحتكاك مع ثقافات وأديان اخرى تمتلك(رؤية) خاصة عن (الله) قد لا تتفق مع
الرؤية الإسلامية
وفي مثل هذا
التفاعل بين (الثقافة الإسلامية) المبنية على ركنين أساسيين (الوحي الإلهي والعقل)
و (ثقافات ارضية) اختلط فيها الوحي مع البشري المادي مع الفلسفي السفسطائي تأتي
هذه الآية لتعمق هذا المفهوم في وجدان وعقل (صناعة الحضارة) وتنطلق بهم إلى أعلى
درجات الرقي في الحوار الذي سيكون منطلقا اساسيا في هذه الحضارة الوليدة وتنتقل
بالشك من مرحلة الجدل إلى مرحلة البحث عن الأدلة (أرني كيف) ولم يقل (هل تحيي)...
3- الاطمئنان
القلبي :
بعد
البحث والاستكشاف بطريقة (التجربة العملية) والتي اشتملت على أركان البحث العلمي
المنطقي كاملة يأتي الاطمئنان القلبي الذي سينتقل بالإيمان إلى مرحلة آخر هي
مرحلة (الايمان التطبيقي)
ثالثا: الإيمان التطبيقي:
هي مرحلة العودة إلى (الفردوس) الذي أخرجنا منه إبليس عندما (اخفق) ابونا آدم عليه
السلام في أول الأمر من الانتقال إليه، يأتي سيدنا إبراهيم ليعيدنا إلى ذلك
الفردوس مرة أخرى بالانتقال بنا إلى مرحلة الايمان التطبيقي والذي اشتمل على ثلاثة
نقلت:
ا-التسليم
الإيجابي للأقدار الإلهية : {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [ابراهيم : 37]
انه ليس تسليما
سلبيا ينتظر أن يفعل به القدر ما يشاء كالريشة في مهب الريح وإنما هو (إيمان
تسليمي ايجابي) بأن الله لن يضيع أهله فسيرزقهم رزقا حسنا وتهوي إليهم أفئدة الناس
..وقد ادركت أمنا هاجر ذلك الايمان الإيجابي فسألت أبونا إبراهيم (ءأالله أمرك
بذلك؟ فقال نعم، فقالت: فلن يضيعنا الله) ورغم ذلك بدأت بالسعي بين جبلي الصفا
والمروة لتدفع أقدار السوء (العطش) والعطش هنا رمزية لكل أنواع العطش (الفكري،
العقائدي، الروحي، المادي، الثقافي، الحضاري) هذا العطش هو (قدر سوء) دفعته أمنا
بالسعي والسعي هو( قدر الخير) الذي ندفع فيه كل أنواع الظمأ.. الذي انحدرت إليه
أمة كان من المفترض أن تستلم راية العودة إلى الفردوس بقيادة سنة خير الأنام وعلى
(ملة) طريقة إبراهيم عليه السلام.
ب- الامتثال
للأوامر الإلهية: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي
أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا
أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}
[الصافات : 102]من الطبيعي جدا أن تسلم مرحلة التسليم لقدر الله إلى مرحلة
(الامتثال الطوعي) للأوامر الإلهية هذا الامتثال هو الخطوة الأساسية لمرحلة
التمكين والاستخلاف وهو الشرط الأساسي لختام رحلة العودة للفردوس المفقود الذي
فقدناه يوم سبانا (إبليس) بشهواتنا وشبهاتنا ..هذا الامتثال بتجلى بالوصول الى
تحقيق مقاصد الوحي في حياتنا صغيرها وكبيرها هو الركن الذي سنبني
عليه فردوسنا الأرضي وفقا للمنهج الإلهي الذي ستتحقق فيه سعادتي الدنيا والآخرة،
هذا الامتثال تمثل بحكمة الشيوخ (إبراهيم) عليه السلام وفتوة الشباب وعزمهم
(إسماعيل) عليه السلام ... (يا أبت أفعل ما تامر) ...إنه إعانة من الشاب للشيخ على
تطبيق ذلك الأمر أنه إشارة لتمازج الأجيال لتحقيق الوظيفة (العبادة /
الاستخلاف)..أنه ليس البقاء الأصلح انه ليس الصراع من أجل البقاء...إنه العكس من
ذلك البقاء لأكثر تعاونا وأكثر توازنا ...إنه التعاون من أجل الحياة ..حياة الجميع
حياة توازن بين طياتها المادي والروحي، العقلي والعاطفي...
ج-البناء
الحضاري والاتصال بين السماء والأرض: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ
مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ●رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن
ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا
ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ●رَبَّنَا
وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة :127-129]أنها اهم لحظة في حياة البشرية أنها لحظة
التحقق الإنساني لحظة الفوز لحظة العودة إلى الفردوس وبناءه , لحظة أداء الوظيفة
التي كلف الإنسان بها من قبل من استخلفه ..لحظة بناء ذلك البيت الذي أصبح رمزا للحضارة
التي اسعدت البشرية، تلك الحضارة التي شعر الإنسان فيها بالطمأنينة والتوازن
والراحة ورفعته الى قمم السماء كذلك البيت الذي رفع قواعده أبينا إبراهيم عليه
السلام ..ذلك البيت الذي أصبح مثابة للناس وأمنا من كل المخاوف(مادية/معنوية)..ذلك
البيت الذي تعاون في بناءه الأب (الشيخ) بحكمته والابن (الشاب) بفتوته .. ليكون
رمزا على تفاعل الأجيال في أداء وظيفتها في الوجود ،إنها البناء الختامي لذلك
الايمان الذي ابتدأ برحلة البحث واستمر حتى وصل إلى الفردوس السماوي الأرضي.
هذه هي الاسس التي وضعت ليتفاعل العقل مع (القرآن
المسطور) من جهة فيبحث عن التلائم والتناغم بينه وبين (القرآن المنظور) من جهة
اخرى فيثبت الاصول الثلاثة عقلا (الايمان
بوجود الله تعالى ووحدانيته والرسالة
والمحمدية والقرآن كتاب الله تعالى) وبذلك يجرد كل الالهة (الافكار / الاحزاب /
الجماعات / التنظيمات / التراث / ..) من سلطتها الزمانية والمكانية وينزع عنها
قدسيتها ليعيدها الى خالق الزمان والمكان
ثم الى اداة فهم ذلك الزمان والمكان ليحقق الفردوس ويستعيده ذلك الفردوس الذي يسعد
الانسان (اي انسان) بغض النظر عن اعتقاده وانتمائه.