د. وليد البياتي
باحث وكاتب
في عصر السرعة..عصر الانجذاب السريع.. وعصر الملل السريع.. عصر المختصرات.. عصر : وانت ماشي.. عصر ركب ثم شغل (plug and play) ... عصر الاستخدام لمرة واحدة.. عصر الجاهز والمتاح القريب.. عصر اللامبالات.. عصر النكات.. عصر الفهلوة والدم الخفيف.. عصر الفوضى والسخرية من كل شيئ..
كيف يمكن للمثقف الجاد.. ان يتناول موضوعات رصينة.. شديدة على الافهام الراقية.. كيف له ان يتناول قضايا تخص الامة.. ان يطرح ما يتعلق بمصير البلاد.. مباحث تحتاج الى دقة وتركيز ومتابعة وحني ظهور واهتمام بالغ...
ان الاغلبية الغالبة باتت تترك كل ما هو تقليدي وتراثي ومعروف الى ماهو جديد وثائر ومستغرب.. وتجد لذة في التفرد والفات النظر.. انه الانتقال من التقليدي الملتزم الى التقليد المجنون...
انه التباهي في التحول .. اي تحول .. التحول والمتحولون.. التحول من الورق الى الشاشة ومن الكلام الجاد العقلاني الى التهريج والتنكيت... بل والتحول بين الجنس البشري ذاته ومحاولة التحول من الجنس البشري الى اجناس اخرى!!
ولكن ..
انه عصر التقنيات المتاحة..عصر التمرد على الرقابة.. عصر اللااسرار واللامخفيات.. عصر الامكانيات المهولة والبخسة..
عصر الوصول الممكن لاغلب ما كان ممنوعا او شديد المنال.. عصر المصادر العلمية المتاحة.. وعصر التواصل السريع جدا والواسع جدا..
عصر الحصول على المعلومة مجانا ونشرها بلا ثمن يذكر... وعصر جذب الاهتمام بالكلمة وبالصورة وبالمقطع المسموع والمرئي.. عصر منبر من لا منبر له..
عصر الحصول على المعلومة بنقرة ونشرها باخرى..
العصر الذي يتيح لذي الهمة ان يصل ولذي المهارة ان ينجز..
القران الكريم تعامل مع اذهان البشر بالمطولات.. فحوت سورة من مطولاته مئات الايات.. وشغلت اية واحدة منها صفحة كاملة من المصحف.. في حين شغلت سورة من القصار سطرا واحدا من صفحات المصحف..
ان في القران لنا قدوة للبلاغ القصير.. لخطاب من لا وقت لديه.. من لا يريد ان يسمع.. من يستهزأ.. من يتعالى.. من يكفر بكل مقدس..
مواضيع ضخمة اسمعها بسطر واحد ليلتقط منها النفس المحتاجة حاجتها بحسب الحاجة.. والباقي تقتحمه عند الحاجة..
الخاطرة.. والتنبيهة.. والاستفهام.. والاستدلال.. والتذكير.. والمؤانسة..ووو.. كلها متاحة لذي الزمن القصير.. للذهن الذي لايتحمل سوى معلومة واحدة في سطر واحد.. تعليمة واحدة تعايش مخيلة من يخاطب..
بلغو عني ولو... آية...
قولو .. كلمة واحدة.. تفلحو
وانت.. هل عندك فرصة لقاء لدقيقة مع اخرين.. لحظات مشاعر في مناسبة.. هل عندك صفحة في موقع تواصل.. صفحة تتيح لك ان تكتب فيها سطرا واحدا.. تضمنها صورة معبرة واحدة.. مقطعا واحدا يخطف دمعة او ابتسامة او يلمح الى مفهوم او خلق.. تتيح لك ا لقيام بزيارة افتراضية.. وتواصل مجاني.. ووو
فانت قد لا تحتاج الى وقت طويل او جدية كبيرة في لحظة تبليغ كلمتك للاخرين .. في فرصة تواصلك معهم..
لكنك وبلا ادنى شك تحتاج الى كل الجدية المضنية وكل الوقت المطلوب وكل التفكير العميق والتخطيط والتنفيذ والتوصيل والتنسيق والنشر ..ضمن خطة محكمة.. وادراك للدور المطلوب..
.. ضمن جماعة منظمة..منتظمة.. حقيقية.. او افتراضية..
وتحتاج الى حني الظهر وسهر الليالي ونكران الذات وقبلها للاخلاص والتجرد والزهد... للتحليل والتمحيص والمقاربة والتسديد لتهيئة ما تقدمه من دور وما ستناوله.. ضمن فريقك.. لذلك الجمهور المصاب بغرائب العصر ومعايب الانسان.. فهم رغم ما بهم من اوصاف .. هم الجمهور.. وهم القاعدة العريضة..حاليا..
انهم مادة مجتمعاتنا ومستقبل اجيالنا.. انهم واقعنا الذي لا محيص لنا عنهم..