د. صلاح الدين محمد قاسم النعيمي
باحث في السياسة الشرعية
وهو حدث عظيم من أحداث السيرة النبوية يستحق الوقفة والتأمل،
حادثة يحتاج كل مسلم أن يقرأها، ويحتاج العلماء والقادة والدعاة وطلبة العلم
والمفكرون أن يتوقفوا عندها ملياً يستلهمون عبرها، ويعون فقهها ودلالتها، إننا
نحتاج إلى فقه السيرة في كل حين، ولكن حاجتنا إليها في وقت الأزمات والشدائد أشد،
ونحتاج إلى (فقه الحديبية) في كل حين، ولكن حاجتنا إليها أشد في زمان تفوَّق فيه
الخصوم وضعف فيه المسلمون.([1])
وقعت في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، وكان من أمرها أن
رسول الله r رأى في منامه أنه دخل البيت هو وصحابته آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون شيئاً، فأمر الناس أن يتجهزوا للخروج إلى مكة معتمرين لا يريد حرباً لقريش ولا قتالاً. فخرج معه المهاجرون والأنصار يحدوهم الشوق إلى رؤية بيت الله الحرام بعد أن حُرموا من ذلك ست سنوات، وساق أمامه r -وهو ما يساق إلى البيت الحرام- من الإبل والنعم تعظيماً للبيت وتكريماً، وأحرم بالعمرة من مكان يسمى بذي الحليفة، ليعلم الناس وقريشاً خاصة أنه لا يريد قتالاً([3])، وكان عدد من خرج معه نحواً من ألف وخمسمائة، ولم يخرجوا معهم بسلاح إلا بسلاح المسافر في تلك العهود: السيوف في أغمادها، وساروا حتى إذا وصلوا إلى "عُسفان"([4]) جاء من يقول له:([5]) هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا وقد لبسوا جلود النمور يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبداً([6])، فقال النبي r: ((يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الإسلام وَهُمْ وَافِرُونَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ وَاللَّهِ إِنِّي لا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ لَهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ))([7]).
رسول الله r رأى في منامه أنه دخل البيت هو وصحابته آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون شيئاً، فأمر الناس أن يتجهزوا للخروج إلى مكة معتمرين لا يريد حرباً لقريش ولا قتالاً. فخرج معه المهاجرون والأنصار يحدوهم الشوق إلى رؤية بيت الله الحرام بعد أن حُرموا من ذلك ست سنوات، وساق أمامه r -وهو ما يساق إلى البيت الحرام- من الإبل والنعم تعظيماً للبيت وتكريماً، وأحرم بالعمرة من مكان يسمى بذي الحليفة، ليعلم الناس وقريشاً خاصة أنه لا يريد قتالاً([3])، وكان عدد من خرج معه نحواً من ألف وخمسمائة، ولم يخرجوا معهم بسلاح إلا بسلاح المسافر في تلك العهود: السيوف في أغمادها، وساروا حتى إذا وصلوا إلى "عُسفان"([4]) جاء من يقول له:([5]) هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا وقد لبسوا جلود النمور يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبداً([6])، فقال النبي r: ((يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الإسلام وَهُمْ وَافِرُونَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ وَاللَّهِ إِنِّي لا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ لَهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ))([7]).
النبي r يغير طريقه:
هنا تبرز سياسة النبي r على أساس مصلحة الأمة فحين بلغه r أن قريشاً خرجت([8])
لقتاله، قال: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فقال رجل([9])
من أسلم: أنا يا رسول الله فسلك بهم طريقاً وعراً أجرل([10])
بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع
الوادي، قال رسول الله r للناس: قولوا نستغفر الله ونتوب إليه؟ فقالوا ذلك. فقال: والله
إنها للحطة([11])
التي عُرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها. فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيلُ
قريش قترة الجيش([12])
قد خالفوا عن طريقهم، رجعوا راكضين إلى قريش، وخرج رسول الله r حتى إذا سلك في ثنية المرار([13])
بركت ناقته، فقال الناس: خلأت([14])
الناقة. فقال: ما خلأت، وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني
قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم قال للناس:
انزلوا. قيل له: يا رسول الله ، ما بالوادي ماء ننزل عليه. فأخرج سهماً من كنانته
فأعطاه رجلاً من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القُلَبْ فغرزه في جوفه، فجاش([15])
بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن([16]).
رسل
قريش:
فلما وصل النبي r إلى الحديبية جاءه بعض رجال من خزاعة([17])
يسألونه عن سبب قدومه، فأخبرهم أنه لم يأت إلا ليزور البيت ويعتمر، فرجعوا وقالوا
لقريش: إنكم تعجلون على محمد، لم يأتِ لقتال إنما جاء زائراً لهذا البيت، فقالوا:
لا والله لا يدخلنها علينا عنوة أبداً، ولا يتحدث العرب عنا بذلك.([18])
ثم
استمرت قريش
بإرسال رسلها([19])
إلى النبي r
لتتأكد من سبب خروجه من المدينة إلى
مكة، والرسول
r يخبرهم
بأنه لم
يأت لقتالهم
إنما جاء
معتمراً. ثم
إنه r
بعث عثمان t
إلى أشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنه إنما جاء زائراً
لهذا البيت ومعظِّماً لحرمته.([20])
فالتقى عثمان بن عفان t بعظماء قريش وبلَّغهم عن رسول الله r
رسالة، فقالوا حين فرغ من قراءة رسالته: إن شئت أن تطوف بالبيت فطُفْ. فقال: ما
كنت لأفعل حتى يطوف به النبي r فاحتبسته قريش.([21])
سميت ببيعة الرضوان لأن الله سبحانه وتعالى أنزل فيها قوله: ]لَقَدْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة[
([23]).
وسببها أن النبي r بلغه أن عثمان t قد قُتِل، فقال: لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا
الرسول
r إلى
البيعة
فكانت
بيعة
الرضوان
تحت
الشجرة،
بايع
الناس
النبي r على الموت، ثم أتى رسول الله r أن الذي ذكر من أمر عثمان t باطل.([24])
أرسلت قريش سهيل بن عمرو([26])
للتفاوض مع رسول r على شروط الصلح والتوقيع على المعاهدة مؤكدة على ممثلها سهيل أن
تنص المعاهدة على رجوع المسلمين إلى بلادهم بلا دخول إلى مكة لإجراء شعائر العمرة
على أن يأتوا من عام قابل إذا شاؤوا، فلما انتهت المفاوضات حول شروطها أمر النبي r علي بن أبي طالب t بكتابة بنود المعاهدة.([27])
فقال
النبي r لعلي t: اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)
فقال
سهيل: ما نعرف هذه التسمية ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم.
فقال
النبي r لعلي t: اكتب (باسمك اللهم)
ثم
قال النبي r لعلي t: اكتب (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)
فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول
الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله.
فقال النبي r لعلي t: امح رسول الله.
فقال علي t: لا أمحوك أبداً.
أما
بنود الصلح فهي:([29])
1-يرجع الرسول r من عامه فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل
دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القِرَبْ، ولا
تتعرض لهم قريش بأي نوع من أنواع التعرض.
2-وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن
فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض.
3-من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل
فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فدخلت خزاعة في عهد الرسول r، ودخلت بنو بكر في عقد قريش.
4-من أتى محمداً من قريش من غير إذن
وليه –أي هارباً منهم- رده عليهم، ومن جاء قريشاً من محمد –أي هارباً منه- لم يرد
عليه.
فبينا رسول الله r يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاءهم أبو جندل([30])
بن سهيل بن عمرو يرسف بالحديد قد انفلت إلى رسول الله r ،وقد كان أصحاب رسول الله r خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله r، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع، وما
تحمل رسول الله r في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون.([31])
فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه([32])،
ثم قال: يا محمد قد لجّت([33])
القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت فجعل ينثره([34])
بتلبيبه ويجره إليه ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر
المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟! فزاد ذلك الناس إلى ما بهم، فقال
رسول الله r: يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين
فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا
عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.([35])
فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً([36])
من المسلمين ورجالاً([37])
من المشركين، فأمر الرسول r أصحابه قائلاً: قوموا فانحروا، فوالله ما قام منهم أحد حتى قالها ثلاث مرات, فلما لم يقم منهم
قام فدخل على أم سلمة(38),
فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً
كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فقام فخرج. فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل
ذلك، فنحر بدنه, ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا, وجعل بعضهم
يحلق بعضاً(39),
ثم انصرف رسول الله r من وجهه قافلاً. حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح
لتبشرهم بالفتح المبين وهو صلح الحديبية مع أن بعض الصحابة كان حزيناً بسببه. فقال
تعالى ]إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً[ (40).
ثم قال جل في علاه: ]لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ
مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً[ ((( (41)، أي
لرؤيا رسول الله
r التي رأى أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف, وأنتم معه محلقين رؤوسكم
ومقصرين لا تخافون }فَجَعَلَ مِنْ دُونِ
ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً[ وهو صلح الحديبية.(42)
الحديبية
فتح للدعوة الإسلامية
تبين لنا أن صلح الحديبية
كان فتحاً للمسلمين, دل على ذلك قوله تعالى: ]إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً[
(43) مع
أن بعض الصحابة y لم يرض بالصلح وظنه تنازلاً عن حق المسلمين فهذا عمر بن الخطاب t يقول لرسول الله r: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى, قال : فعلام نعطي
الدنية في ديننا؟ قال: ((أنا عبد الله
ورسوله. لن أخالف أمره ولن يضيعني)) (44).
وغضب عمر بن الخطاب ومن
معه من المسلمين حول شروط الصلح, لأنهم رأوا أنها مجحفة بحق المسلمين لسببين: أحدهما:
أن النبي r كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به, فما له يرجع ولم يطف به؟
وثانيهما: أنه رسول الله r وعلى
الحق, والله وعد إظهار دينه, فما له قَبِل ضغط قريش وأعطى الدنية في الصلح؟(45) ثم نزلت } إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً{
الخ, فأرسل رسول الله r
إلى عمر فأقرأه إياه, فقال: يا رسول الله أوَ فتح هو؟ قال نعم, فطابت
نفسه ورجع.
ثم ندم عمر t على فرطٍ منه ندماً شديداً, قال عمر فعملت لذلك أعمالاً
ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ, مخافة كلامي الذي تكلمت به،
حتى رجوت أن يكون خيرا(46).
ويمكن أن نلخص ما تمخضت عنه هذه المعاهدة بالآتي: (47)
1. أول مرة تعترف قريش بالمسلمين, فبمجرد
الجنوح إلى الصلح يعد اعترافاً بالمسلمين, وهذا بحد ذاته نصر.
2. الموافقة بوضع الحرب عشر سنين, هو نصر
للمسلمين, لأن المسلمين لم يكونوا بادئين بالحروب, وإنما بدأتها قريش, بدليل قوله
تعالى: ]وَهُمْ بَدَأُوكُمْ
أَوَّلَ مَرَّة[(48). فموافقة قريش على وضع الحرب دليل فشل
وخوف وضعف لها.
3. صد قريش للمسلمين من زيارة المسجد
الحرام يعد فشلاً لها, لأن الصد لم يكن مستمراً، بل كان لذلك العام الواحد فقط.
4. شرط ردّ من جاء منهم وعدم رد من ذهب
إليهم, فقد علله النبي r بقوله ((من ذهب منا إليهم
فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً)) ثم كان كما قال r.
5. موافقته r على ترك كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) وكتابة (باسمك اللهم)
بدلاً عنها, لأن لا مفسدةَ في ذلك والبسملة وبسمك اللهم فمعناهما واحد.
6. موافقته r على ترك كتابة (محمد رسول الله) وكتابة (محمد بن عبد الله) بدلاً
عنها، فهذه أيضاً لا مفسدة فيها ولم تقلل من شأنه فهو في الحالتين يبقى رسول الله
فترك وصفه بالرسالة لا ضرر فيه، إنما الضرر كل الضرر فيما لو طلبوا أن يكتب ما لا
يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك.
والخلاصة:
إنه بهذا الصلح أمكن التنقل واختلاط المسلمين بسائر قبائل العرب
وغيرهم, فحصل أن دخل الناس في دين الله أفواجاً، حتى إن عدد المسلمين صار عند فتح
مكة عشرة آلاف بعد أن خرج لصلح الحديبية ما لا يزيد عن الألف وأربعمائة مسلم(49).
وفي هذا المعنى نقل أهل السيرة كلاماً يؤيد ذلك، ونصه ( فما فتح
في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس, فإنما كانت
الهدنة ووضعت الحرب, وآمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث
والمنازعة، فلم يكلم أحدٌ بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل تينك السنتين
مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر)(50).
الدروس السياسية
لكل من يقرأ قراءة متأملة لصلح الحديبية يمكنه أن يستنتج عدداً
من الدروس والعبر، ففي صلح الحديبية يجد الباحث درساً في الأخلاق النبوية،
ونموذجاً رفيعاً في تحقيق المصالح العليا من أجل المسلمين، وفيصلاً في تحقيق
وتطبيقات الولاء والبراء وهذا كله يعد من السياسة الشرعية النبوية الحكيمة على
أساس تحقيق المصالح وجلبها، ودرء المفاسد ودفعها.
ونحن يمكننا أن نستخلص الدروس السياسية بالآتي:
1. مباغتة العدو في أرضه، وإرباكه وإحباط
محاولاته، وهذا ما فعله الرسول r فقد باغت العدو وأربكه، وهذا من السياسة الشرعية العسكرية على أساس
المصلحة، فبدلاً من أن تكون أرضنا هي ساحة المعركة، علينا أن ننقل المعركة إلى
ساحة العدو.
2. تغيير طريق الجيش -وإن كان وعراً- لعدم
مواجهته لجيش المشركين، وجعل المبادرة في تحديد وقت ومكان المعركة بأيدينا يعد
تكتيكاً (51) عسكرياً.
3. قوله r: ((لا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ
الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ إِلا
أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا)) دليل على أن رسول الإسلام هو في حقيقته رسول سلام ومحبة، لا كما يحاول أعداء
الإسلام تشويه سمعته.
4. استعانته r بقبيلة خزاعة مسلمهم وكافرهم دليل على جواز الاستعانة بالمشرك
المأمون، وفي هذا المعنى يقول ابن القيم: (وفي قصة الحديبية أن الاستعانة بالمشرك
المأمون في الجهاد: جائزة عند الحاجة، لأن بشراً الخزاعي كان كافراً إذ ذاك, وفيه
من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم)(52).
5. جواز الاستجابة لبعض مطالب الأعداء
-وإن كان فيها تنازلاً- إلا أن الفقه في ذلك: هو تحقيق أعلى المكاسب بأدنى
التنازلات وهذا ما فعله رسول الله r فأقر كتابة: باسمك اللهم, وكتابة محمد بن عبد الله، وكذلك رده
لأبي جندل، كل هذا في ظاهره تنازلات إلا أن فيه مصالح أعظم, وفي هذا المعنى يقول
ابن القيم: (إن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة
الراجحة، ودفع ما هو شر منه ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما)(53).
6. جواز الإكثار من الاستشارة على وفق قوله
تعالى: ]وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُم[(54) فقد استشار النبي r المسلمين أكثر من مرة، ولم تقف مشورته عند حدود الرجال، بل استشار
النساء، وأخذ برأي أم المؤمنين أم سلمة وفي ذلك جواز مشاورة المرأة الفاضلة.
وأخيراً:
فهذا بعض ما تضمنته هذه الهدنة من فوائد وبعض ما استنتجته من
خلال عرضي لها، وهي أكبر وأجل من أن يحيط بها إلا الله الذي أحكم أسبابها فوقعت
الغاية على الوجه الذي اقتضته حكمته وحده (55) .
([19])
قال ابن هشام: ثم بعثوا إليه r مكرز بن حفص
الأخيف، ثم الحليس بن علقمة –أبو ابن زبان- وكان يومئذ سيد الأحابيش، ثم بعثوا
عروة بن مسعود الثقفي، وأنه قال لقريش: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى وقيصر
والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قَطُّ مثل محمد في أصحابه! ولقد رأيت
قوماً لا يُسلمونه لشيء أبداً فروْا رأيكم. ينظر: السيرة النبوية لابن هشام: 3/199-201.
([51]) التكتيك: هذا المصطلح يلازم الاستراتيجية في
استخداماتها, فهو يستخدم للدلالة على الأسلوب أو
الأساليب
المستخدمة في تطبيق الاستراتيجية وترجمتها ترجمة واعية محسوبة وعملية لواقع ملموس
ويعني ذلك الاستخدام الصحيح للوسائل المتاحة لتحقيق الهدف ... السياسة الاجتماعية
في إطار المتغيرات العالمية الجديدة د. طلعت مصطفى الروحي (ط1/دار الفكر العربي,
القاهرة 1425هـ- 2004م): 326.
([55]) لمزيد من الفوائد
والحكم والدروس ينظر: زاد المعاد لابن القيم: 2/ 127-130 ؛ المستفاد لعبد الكريم
زيدان: 2/261-270 ؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: 332-336 ؛ السيرة النبوية
للصلابي: 2/373-382 ؛ فقه السيرة للبوطي: 223-243 ؛ السيرة النبوية للسباعي: 73 ؛
فقه السيرة النبوية لمنير الغضبان (ط1/دار الوفاء, 1997م) : 331-336 ؛ مجلة
البيان: 98- 105.