محمد حميد رشيد
ما حدث في 9/4/2003 صدمة وطنية وإجتماعية مزلزلة
هزت المجتمع العراقي بكل المقاييس وسعت لتغيير كل شيء ؛ و لكن من اثارها ما أصاب قسماً كبيراً من المجتمع العراقي من فقدان الوعي وعدم إستيعاب هذا الإنقلاب الكبير في حياتهم نتيجة هذا التحول الجبار في تاريخ العراق، و ظهرت مراكز قوى جديدة داخل المجتمع العراقي قسم كبير منها كان من مخلفات المحتل وعمليته السياسية البائسة وسرعان ما سيطر (وعي جمعي قطيعي) أخذ الغالبية العظمى من المجتمع باتجاه خطاب قطيعي سيَّر الكثير من الجماهير نحو بدائل وهمية وأحلام وردية ومما ساعد على شيوع هذا النوع من الخطاب هو الرغبة في الخروج من هذه الصدمة الكبرى ومحاولة تفسير ما حدث والرغبة العارمة في التغيير والإنعتاق والحرية المطلقة.
وشاعت (المقدسات) (التي تخفي خلفها اشياء
كثيرة غير مقدسة) في المجتمع والتي لا يمكن الإقتراب منها أو المساس بها بلا أي
ضوابط أو شروط فهناك شخصيات وقيادات مقدسة كثيرة جداً تزداد يوماً بعد يوم حتى
أصبحت العمامة بحد ذاتها مقدسة ! ومدن مقدسة قديمة وحديثة وأيام مقدسة وأحداث
مقدسة وجيوش مقدسة حتى توسعت دائرة القدسية هذه لتشمل بعض الأحزاب ذات الغطاء
والصبغة الدينية وقياداته ثم لتشمل السلطة المدنية الحاكمة وأصبح المساس بها محرما
ومساسا بالمقدس أو تعريضا به ! رغم فشل تلك الحكومات المتعاقبة وفسادها الذي لا
يختلف عليه أثنين في العراق ؟!
ومن خلال إستغلال هذه (المقدسات) التي
رافقتها (طقوس) غير خاضعة للنقاش تم تغييب وعي طبقة كبيرة من الشعب بل واستغفاله لاستغلال
ثرواته والتلاعب بمقدراته وسرقة الأمة وتهديم دولتها تحت مظلة (المقدس) رغم كل
الفضائح التي رافقتهم.
وبدأت تظهر مصطلحات نوعية مقابلة للمقدس وهي
(المحرمات) فكل ما لا يريدوه (من خطط أويحقق استلاب وعي الأمة وتغييب إرادتها) هو
محرم ولا يجوز العمل به او حتى التفكير به وكذلك تم إستيراد مصطلحات تاريخية عفى
عليها الزمن ساهمت في تقسيم الأمة وتغييب وعيها من أمثال (الروافض والنواصب
والخوارج والمرتدين والبكريين والعمريين والمجوس
...الخ) وأصبح السلاح يحمي كل هذه المقدسات الوهمية إضافة من قتل وإختطاف وتغييب
وتعذيب واجتثاث وإرهاب حاضر لاقتلاع أي فكر أو فكرة خارجة عن (الفكر القطيعي) أو
فيه شبه الخروج عن المقدس الوهمي فضلاً عن التكفير والتسفيه والمحاصرة والإزدراء
والإقتلاع ! إلا بشكل حذر مرتجف ومتردد وخائف ومن بقع ضوء متناثرة وسط ظلام دامس
مقبع وقد يجامل تلك المقدسات في بعض
الاحيان وتجنباً لصرخة عالية تعيد الوعي للأمة . وكلما تعددت (المقدسات) وتغولت
كلما تلاشى الإنسان وتضائلت قيمته ؛ وعندما يكون المقدس هو الله لا غيره استعاد
الإنسان مكانته الطبيعية في الكون .
ورغم ما يشاع أن العراق بلد ديمقراطي فإن
الحقيقة تناقض ذلك تماماً فهناك على سبيل المثال (أكثر من مائة مليشية) غير
المليشات المنخرطة في (الحشد الشعبي المقدس) كما صرح بذلك رئيس الوزراء الدكتور
حيدر العبادي ! وهناك الكثير من الأحزاب تمتلك مليشيات مسلحة تستعرض قواها في
الشوارع ولها مؤسساتها الضبطية ومعتقلاتها بل حتى ومحاكمها وأجهزتها التنفيذية !
وإذا صح هذا وتحقق فلا تتحقق معه الديمقراطية فلا ديمقراطية مع مليشيات وسلاح خارج
إطار الدولة وسلطتها وقوانينها.
لذا اصبح أي خروج عن الخطاب الجمعي
(القطيعي) خروجا عن الامة وخاف الكثيرون من المثقفين ومن يمتلكون الوعي من التصريح
بوعيهم أو أرائهم أو أفكارهم أو الإعتراض على أي مقدس وهمي فضلاً عن المقدس الحقيقي
! حتى لا يكون القتل أو التغييب مصيرهم!.
وأصبح الوعي والتميز جريمة وسبة عار يتبرأ
منها المثقف الواعي وإذا ما مسك متلبساً بالوعي سارع إلى الهجرة والفرار بعيداً عن
عمق الظلام أو يدعي ما يناسب ما عليه الفكر القطيعي وأصبح السعيد من يكون من ضمن
القطيع راضياً عنه رعاة القطيع...!!! ومستعد للتضحيه بوعيه كما أراد (نيونز) أن
يضحي بعينيه في رواية (بلد العميان) ل (ج هـ ويلز) إقتناعاً منه في لحظة ما وتحت
ضغط عاطفي وضغط المجتمع أن العينين غير ضروريتين ويمكنه الإستغناء عنها حاله حال
كل الناس في (بلدة العميان) الذي قذفه القدر فيها حين وجد نفسه وحيداً في بلدة
غريبة نائية عن الحياة والعصر كل من يعيش فيها أعمى بلاعينين تماماً وقد توارثوا
ذلك العمى جيلاً بعد جيل (أكثر من خمسة عشر جيلاً)! وحين كلمهم عن النظر وعن العين
وما تراه من جمال وحقيقة أعتقدوا ببلاهته وشذوذه ونقصانه وفساده وتخلفه عنهم
وأشفقوا عليه وإنه (متخلف) و(مخرف) بنفس الوقت وبدأوا يتحسسون وجهه ليكتشفوا وجود
(عضو ما ) غريب عن خلقهم، وبعد أن تحققوا من ذلك كان رأي (حكمائهم) بضرورة علاجه
ومساعدته عن طريق (إستاصال هذا العضو الخبيث فيه) واقتلاع ذلك الشيئين المنتفخين
الغريبين (عينيه)، اللتان أتلفتا مخه لكي يعود سوياً طبيعياً مثلهم ! وحينما
أمسكوا به لتنفيذ (قرار الحكماء) هرب منهم وهم يسعون خلفه بإصرارغريب لاقتلاع ذلك
المحرم الغريب مستخدمين حاستي (السمع والشم) ولكنه في النهاية كان اسرع منهم في
الهرب بعيداً عن (بلدة العميان) ولكنه وبعد يوماً واحداً من الجوع والبرد الشديد
عاد (نادماً) منكسراً و(أعترف) أنه كان مخرفاً كاذباً مدعياً ولا يوجد شيء أسمه
النظر وليس هناك أي جمال وضياء كما كان يدعي وأنهم على حق في كل ما يفكرون به
ويقولوه ؛ سرعان ما سامحوه وفرحوا بعودة وعيه إليه واكتفوا (بجلده) وتكليفه ببعض
الأشغال الصعبة.
وهكذا عاش أعمى مثلهم لكنهم كانوا يعتقدون
أنه غير طبيعي وأقل من مستوى البشر ومريض بالوهم ؛ إلا أنه أحب فتاة من (بلد
العميان) وأحبته و طلب من أبيها ان يزوجها له إلا أنه أعتبر (نيونز) غير مناسب
لعائلته كونه متخلفاً عقلياً إلا أنه أمام إصرار ابنته وعكوف شباب القرية عن
الزواج بها بسبب صوتها العالي المزعج رضخ للأمر على أن يعرض ذلك على (مجلس حكماء
البلدة) الذين قرروا لكي يتم الزواج لابد من إستأصال هذا الورم الخبيث حتى تصبح
خلقته كخلقتهم بكل تأكيد ولا حل غير هذا إلا أنه رفض ذلك بقوة ولكنه رضخ في
النهاية أمام توسلات الفتاة (لا أتذكر أسمها) : ما الذي سيحدث؟ بالعكس سيصبح إنساناً
طبيعياً كأي فرد من أفراد البلدة العميان ! وأقتنع بالتضحية
بعينيه من اجل حبه ومن أجل إنهاء معاناته في مجتمع العميان ويتحول إلى أعمى وسط
عميان طالما كان ذلك شرطاً ليكون مواطناً سوياً محترماً . وفي اليوم الأخير له
مبصراً وغداً سيصبح أعمى عليه أن يمتع عينيه قبل أن يقتلعها العميان في اليوم
التالي صحى مبكراً ليتمتع برؤية العالم لأخر مرة ولكن أشعة شمس الفجر إنسكبت في
عينيه بضوئها الرائع الخلاب ثم إنسابت مغرقة الوادي الأخضر الجميل باشعتها وتراقصت
الألوان الزاهية الساحرة والفرشات والطيور في الوادي الجميل الذي يحتضن (بلد
العميان)...صرخ فزعاً كلا لن يتخلى عن عينيه وسيبقى يبصر الحياة الجميلة حتى لو
ضحى بحبه من أجل الحقيقة، هو مبصر وهم عمون، هم في ظلام عميق وهو في نور ابلج،
وسيتسلق الجبل هروباً من قعر الظلام ولن يستطيعوا لحاقه الى القمة العالية، ركض
تدحرج سقط وقف من جديد تسلق لم يتوقف، عيناه معلقتان بالقمة حتى غروب الشمس، كان
واقفاً عند القمة بعيداً عن ظلم (بلد العميان) تاركاً عينه تراقص أضواء الغروب
وسمفونية الألوان، رفع راسه وأطلق عينيه هاهي النجوم اللامعة في السماء.
نعم يراد للعراق أن يكون (بلد العميان) مستلب
الإرادة عاجزاً عن العطاء مشلولاً مهشماً بلا حرية وبلا وعي ولا ثقافة ولا إبداع
ولا فن، لكن يستحيل ذلك كون العراقيين شعب متمرد حساس ثائر مثلما هو عاطفي وإذا ما
استفز أو خدع فسرعان ما ينتفض بشكل غريب بلا أي ضوابط وقد يتعسف في الثأر لنفسه
وكرامته ولن يستطيع حينه أن يمسكه أحد وقد يفقأ من يريد فقأ عينيه وسيفعلها ولن تُفْقَأ
عين العراق ولن يكون العراق (بلد العميان)...