عمار وجيه
(جوزيف ناي) الباحث الاستراتيجي الأمريكي من
جامعة هارڤارد هو اول من استخدم مصطلح القوة الناعمة عام ١٩٩٠ في كتابه (وثبة نحو
القيادة Bound to lead)
ويعرفها بأنها: القدرة في الحصول على ما نريد من خلال الجذب بدلاً من القسر
أو الدفع. في حين أن القوة الصلبة تمثل القوة المشتركة: السياسية والاقتصادية
والعسكرية، أي القوة في صورتها الخشنة التي تنتهي بالحرب وتستخدم فيها الجيوش.
الكاتب يصف
القوة الصلبة بأنها العصا والجزرة. فالجزرة فيها تكون حين يتم التخفيف عن العدو
المستهدف بتسهيلات تجارية مثلاً، أملاً في الترويض والإقناع بالتنازل. أما العصا
فتاتي ضمن مراحل وأنماط الحرب الخمسة: دبلوماسية الإكراه، التخريب، الردع، الدفاع،
التدخل العسكري المباشر.
القوة الناعمة في الغرب تنبثق من المصالح لا
المباديء، بل في كثير من الأحيان تديرها أطراف من الدولة العميقة وتكون الشخوص
التي تحرك العلاقات والإعلام فيها غير ظاهرة.
أما في بلداننا
الإسلامية التي تجمع بين المباديء والمصالح، فإننا نمتلك موروثاً قيمياً قادراً
على تحريك كل ما يؤثر في الرأي العام بطريقة وفلسفة القوة الناعمة. ومن الوسائل
ذات التأثير الهائل، منبر الجمعة. فديننا الحنيف منحنا فرصة عظيمة حين جعل صلاة الجمعة وخطبتها فريضة أسبوعية مما يلزم
المواطنين الملتزمين بالحضور طوعاً ورغبةً وامتثالاً، كما إن القرآن خصص سورة
كاملة باسم (الجمعة).
في خطبة الجمعة فرصة كبيرة لنشر الوعي والتعبير
عن ثقافات وأعراف الشعوب والدفاع عن حقوقهم وإيصال صوتهم إلى أولي الأمر. فكيف إذا
كان في كل عاصمة ومدينة كبيرة إسلامية ما يربو على ألف مسجد إن لم يكن عدداً أكبر؟
قد تبدو المقاربة غير موفقة لدى القارئ الكريم،
لكني تعمدت أن أربط بين منبر الجمعة ومفهوم القوة الناعمة لأؤكد أن المنبر سلاح
سلمي فعال يفوق كل سلاح وجهد تنفق عليه الدولة المليارات دون أن يقدم عشر ما يقدمه
المسجد من تأثير شعبي ورسمي.
المؤسف أن
المنبر غير مخدوم كما ينبغي ومنذ زمن بعيد، لا من قبل المؤسسة الرسمية ولا المجامع
العلمية. في حين أنه وبقليل من التأمل يمكن أن نثبت بأنه خادم للأمة كلها، سواء من
التزم بالشرع أو من لم يلتزم. بل حتى العلمانيون الذين طالما سخروا من الدين
واللباس الشرعي، قد يكونون أول المستفيدين من المساجد لما فيها من تأثير إيجابي
نفسي واجتماعي، يسهم في اعتدال المزاج وتقليل معدلات الجريمة والحوادث وتقليل
الحاجة إلى الرقابة البشرية المكلفة للدولة بتحفيز الرقابة الإلهية التي يرتفع
مؤشرها لدى المصلين دون جدال.
العلماني يصعب
عليه أن يفهم أن المساجد ومنابرها أشبه بحقول القمح التي يريد المواطن أن يتنزه
قربها فلا يجد مساحة تكفي للمرح فيشعر بالانزعاج من القمح، لكنه ينسى أن تلك
الحقول مصدر خبزه وقوت يومه.
لذا فإن شرائح
متعددة في المجتمع أسهمت بشكل أو آخر في معاداة المساجد معنوياً ومادياً. وتولد
ذلك العداء من انعكاسات لمؤثرات نفسية أو أجندات سياسية أو قناعات طائفية مخطوءة.
وكل ما جرى ويجري من عداء رباعي يستهدف المنهاج، والخطيب، والمواطن المتلقي،
والبنيان الذي هو المسجد، كان دائماً يتحول فيما بعد إلى حسرة وندامة على الأمة.
ولعل أوضح دليل
في أواخر الدولة العباسية، كان اقتران ذلك العداء الذي حول المساجد أحياناً إلى
مرابط للخيل أو مرابض للغنم، بالتمدد الصليبي الذي صاحب وما يزال يصاحب أزمان
الفتن والاضطرابات الفكرية. وكان وما يزال تبرير تلك السلطات والمجاميع الغاشمة أن
المسجد أصبح مكاناً للخارجين عن القانون. وبدلاً من تصحيح المعادلة يقومون بترويع
المصلين وقتل الدعاة والخطباء وهدم المساجد أو حرقها. وبالرغم أننا لا ننكر وجود
استغلال سيء للمتشددين لبعض المساجد، إلا إن ذلك لا يعالج بهمجية مقابلة. فالبناء
يعاد والداعية يولد والمواطن الخائف لا يلبث أن يأمن، لكن الخسارة تكمن في توقف
عجلة البناء الفكري والروحي لدى شباب الأمة.
أول تغيير مطلوب
الآن هو تشكل قناعة لدى قادة الأمة ومفكريها أن المنبر فرصة وليس تهديداً. فهو
تواصل مجتمعي أسبوعي إلزامي، وطمأنينة نفسية، ووسيلة راقية لإعادة الأمة إلى
وسطيتها. فآية سورة الجمعة التي تنادي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللهِ
وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، فإنها
تؤكد دون شك أن الهدف ذكر الله وليس التخندق المفضي إلى تقسيم الأمة، وإذا لم يكن
ذكر الخالق سبحانه جامعاً لكل المذاهب والمشارب فما الذي يجمعهم؟ كما إن التحرك
نحو ذلك الاجتماع الأسبوعي الإلزامي الراتب بصيغة السعي وليس المشي يعبر عن
الأهمية، فضلاً عن الأثر النفسي الكبير في إيقاف البيع والشراء في أهم يوم للمواطن
وهو يوم عطلته، ما يؤكد أهمية التوكل ومنح النفس حقها من الخلوة والتأمل والإصغاء
لحديث الموجه والمرشد. تخيلوا كم هو مهم أن ينتقل المواطن من بيئة السوق
الاستهلاكية التقليدية، إلى بيئة الروح والفكر التي في كثير من الأحيان تناقش أكثر
القضايا ذات التماس مع يومياته. بمعنى أنه ينتقل من وضع حرق المال إلى وضع التفكير
في تنمية النفس والمال والوقت والحياة التي يتطرق لها الخطيب كثيراً.
المسؤولية الأساس تقع على العلماء والدعاة وحملة
الفكر الإسلامي في إعداد قادة الرآي العام وهم الخطباء والمربون في المساجد.
فالمنبر بحاجة من يشتاق إليه مرشداً كان أو متلقياً، والخطيب ينبغي أن لا يملّ ولا
يكل، وأن يكون له رغبة في التجديد والتنويع من شأنها أن تبقي الجمهور مشدوداً
وواثقاً بما يقدم اسبوعياً. وفاقد الشيء لن يعطيه. ولا ننكر وجود محاولات عديدة
لرفع مستوى الخطباء حتى أن بعض الجمعيات الدعوية أصدرت مجلة للخطيب لرفع المستوى،
لكنها توقفت شأنها شأن كثير من المشاريع بعد الشدة التي أصابت الأمة.
وبصراحة متى ما
تتمازج الخبرات الفقهية الوفيرة لدى علمائنا مع المهارات الدعوية التي تكتسب من
نصوص الوحي وتجارب الدعاة الرواد، إضافة إلى الخبرات الإنسانية التي تفوق علينا
بها الغرب والشرق الأقصى، حينئذ يمكن أن نخطو الخطوة الواعدة نوعاً وكماً، ونضمن
بعدها عدم إخفاق المنبر.
نحن نحتجّ بأن
الحكومات المستبدة كانت سبباً في إضعاف المنبر وتجييره لصالح أجنداتها، وهذا لا
ينكر، لكن صدقوا لو حدث انفراج وعودة للحريات، فلا تتوقعوا انطلاقة هائلة في الخطاب المنبري، بل ربما نعود
إلى مربع الخلافات بين التوجهات الفكرية داخل المكون الإسلامي ذاته. لذا يصبح
لزاماً على رعاة الدعوة إلى الله أن يتكفلوا برعاية مشروع عملاق لإعداد قادة الرأي
العام الحقيقيين.
استغرب أحياناً
من خطيب يتباطأ عن متابعة أحدث نظريات التعليم في العالم، ربما بذريعة ان فيها أفكاراً
غير إسلامية، في حين أنها علوم تجريبية تستند إلى علم النفس والاجتماع، وبإمكاننا
بيسر وسهولة فرز الشوائب التي فيها مما يخالف ثوابت ديننا.
كل المثقفين
تعلموا من خلال علوم الاتصال المختلفة أفكاراً مؤثرة في المجتمع بإمكان الخطيب أن
يبدع ويبرع فيها كي يزيل حالة الملل والإحباط لدى المصلين ويغري عدداً أكبر من
الشباب والناشئة، بل وحتى الفتيات بالحضور والتواصل.
وأخيراً ولمصلحة
الأمة الإسلامية التي غالباً ما تفرط بمصلحتها، ينبغي حماية المساجد والمنابر من
قبل مؤسسة الدولة لا الحكومات التي تتبدل وتتغير، ما يجعل كليات الدعاة والخطباء
وهيئة الوقف غير خاضعة للتسييس مطلقاً. الأحرى بالمنبر أن لا ينقاد للأحزاب، فقد
يكون اليوم الحزب الفلاني إسلامياً لكن الحال سيتغير يوماً ما وقد تكون المنابر
حينها وبالاً على الإسلام.
ولا بأس من
الاستفادة من التجارب الناجحة حتى لو كان مصدرها مسيحياً، فنموذج مدارس كلية بغداد
التبشيرية كان نموذجاً فذاً وفيه مستوى معرفي مرموق وانضباط إداري وقيمي عالٍ.
والمسلمون أولى بذلك الضبط والربط.
الأمة التي تحمل
ذرة عقل ووعي لا تفرط بمنبرها، لأن التفريط بتلك القوة الناعمة سيكون هدية مجانية للأعداء والخصوم.