توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم
بدعوته إلى الكعبة التي كانت موضع اجتماع ونادي صناديد قريش وقبلة الناس.. وجهر
بالدعوة.. وناداهم اليه.. ليبلغهم.. ليسمعهم..
وكان يسجد لله على مرأى منهم.. في ناديهم..
فاقتدى به صلى الله عليه وسلم جمهرة من العلماء.. فانطلقوا الى مواضع تجمع الناس
وسمرهم.. يدعونهم الى الخير ويبلغونهم بما عليهم من أوامر ومسؤوليات..
حتى بلغ الأمر بغير قليل منهم
الذهاب الى مواضع المنكر للانكار والتذكير.. وإسماع من لا يحضر منهم الى مواطن
السماع والتذكير من المساجد وغيرها..
ولقد عرف عن الامام البنا قصده
المقاهي لالقاء الكلمات ودعوة روادها.. برغم غرابة مسلكه ذاك في ايام الناس تلك..
ثم اتخذ الوصول الى الناس في مواضع
تجمهرهم وأماكن لهوهم وسمرهم وعنايتهم اشكالا اخرى.. فقصد العلماء والدعاة مواقع
البث واذاعة برامج الراديو.. ثم استوديوهات القنوات التلفزيونية والفضائيات..
فقد انبرى العديد من العلماء
والدعاة للفضائيات.. لإلقاء محاضراتهم وتسجيل برامجهم.. فاختاروا المناسبات الخاصة والدورية وتحينوا الفرص
والاحداث لإيصال الفتاوى والفكر والتوجيه والنصيحة..
ثم وجد في الاونة الاخيرة من الدعاة
من ينشر محاضراته على هيئة دروس تبث مباشرة على الهواء.. ويتفاعل مع متابعيه حيا
على مدار اللحظة..
وهو قد انحاز بطريقته هذه الى تقريب
المتابع من المعلومة الموجهة.. وتفعيل كافة ايجابيات التواصل المباشر بين المتلقي
الانسان والداعية المهتم..
نعم..
يوجد اليوم من يفعل ذلك.. ولكن..
متأخرا وعلى استحياء...
فقد استهجن في كل بادئة أمر التحول
من المشاع المعروف إلى الجديد الغريب..
استهجن التحول من حلقات المساجد الى قاعات
المدارس.. واطلقوا عليهم.. المتعالمين الافندية..
ثم استهجن اقتصار اجيال من الشباب المحدثين على قراءة الكتب
والمراجع.. وعزوفهم عن حضور الدروس والتلقي المباشر من العلماء.. فاطلقوا عليهم
صفة خريجي الكرارييس..
ثم ترحموا على قراء الكتب والعاكفين
على البحث بين الاوراق لما انصرف الناس الى الأشرطة ومتابعة القنوات والفضائيات..
والإنصات إليها دون تلق مباشر أو متابعة..
ودون دراية كافية ولا تمحيص.. فاطلقوا عليهم.. اتباع القنوات والفضائيات..
والمشكلة... ان الناس لم يغدوا
صابرين على متابعة البرامج والمعروضات في الفضائيات التي يقدمها في العادة علماء
او دعاة ضمن برامج ومواد منتقاة نوعا ما ومعدة سلفا وخاضعة للرقابة ولو بدرجات
متدنية من التدقيق والقبول.. ووجدوها مملة ولا تلبي الذوق المتفشي في التنقل بين
الاختيارات السريعة المتاحة والمكتضة بها مواقع التواصل الاجتماعي التي تقدم
الوانا وأصنافا متنوعة جدا جدا.. وبدون توقيتات أو مواعيد أو انتظار.. فصار واحدهم
يتنقل بلحظات بين المواضيع.. والمحاضرين.. وحينما يختار من يريد.. ومايحب من مادة
موضوع.. يتنقل في ثنايا اختياره.. فيعبر المقدمة.. ويستمع هنيهة.. فان اعجبه يستمر
والا يقفز.. وهكذا قد يكمل او يغير..
لقد انتقل الجيل الحالي الى هذا
النمط الجديد في التلقي..
إنهم "الفيسبوكيون"..
انه النمط الاكثر رواجا هذه
الأيام.. شئنا ام ابينا..
الشباب.. النساء.. وحتى الاطفال..
واخيرا التحق بهم المثقفون.. مرتادي العلم ومواطنه.. علمائهم ودعاتهم..
لقد صارت هذه المواقع هي النوادي
والمقاهي ومواضع السهر والسمر..
فكيف كان التعامل والتفاعل.. وكيف
كان منا التوجه اليها..
كالعادة.. وكما في كل مرة.. نأى
اغلب العلماء والدعاة والمربون والموجهون بأنفسهم وبالعلم أن يلحقوا بالعامة..
وبالجهال.. وبالمستغنين عن السماع.. والمتعالين على التربية.. والمتفلتين من
الاستجابة.. لشعورهم بقيمة العلم والدعوة والتربية والفضيلة.. وبالاستغناء عمن
استغنى..
إنهم يطبقون بالحذافير مقولة.. ان
العلم يؤتى ولا يأتي.. وإن على المتعلم الذهاب الى العلم وليس العكس..
لقد اسقطوا ادب طالب العلم.. وأدب
التلقي.. على واجب تبليغ الدعوة.. والتذكير.. والتوجيه..
فما الذي حصل..
لقد قر هذا الفهم والتصور فينا..
حتى انحسرنا عن توجيه الناس والتواصل معهم وتبليغهم.. وانحسر عنا الناس..
لقد نأينا بانفسنا عنهم.. فاستفرد
بهم المغرضون.. فزادوهم جهلا ورهقا.. ووسعوا الفجوة بيننا..وعم زمن استخفاف الجهال
بالتذكير والأخلاق والفضيلة..
فهل فهمنا القاصر في التفريق بين
واجب الدعوة والتلبيغ والتوجيه وببن فضيلة
وأدب طلب العلم مبرر لكل هذا الخسران.. هل
يستوجب كل هذا الإصرار على المضي في العزلة عن الناس..
الم نتعلم ان صد الناس وتمنعهم لم
يمنع الانبياء عن غشيانهم في نواديهم.. وايصال رسالتهم وتبليغ دعوتهم.. هل جعل
الناس أصابعهم في آذانهم لسنوات وسنوات منع الأنبياء من التلبيغ ليلا ونهارا.. سرا
وجهارا..
فهلا اقتدينا بالانبياء..
بدعوة من تآمر عليهم الناس وتنادوا على اخراجهم
من قراهم لأنهم اناس يتطهرون..
وهلا أعدنا النظر في شممنا وشموخنا وتعالينا..
وما نتوهمه انتصارا للدعوة.. وواجب التبليغ..
فهلا فكرنا مليا في دعوة من انسحبوا
عنا وانسحبنا عنهم.. من انجذبوا إلى مواقع بديلة..
انسحبوا الى مواقعهم للتواصل
الاجتماعي.. الى انترنتهم..
هلا تدبرنا ودبرنا سعينا لتوجيههم..
نعم هنالك من انتبه منا وحاول
الاستدراك..
ولكن..
بعد ان امتنع.. وقاوم.. وعمد إلى
الاستنكار والنقد والرفض.. ولكن في النهاية خضع للأمر الواقع.. ولحق بالركب على
استحياء..
لقد تأخر.. كما نتأخر كل مرة..
ان هذه الانتباهة والاستجابة
المتأخرة.. تجعلنا نخسر الكثير في كل مرحلة.. نخسر الوقت ونخسر المتلقي الذي يذهب
دون ان ينتظرنا..
انه يتبع المتاح.. الممتع للذوق
والحس.. المتصف بالحداثة.. المغلف ببريق الجديد..
ذاك الذي يسلب اهتمامه.. ووقته..
وراحته..
يلبيه دون ملل ودون تفكير بما قد
يخسره من الوان الخسران.. وفي كل مرة ينجذب اليه.. في حين يظل المتصدر للتوجيه..
القابع في موضعه.. يستنكر وينادي وينتقد دون اجابة.. انه يتحسر ويزعج نفسه ويؤذي
ذاته دون نتيجة.. في حين ينفلت المتلقي من
بين اصابعه الى واقعه الجديد..
هذه ليست دعوة لتمييع فضيلة
التذكير.. وقدسية الدعوة.. ومكانة العلم.. إنما هو تنبيه إلى الاقتداء الصحيح..
والتخلي عن التعالي والفوقية.. والكسل.. والتعذر..
دعوة لمخالطة الناس والصبر على
أذاهم.. للتبسم في وجوههم.. لملاقاتهم بوجه طلق.. لتبليغ علية القوم وأراذلهم..
للذهاب الى الفراعنة لعلهم يذكرون او يخشون... لتبليغ الناس في محشرهم ضحى..
ولكن كيف.. بأية ادوات.. بأية آلية
ومعرفة..
كيف نتدارك.. وكيف نكون في
المقدمة.. وقد سبقنا الناس..
وقد سبقنا وسبق الناس اولئك الذين
أعدوا العدة وهيئوا المواقع والبرامج والنوادي..
تلك كانت المشكلة..
ونأمل المعالجة في التتمة بإذن
الله..