د. صلاح الدين
النعيمي
باحث في
السياسة الشرعية
لقد جاءت
الشريعة الإسلامية بقواعد كلية عامة تتسع لكثير من الوقائع المستجدة،فمنها ما جاء
في القرآن الكريم كقوله تعالى: ]وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم[([1]).
ومنها ما جاء
على لسان صحابة رسول الله r وبعض التابعين.
واخترت قاعدة
(( لا ضرر ولا ضرار)) وما يتفرع عنها، وذلك لأنها قاعدة عظيمة، بل من أعظم قواعد السياسة الشرعية، وعليها تنبني
فروع فقهية كثيرة يعسر حصرها.
مستند القاعدة
والضرر
والضرار بمعنى واحد على وجه التأكيد، ويقال: الضرر الذي لك فيه منفعة وعلى غيرك
مضرَّة، والضرار الذي ليس لك فيه منفعة وعلى غيرك المضرة، وقيل غير ذلك.([5])
لا يجوز إيقاع
الضرر بالآخرين، ولا مقابلة الضرر بضرر مثله، والضرر والضرار الواردان في الحديث
وردا لفظتين نكرتين في سياق النفي مما يفيد الاستغراق والعموم، وهذا معناه: نفي
سائر أنواع الضرر ابتداءً أو مجازاة، فالضرر لا تبيحه الشريعة لأحد، ولا تشرعه،
وهذا يعني أن كل ما جاء في الشرع مشروعيته، فليس بضرر حتى
وإن كان فيه إزهاق الأنفس
أو هلاك الأموال.
وانطلاقاً من
ذلك فإن الضرر يمنع في جميع مراحله، لذا وجب اتخاذ الإجراءات والترتيبات الوقائية التي
يكون من شأنها منع الضرر، فتحديد المناطق الصناعية التي ينتج عنها غازات سامة أو
روائح كريهة بالنسبة للتجمعات السكنية من السياسة الشرعية ،وكذلك تنظيم المرور مما
يسهل حركة الناس ومنع حوادث السيارات من السياسة الشرعية، ومن السياسة الشرعية
-أيضاً- منع الضرر قبل وقوعه بإعداد القوة التي ترهب عدو الله وعدو المسلمين
وتخيفهم امتثالاً لقول الله تعالى: ]وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ[([7]) .
ومن القواعد التي تتفرع عن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) نذكر
الآتي:
أي يجب أن يرفع الضرر وتزال آثاره.
فمن سلط ميزابه على طريق عام يتضرر به المارة فعليه أن يرفعه، فإن لم يفعل
وجب على وليّ الأمر أن يأمره برفعه، ومن هجِّر من بيته قسراً فعلى الحكومة أن
تعيده إلى بيته وتعوضه وتحاسب من كان سبباً في تهجيره.
معناها أن الضرر إذا كانت إزالته واجبة، فلا تزال بضرر مثله، أو أعظم منه،
فلا توجب النفقة للفقير على قريبه المعدوم.
هذه القاعدة تصريح بمفهوم المخالفة([11])
المستفاد من سابقتها، ويمكن أن نستدل من هذه القاعدة بالسياسة الإلهية في قصة موسى
u مع عبد الله ([12]) عندما خرق السفينة، فقد كان في خرقها ضرر، ولكنه فعل
ذلك ليدرأ ضرراً أشد، وهو مصادرة السفينة من قبل الملك الظالم الذي كان يأخذ كل
سفينة صالحة غصباً، فقد أوحى الله إليه أن يخرق السفينة لينقذ أصحابها من ضرر وهو
أن يغتصبها الملك الظالم، قال تعالى: ]وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي[([13]).
ومن القواعد التي في معنى هذه القاعدة، الآتي:
من فروعها: جواز السكوت عن إنكار المنكرات إذا كان يترتب على إنكارها ضرر
أعظم.
ب- (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً
بارتكاب أخفهما)([15])
من فروعها: جواز شق بطن المرأة الميتة لإخراج الجنين إذا كانت ترجى حياته.
ج- (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)([16])
فالضرر الخاص أخف وأهون من الضرر العام، لأن أثر الأول يخصّ، وأثر الثاني
يعمّ .
ومن أحكام هذه القاعدة: وجوب هدم الأبنية الآيلة إلى السقوط والانهدام مع
تضرر صاحبها خوفاً من سقوطها على المارة دفعاً للضرر العام.
فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة، قدم دفع المفسدة غالباً، لأن اعتناء
الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات، لذلك قال رسول الله r: ((مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا
أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ))([18]) لذا أجيز ترك الواجب دفعاً للمشقة، ولم يتسامح في
الإقدام على المنهيات خصوصاً الكبائر.
من فروعها: منع الرجل من أن يتصرف في ملكه تصرفاً يعود بالضرر على غيره،
كأن يحفر في أرضه موضعاً يؤدي إلى سقوط بناء جيرانه، أو كتعامل الدولة بالربا
لإنعاش اقتصادها وما إلى ذلك.
وأخيرا أقول: إن قواعد السياسة الشرعية بصورة عامة، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار
بصورة خاصة، هي قواعد نظرية من الممكن معرفتها من طلبة العلم، وأما تطبيقها وتحقيق
مناطها في الواقع فلا يقدر عليه إلاّ العلماء الربانيون، لأنه ليس كل من فقه
الأحكام يفقه كيف ينزلها في مواقعها، فهذا فقه برع فيه بعض الفقهاء، وليس كل فقيه
في الأحكام أو التطبيق يتقن الفقه السياسي، وليس كل من يتقن الفقه السياسي نظرياً
يتقنه عملياً فالفق[19]يه
السياسي أندر من الكبريت الأحمر، لذا وجب أن يكون فيمن يتولى تطبيق الفقه السياسي
ميزات وصفات كثيرة، سبق لنا الإشارة إلى بعضها عند كلامنا على أهلية من يتولّى
استعمال المصلحة([20])، ونزيد عليها الآتي([21]):
1- أن يكون
الفقيه السياسي ذكياً ذا ب
2- صر نافذ
وبصيرة وقّادة.
3- أن يقرأ ما
وراء السطور، ويتعدى بصره الحاضر إلى المستقبل ويقدر العواقب.
4- عليه أن يواكب
التطورات، ويحسب حساب المتغيرات، فهو لذلك لا يخدع، ومجال السياسة مجال خِداع
ومكر.
لذا عليه أن ينتبه إلى من يتعامل معهم -خصوصاً في عصر بلغ فيه المكر السياسي ذروته- فالعالَم
يدار الآن باستراتيجية مُحكمة،يتظافر عليها دراسةً وتحليلاً وتخطيطاً أبالسة
محنكون،ويساعدهم في ذلك التطور المعلوماتي الهائل،وتنفذ تلك الخطط بدقة بالغة وعلى
مراحل مدروسة، وهذا ما نراه في عصرنا الحاضر، لذا يتحتّم على من يتولّى المسؤولية
أن يتصف بهذه الصفات([22]).
[20])) وهي على سبيل الاجمال:
التجرد لطلب الحق، فهم مقاصد الشريعة على كمالها، مَلَكة الاستنباط، معرفته
لأقسام المصلحة، : فهم الواقع ومعرفة الناس