د. عبد الستار عبد الجبار
عضو الهيئة العليا للمجمع الفقهي العراقي
إن من أكبر المشكلات التي تواجه الدعاة العاملين في الحقل الإسلامي اليوم
هي مشكلة التكفير ولا سيما تكفير المعين. أي إطلاق حكم التكفير على الشخص المعين
لفكرة يتبناها أو عملٍ يقوم به دون معرفة مدى توافر شروط التكفير فيه. وإذا توافرت
الشروط, فهل انتفت عنه الموانع التي تمنع التكفير؟
لذا كان لا بد من البحث ولو باختصار في هذه المسألة الخطيرة، فهناك اليوم
اتجاه لتكفير المجتمع وكل الناس، ومن الضروري التقديم لأقوال العلماء في المسألة
للتنبه إلى خطورتها:-
/ الإمام الباقلاني عندما
طرحت عليه مسألة حكم الخوارج قال" لم يصرح القوم بالكفر وإنما قالوا أقوالا
تؤدي إلى الكفر".
ففرق بين التصريح بالكفر والأقوال التي يفهم منها الكفر فما جاء صريحاً
فهو كفر وما أدى إلى الكفر لا يمكن التجرؤ عليه بأنه كفر.
/ والإمام الجويني (أبو
المعالي) عندما سئل عن الخوارج أيضا, اعتذر بأن "إدخال كافر في الملة, وإخراج
مسلم عنها عظيم في الدين".
فعلينا
أن نتهيب ونستعظم ما استعظمه هؤلاء العلماء العظام.
/ الإمام الغزالي في فيصله
يذكر "الخطأ في ترك ألف كافر في الحياة, أهون من الخطأ في سفك دم مسلم
واحد" لذا يذكر القرطبي "باب التكفير باب خطير ولا نعدل بالسلامة
شيئاً"([1]).
فإذا
كان الأمر يخص الخوارج الذين كفَّروا الكثير من أعلام الأمة وقاتلوهم، وقال عنهم
المصطفى r]يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية[([2]) ثم يتورع العلماء هذا الورع في تكفيرهم طلباً للسلامة من خطورة هذا
العمل فما بالك بمسلم هذا الزمان؟
وقضية يطلب السلامة بها أمثال هؤلاء أليس الأحرى بنا أن
نفر منها ونطلب السلامة ونكل الأمر إلى أهله الذين يُسألون عنه أمام الله وحدهم.؟
وأهل السنة في قضية التكفير مثلوا الوسط بين طرفين:
ــ طرف المرجئة الذين قالوا: لا نكفر من قال لا
اله إلا الله، لأنَّه كما لا ينفع مع الكفر طاعة كذا لا تضر مع الإيمان معصية.
ــ وطرف الخوارج الذين كفّروا بالكبائر وأنزلوا
نصوص الوعيد في غير منزلها.
ووسطية أهل السنة تتمثل بما ذكر الطحاوي (ولا
نكفر أحدًا من أهلِ القبلةِ بذنبٍ ما لمْ يستحلَّه..) فلسنا كالمرجئة (لا نكفر)
ولسنا كالخوارج (نكفر بكل ذنب) ولكن نكفر من يستحل الذنب، وأهل القبلة عند الطحاوي
هم الذين بينهم بقوله (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي r
معترفين وله بكل ما قال وأخبر مصدقين).
كما ويعتقد أهل السنة أن التكفير حق الله
فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله (كما ذكر شارح نونية ابن القيم في العقائد 2/
406).
لذا نجد أهل السنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان
ذلك المخالف يكفرهم, لان الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله.
ويصرح ابن حزم بأن حكم التكفير يجب أن يثبت بأحد
أمرين:-
ــ نص صحيح صريح عن الله Uأو عن رسوله r.
ــ إجماع الأمة على ذلك الحكم (وأما بالدعوى
والافتراء فوجب أن لا يكفر أحدٌ بقول قاله, إلا بأن يخالف ما صح عنده أن الله
تعالى قاله, أو أن رسول الله rقاله, فيستجيز خلاف
الله وخلاف رسوله r)([3]).
وقد نص ابن تيمية رحمه
الله (إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين, وان التكفير المطلق لا
يستلزم تكفير المعين)([4]).
فالتكفير المطلق كقول
المفتي: من قال كذا أو فعل الفعل الفلاني فقد كفر، بصيغة العموم، وهناك تكفير
المعين؛ والأصل فيه أن يكون من اختصاص القاضي لأن أحكام الردة تترتب عليه.
ويشترط في القول أو
الفعل الذي يكفر صاحبه شروط هي:
أ-
العلم بأن هذا القول أو الفعل كفر؛ فلا كفر إلا
عن علم لذا قال الله I}وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً{النساء115 فالمخالفة الموجبة
للعقاب ما كانت عن علم بعد البيان.
وعلى هذا الأساس لم يكفر جاحد الفرائض أو مستحل
الخمر أو الربا ونحو ذلك إذا كان حديث عهد بإسلام؛ حتى يبين له أن جحود الفرائض
واستحلال الخمر والربا كفر لأنها من المعلوم من الدين بالضرورة.
ويؤيد هذا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r
لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا:
ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ
النَّبِيُّ r)سُبْحَانَ اللَّهِ
هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى }اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا
كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ{الأعراف: 138 وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ هَذَا(([5]) فقد كانوا حينها حديثي
عهد بالإسلام كما ورد في مسند أبي داود الطيالسي([6]) وإلا لكفروا بهذا القول.
وذات أنواط شجرة خضراء كانت الجاهلية تأتيها كل
سنة تعظمها وتعلق بها أسلحتها وتذبح عندها قريبا من مكة وذكر أنهم كانوا إذا حجوا
وضعوا عليها أرديتهم ودخلوا بغير أردية تعظيما لها، والقصة تفيد أن المسلم قد يقع
منه بعض أنواع الشرك وهو لا يدري فلا بدَّ من لزوم التعلم والتحرز، ومن تكلم
بالكفر وهو لا يدري فنُبِّه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر.
ومثلُ حديثِ العهد بالإسلامِ؛ مَن نشأ في
المناطق النائية عن ديار المسلمين التي ينتشر فيها العلم الشرعي ويستطيع أن يتعرف
على أحكام الدين، كالأقليات المسلمة في الأماكن النائية وسكنة البوادي الذين لم
يخالطوا أهل العلم الشرعي.
ب- أن يكون ظاهرًا ليس من
أفعال القلوب، فأحكام الدنيا مبنية على الظاهر وأحكام الباطن من اختصاص الله I
الذي يعلم السر وأخفى.
أورد ابن كثير في التفسير عند تفسيره قوله تعالى }وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى
النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ
ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ{التوبة101 قصة نقلها عن
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ حَرْمَلَةُ أَتَى
النَّبِيَّ r
فَقَالَ: الْإِيمَانُ هَاهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ، وَالنِّفَاقُ
هَاهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى قَلْبِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ إِلَّا
قَلِيلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r)اللَّهُمَّ اجْعَلْ
لَهُ لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَارْزُقْهُ حُبِّي وَحَبَّ مَنْ
يُحِبُّنِي، وَصَيِّرْ أَمْرَهُ إِلَى خَيْرٍ(
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ لِي أَصْحَابٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ
وَكُنْتُ رَأْسًا فِيهِمْ أَفَلَا آتِيكَ بِهِمْ؟ قَالَ )من أتانا استغفرنا له،
ومن أصر فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِ، وَلَا تَخْرِقَنَّ عَلَى أَحَدٍ سِتْرًا(([7]).
فعدم خرق الستر منهج أصيل في هذا الدين فما بالك بالنوايا والمقاصد؟
ج- إنكار نص صريح
متواتر من القرآن أو السنة، أما إذا خالف أحدٌ فَهمَ شخصٍ أو اجتهاد أشخاص في نص
معين فهذا قد يدخل في باب الخلاف المشروع, وقد يكون من نوع الخطأ أو التأويل
المرجوح أو إتباع الهوى لكن لا يبلغ حد التكفير.
لذلك يفرق العلماء بين
الظاهر المعلوم من الدين بالضرورة وهو النص الصريح المتواتر أو الإجماع المتيقن.
وبين الخفي الذي لا يعلمه كل أحد, فمن أنكر الظاهر المعلوم من الدين بالضرورة كفر
لأنه لا عذر في جهله.
أما منكِر الخفي وهي
المعاني التي قد يجهلها البعض لأنها لم تبلغ في الظهور درجة العلم الضروري فمنكرها
مخطئ أو ضال. ويضرب شارح نونية ابن القيم مثلاً لذلك بجهل بعض الصفات.
ويشترط مع ما تقدم
انتفاء الموانع من التكفير.
· موانع التكفير:- وموانع
التكفير أربعة هي:
1.
الجهل: فقد خَطَبَ أبو مُوسَى الأشعري فقال:
خَطَبَنَا رسول اللَّهِ r
ذَاتَ يَوْمٍ فقال )أَيُّهَا الناس
اتَّقُوا هذا الشِّرْكَ فإنه أَخْفَى من دَبِيبِ النَّمْلِ، فقال له من شَاءَ الله
أن يَقُولَ: وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وهو أَخْفَى من دَبِيبِ النَّمْلِ يا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قال: قُولُوا اللهم إنا نَعُوذُ بِكَ من أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئاً
نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ نَعْلَمُ(([8]) فمن وقع في شيء من
الشرك عن جهل ثم دعا بهذا الدعاء غفر له.
ومن الجهل حديث
أبي هريرة وأبي سعيد وحذيفة y
مرفوعاً:]
كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا متُّ فاحرقوني ثم
اطحنوني ثم ذرّوني في الريح- في رواية في يوم عاصف, وفي رواية: في البحر- فوالله
لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحدا. فلما مات فُعل به ذلك فأمر الله
الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه ففعلت, فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت؟
قال: يا رب خشيتك- وفي رواية مخافتك- فغفر له بذلك(([9]).
فهذا المسرف ثبت انه
مؤمن لأنه فعل ما فعل من خشية الله U
وخوفه, وثبت انه جاهل بقدرة الله U
على إعادته إذا حُرّق وذُرّي, وهذا كفر ولكن الجهل عذر ومانع.
فمن صدرت منه معصية
مهما كانت كبيرة، وكان صدورها عن جهل يعذر به صاحبه لم يكفر بهذه المعصية كما بينت
لنا النصوص.
2.
الخطأ: لعموم قوله تعالى }وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{الأحزاب5 فالله I
لا يؤاخذ على الخطأ والشبهة مما لم يتعمده القلب، ولم ينعقد العزم فيه على
المخالفة عناداً لأن هذا غاية ما استطاع أن يصل إليه من فهم.
ولما ورد عن النبي r]لله اشد فرحاً بتوبة
عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فأفلتت منه وعليها طعامه
وشرابه فآيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد آيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو
بها قائمة عنده فاخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك, اخطأ
من شدة الفرح(([10]).
فقوله (أنت عبدي وأنا
ربك) مغفور إذا كانت من باب الخطأ وسبق الكلام، وعليه لا يجوز محاسبة المكلف على
تعبير أخطأ به وتكفيره عليه.
3.
الإكراه: كما ورد في قصة عمار حين عذبه المشركون
فاستجاب لهم وقال لهم كلاماً كفراً فأنزل الله }مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ
وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{النحل106. فالأخذ بالتقية في
مثل هذه الحالات عذر في التلفظ بالكفر، ولا يجوز أن يحاسب المترخص وإن كان الصبر
أفضل.
وقصة عمار بن ياسر حين عذبه المشركون لينال من النبي r
وعذر النبي r
له معروفة. وكذلك كل مسلم أكره على قول كلمة الكفر يجوز له النطق بها مع كراهة
قلبه لها واطمئنانه بالإيمان.
4.
التأويل واختلاف الفهم: ويضرب ابن حزم مثلا له بقول عمر
t
عن حاطب وهو مهاجر بدري: دعني اضرب عنق هذا المنافق, فإن عمر t
بتكفيره حاطباً ووصفه بالنفاق كان مخطئاً متأولاً([11]) لمَّا صدر من حاطبٍ فعلٌ
يستلزم برأيه هذا الحكم، وحاطب أقدم على صنيعه هذا متأولاً أن الله ناصر نبيه r
ومظهر أمره وأنه لا ضرر مما فعل، فلم ينافق في قلبه، ولا ارتد عن دينه، وإنما تأول
فيما فعل من أن إطلاع قريش على بعض أمر رسول الله r
لا يضر، وحسن له هذا التأويل تعلق خاطره بأهله.
ويقول أيضا (من قال إنَّ ربه جسم فإنه إن كان
جاهلاً أو متأولاً فهو معذور لا شيء عليه, ويجب تعليمه. فإذا قامت عليه الحجة من
القرآن والسنن فخالف ما فيهما عناداً فهو كافر ويحكم عليه بحكم المرتد)([12]).
ففي هذا النص يبين ابن حزم أن الجهل والتأويل
عذران في عدم التكفير.. والجهل قد بينا دليله, وكذا التأويل.. ومن نوع التأويل ما
جرى بين الصحابة yأجمعين فكلهم متأول,
الباغي والمبغي عليه فالمقاتل (وان كان باغياً فهو متأول, والتأويل يمنع الفسوق)([13]).
بل إذا كان الرجل الذي شك في قدرة الله على
إعادته إذا ذُري, واعتقد انه لا يعاد- وهذا كفر باتفاق المسلمين- قد اعذر للجهل
ولأنه كان مؤمناً يخاف الله Uأن يعاقبه وغفر له([14]).
فالمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول r
أولى بالمغفرة من مثل هذا.
لذلك لا يجوز عند ابن تيمية تكفير المسلم بذنب
فعله, ولا بخطأ وقع فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة لان الله قد أجاب
دعاء المؤمنين حينما قالوا }رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا
إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا{البقرة286. فغفر لهم خطأهم كما
ورد.
فالأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم
تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق فحينها يكون معذوراً لجهله، أو لم يثبت عنده صحة
ما ورد، أو جهل المراد به، أو لم يتمكن من فهمه لشبهة عرضت له يعذره الله بها،
وهذا هو التأويل.
فمن كان من المؤمنين - إي من أهل القبلة-
مجتهداً في طلب الحق وأخطأه فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان في المسائل
النظرية الاعتقادية أو العملية. وهذا الذي عليه أقوال الصحابة y
وأفعالهم وجماهير الأمة.
بقي أن نعلم أن الكلام السابق كله في التكفير
المطلق أي لغير المعين, أما تكفير المعين فأهل السنة والجماعة أولا يوجبون التفريق
بين الإطلاق والتعيين([15]) ثم
هم أكثر احتياطاً في إيقاعه على المعين.
فالقول قد يكون كفراً, فيطلق القول بتكفير صاحبه
ويقال: من قال كذا فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قال ذلك لا يحكم بكفره حتى
تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها, ولان المعين قد تلحقه توبة, لقوله تعالى }إِلا مَنْ تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً{الفرقان70
وقد
تلحقه حسنات ماحية لقوله تعالى }وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ{هود114وقولهr]أتبع السيئة الحسنة
تمحها[([16]) أو قد تلحقه المصائب
المكفرة، والمصيبة تمحو الخطايا كما أخبر المصطفى r]ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله
وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة[([17])
فهذه قد تلحق المؤمن في الدنيا, أما في الآخرة
فقد تلحقه شفاعة مقبولة تمحو عنه سيئاته كما ورد عنه r]أن من أمتي من يشفع
للفئام من الناس, ومنهم من يشفع للقبيلة, ومنهم من يشفع للعصبة ومنهم من يشفع
للرجل حتى يدخلوا الجنة[([18]).
لذا كان من أعظم البغي أن يُشهد على معين أن
الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار فهذا حكم الكافر الذي مات على كفره
فلا نقطع به إلا لمن كان بهذا الوصف.
وقد روى أبو هريرة tمرفوعاً )كان رَجُلَانِ في بَنِي
إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ
في الْعِبَادَةِ فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الأخر على الذَّنْبِ
فيقول أَقْصِرْ فَوَجَدَهُ يَوْمًا على ذَنْبٍ فقال له أَقْصِرْ فقال خَلِّنِي
وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا فقال والله لَا يَغْفِرُ الله لك أو لَا
يُدْخِلُكَ الله الْجَنَّةَ فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، فقال لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: كنت بِي عَالِمًا؟ أو كُنْتَ على ما
في يَدِي قَادِرًا؟ وقال لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ برحمتي. وقال
لِلْآخَرِ اذْهَبُوا بِهِ إلى النَّارِ. قال أبو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي
بيده لَقد تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أوبقت دُنْيَاهُ وأخرته(([19])
بقي أن نعلم أن الذي يجوز له أن يحدد الشخص
المعين الذي قال أو فعل الكفر فاستحق الحكم بتوافر الشروط وانتفاء الموانع هو القاضي
فقط الذي عينه الإمام وليس كل من يشتهي، لأننا لو فتحنا الباب على مصراعيه لقتل من
شاء ما شاء بحجة التكفير.. ولدرء هذه المفسدة حُدد القاضي فقط.
ثم أن دراسة توافر الشروط وانتفاء الموانع
وإقامة الحد بعد ذلك تحتاج إلى قوة لا يملكها إلا السلطان الذي عين القاضي والذي
يختلف عن المفتي بأن حكمه ملزمٌ للمحكوم عليه واجب التنفيذ, وله جهاز تنفيذي يمثل
الدولة المسلمة.. أما عندما يترك الأمر للأشخاص فستفتح باب الثأر والانتقام
والشهوات وغيرها أجارنا الله من كل هذه الشرور.
[7]))قال في مجمع الزوائد ومنبع
الفوائد 9/ 402: ورَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ،
وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ.