د. عمار وجيه
سياسي وباحث
منذ شبابنا كنا نقرأ عن الفتن، لكننا ربما لم نشهد فتنة أشد من فتنة
اليوم. وقد يأتي ما هو أسوأ أو تنكشف الغمة. ونسأل الله أن تكون الثانية ليأتي الفرج.
الأمة ماتزال تتنقل من تيه إلى تيه، لأنها ترغب في التغيير ولا تحسن
استخدام وسائله ولا الصبر على مراحله.
تقدمت الأمة خطوات واعدة في القناعة بالحل الإسلامي منذ عقد الثمانينات
والتسعينات، ثم تراجعت بعد فتن الاحتلال وظهور مجاميع العنف التي صبت غضبها على الأمة
وتركت الأعداء.
استيقظت الأمة لتسقط أوثان الاستبداد، فلم تجد أمامها نموذجاً جاهزاً
سوى النموذج الديمقراطي السائد في العالم، ففشلت في تطبيقه بعد أن استدرجت إلى خطط
الدولة العميقة، وضلالات المبتدعين والمتشددين، وخداع الغرب المهيمن على المشهد.
اندفعت أمتنا بعد التغيير لتحاسب الفاسدين من أزلام من مضى تحت شعار
(من اين لك هذا؟) ثم صعقت بظهور جمع غفير ممن فاقوا منقبلهم فساداً وإفساداً.
كلذلك أدى إلى تراجع مخيف ورغبة جامحة بالعودة إلى الماضي أو الارتماء
الكامل في أحضان المجتمع الدولي!
مشاريع التغيير بالمحصلة اصيبت بانتكاسات فاقت الوصف، سيما بعد أن
حصل التآمر على المعتدلين، بحسد الخصوم، ولؤم أعداء العقيدة الذي تنبأ به القرآن
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا). فالانقلاب على الشرعية في مصر، ومحاربتها في ليبيا بحفتر ثم داعش، وتمزيق
الثورة السورية، وتحريض الحوثيين في اليمن، وتهجير سنة العراق بغية إذلالهم، كانت كلها
رسائل واضحة مفادها: لامكان للحل الإسلامي في المنطقة العربية فابحثوا عن تحالفات جديدة
تكونون فيها اتباعاً.
وكان من مكر الله سبحانه أن أفشل كل المشاريع في بلداننا وآخرها
المشروع الطائفي، ثم
أعجز الغرب عن إقصاء تيارالاعتدال الإسلامي، فلم يبق للمجتمع الدولي
سوى لعبة الترويض قبل أن يضطر لمواجهتنا بالسلاح.
ولئن كانت الوسطية عندنا تعني بالضرورة الالتزام بالشريعة بلا إفراط
ولاتفريط، فإنما يريده المجتمع الدولي هو الميل نحو التحلل (وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا). فالنموذج الراقي
للفتاة الملتزمة بالحجاب الفضفاض على سبيل المثال، لم يرقْ للآخر الذي أصرّ على خلق
صورة ذهنية للشباب أن الحجاب الشرعي أمسى ضرباً من التشدد. لكن لم يعترض أحد على صورة
فتاة الجينز التي تكشف بطنها وتكتفي
بربط شعرها بخرقة، ولا وصفه أدعياء (الاعتدال المروض) بأنه تحايل
على وسطية الإسلام وتفريغ لمحتواها.
ونفس الحال ينطبق على آباء
أطلقوا العنان لأبنائهم وبناتهم لإشباع غرائزهم قبل الزواج بذريعة
تخفيف الكبت. وسرعان ما تطورت المخالفات لتكون مقدمة للمسكرات والمخدرات والصحبة الفاجرة،
ثم الانخراط في المافيات ثم خدمة الدولة العميقة. وكأن المطلوب من مجتمعاتنا تقليد
دورة حياة حشرة وليس تأسيس بناء أمة يراد لها الاستقامة على الشرع الحنيف.
الأعوام القادمة ستكون أشبه باحتلال كامل للمنطقة العربية بالذات،
العسكرة فيه ليست الأسوأ، بل الهيمنة السياسية المعرقلة لاستعادة الإرادة أو اكتساب
السيادة، والهيمنة الاقتصادية التي تتحكم بالمفاصل الانتاجية والاستثمارية، والسحر
الثقافي الضاغط على العلماء والدعاة بدعاوى الوقاية من احتمالات تشكيل بؤر الإرهاب
من جديد.
وقبل اكتمال الصورة الجديدة للاحتلال، كان لإيران تفاعلها وقدمت
بديلها الأسوأ فلم تدافع عن قيم الإسلام بل استهدفتها بقتل الحب بسلاح الكراهية، وبدلاً
من الإسهام في حفظ ديار المسلمين، منحت الضوء الأخضر للاحتلال فتحول إلى وبال، كما
إنها لم تحرص على وحدة الشعوب المسلمة بل زرعت طائفية مقيتة دموية قل مثيلها. ولم يعد
في المدى المنظور لإيران أي مستقبل يخدم المنطقة بل صار ت عبئاً كبيراً استعدى العرب
والعجم على حد سواء.
إذن ما دور حمَلة الرسالة؟
واحد من ابلغ النصوص القرآنية المحكمة قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُم
مِّنَ الدِّينِ مَاوَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا
بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَاتَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ
مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ).
وفيه ركنان أساسيان: إقامة الدين، ونبذ الفرقة: (أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه). ولكي يتحقق هذان المطلبان، وجب على كل المسلمين
في العالم وبالخصوص ذوي الاعتقاد السليم أن يدوروا حولهما.
نشاط الفكر الإسلامي الحديث توسع كثيراً في آخر ربع قرن. وبعد أن
كان يعتمد على نخبة محدودة من الرواد، بلغ اليوم عدد الدعاة والباحثين الألوف وتوفرت
المواد المعرفية كتباً وتسجيلات ومنشورات هائلة على وسائل التواصل.
(إقامةالدين) بحاجة إلى تفعيل كافة المشاريع النظرية والعملية
التي تحمي الدين، ومنها تأسيس وتطوير معاهد الفكر والمساجد والمدارس والجامعات على
اسس عقدية ومعرفية راسخة أملاً في توحيد المفاهيم وتقريب الثقافات الإسلامية.
سنحتاج المزيد من الجهد لتبسيط فكر الأولين وانتقاء ماينفع الجيل
القادم. سنحتاج المزيد ممن يتقن اللغات الحية سيما الدعاة والمنظرون لتحقيق المزيد
من التواصل الحضاري وتصحيح صورة الإسلام التي تشوهت هناك. وتقع المسؤولية عل ىدعاة
المشرق والدعاة المغتربين بالتضامن.
(نبذ التفرق) يقتضي الاجتماع على الكليات وتقديم القادة الأكفاء
الذين يحرصون على وحدة الأمة وارتقائها.
وإذا كان الغرب يدّعي محاربة التطرف بالانفتاح والليبرالية لنقل
الأمة من التطرف الديني إلى التطرف المدني، فإننا الموصوفون
بالأمة الوسط أولى منه بذلك ونحقق وسطيتنا بطمر الخلافات التاريخية التي ظهرت على شكل
عناوين موهومة بمسمى الصوفية والسلفية والمرجئة والقدرية، وتوارثت النخب تلك المصطلحات
ليس لتوحيد الصف والنهوض بالأمة بل لتتجذر الخلافات الموهومة بين أهل السنة والجماعة
وتوجَد المبررات لظهور الزعامات. واليوم وإن اختفت بعض تلك الفرق إلا إن عقدة التصنيف
مازالت متأصلة فيمعظم بلداننا نتيجة لغياب النخبة القائدة.
الإصرار على إنجاح هذين المطلبين: إقامة الدين ونبذ التفرق سيضمن
بإذن الله نهضة سريعة لشباب الأمة بعد أن تمر العاصفة.