وسام الكبيسي- كاتب وباحث
جاءت الشريعة الإسلامية لتضبط حياة المسلم
في كل حالاته، في عباداته ومعاملاته وسلوكياته ومشاعره، حاكما ومحكوما، فردا وأمة،
لأنه دين للحياة كلها باعتبارها ظَرف ومادة الابتلاء والاختبار ومقياس الفلاح والخيبة،
وليس دينا منعزلا عن الحياة يعطيه أتباعه من فضلة أوقاتهم، ومن هنا وجب أن تكون صلاتهم
ونسكهم ومحياهم ومماتهم لله رب العالمين.
ولا يمكن الفصل من هذه الزاوية بين ما هو
سلوك عام أو اعتقاد جازم أو عبادة محضة أو عادة سليمة، فمجموعها يشكل منظومة القيم
التي يقوم عليها نظام الحياة بكل تفاصيلها، إذ تصبح حياة المسلم عندذاك حالة من التنقل
بين محطات متنوعة من الطاعة والعبودية التي لا تنقطع لله رب العالمين.
لقد سبقت مرحلة بناء الدولة النبوية، على
قائدها أفضل الصلاة والسلام، بعد مقدمه إلى المدينة، بعض الخطوات كان من أهمها بناء
المسجد والمؤاخاة بين المسلمين، وكما كانت المؤاخاة بين المسلمين ضرورة، تنتقل معهم
من ميدان الحياة إلى محراب المسجد، كسلوك يتمثل بالشعور بالأخوة والمساواة والمواساة
والتعاون، فقد كانت الصلاة قاعدة تشتمل على عدة قوانين لضبط النظام تنتقل مع المسلمين
من محراب المسجد إلى ميدان الحياة لضبط علاقاتهم وتصرفاتهم، بما يضمن بعد تداخل الصورتين
مع صور أخرى، إظهار الأمة - مفهوما وواقعا وسلوكا - بشكل ومضمون جديدين، يشكلان أرضية
مؤهلة لقيام النموذج الجديد للدولة، بمرجعية مستندة على الرسالة الإسلامية.
بل إننا نجد أن بعض النصوص تملأ العقل والوجدان
بمعان كبيرة جدا على بساطة ما تطرحه هذه النصوص من أفكار وسلوكيات، ومن ذلك ما رأيناه
من اعتناء النبي عليه الصلاة والسلام بتسوية الصفوف قبل الصلاة، حتى إننا ونحن نلمس
تنوعا في ألفاظ ومعاني وصور وتشبيهات الأحاديث الواردة في هذا الباب، نكاد أن نرسم
صورة كبيرة تتشكل من مجموع هذه الصور، بما يجعلنا لا نشك أن الغرض أكبر من مجرد ضبط
طريقة الوقوف خلف الإمام في الصلاة، وأنه يراد من كل هذه النصوص بناء سلوك عام يصوغ
الأمة وأفرادها لتشعر أنها تصلي في ميدان الحياة، وذلك هو المعنى العام للعبادة كما
ينبغي أن يتمثلها المسلم تفسيرا لقوله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".
أول ما يلفت النظر من بين أحاديث تسوية الصفوف،
هو حث المسلم على التنافس على الصفوف الأولى، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف
الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا)، حيث أن اللائق بالنفس المؤمنة ألا تقبل
بالصفوف المتأخرة، وذلك سلوك ينبغي أن ينتقل مع المسلم من محراب الصلاة إلى ميدان الحياة،
فالأمة التي يحرص أطباؤها أن يكونوا في الصفوف المتقدمة بين أطباء الأمم، وكذلك مهندسوها
ومعلموها ومفكروها ومنظروها ومديروها وموظفوها وعمالها - كل في اختصاصه … إلخ، وصولا
إلى قادتها، ستتقدم الصفوف بين الأمم، وأمة يرضى أبناؤها بمؤخرة ركب العلم والمدنية
والحضارة، ستقبع في مؤخرة ركب الأمم ولا شك.
فمن تقدم في محراب الصلاة وتأخر في اختصاصه
في ميدان الحياة، فذلك حصر عبادته في مسجده، ولم يهتز قلبه لمفهوم العبودية الشامل
لكل لحظة في حياته ونبضة من قلبه، وجمال العبودية وكمال الطاعة هنا أن تنسج من مهنتك
وصنعتك سجادة صلاة، وتبني من ميدان عملك محراب طاعة.، ولنا أن نتخيل هنا الصورة المقابلة
وكيف جاء ذمها بأقذع الألفاظ، ففي الحديث الشريف الذي رواه مسلم وأبو داود وغيره عن
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال قوم يتأخرون
حتى يؤخرهم الله)!،
والحديث الشريف الذي رواه أبو داود بإسناد
صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا الصفوف،
وحاذوا بين المناكب، وسُدُّوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فُرُجات للشيطان،
ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله)، يشير معنا إلى معان عظيمة، حيث أن
الصفوف لا تستوي إذا كنا على حال من التصلُّب والتشدُّد مع إخواننا، إذ مقتضى إقامة
الصفوف أن يلين المسلمون بأيدي بعضهم في محراب الصلاة، وفي ميدان الحياة، لين سلوك،
ولين قلوب، ولين قول، ولين أفكار، فبدون ذلك سيظهر الخلل ولا شك، وسيذر أبناء الأمة
فرجات للشياطين - وما أكثرهم - ليتخللوا صفنا ويتمددوا في فراغات نحن أوجدناها بفُرقتنا،
وليسيروا بيننا بالوسوسة وإيغال صدور بعضنا على بعض، وهنا إشارة مهمة، فإن كان من يقطع
صف الصلاة يقطعه الله، فكيف الوعيد على من يقطع صف الأمة ويسعى إلى حلق دينها بسعيه
في إفساد ذات بينها، بلسانه أو بسنانه أو بأفعاله؟!.
وعنه فيما رواه أبو داود بإسناد حسن أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتموا الصف المتقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن
في الصف المؤخر)، وهذا الحديث يربي فينا سلوك المبادرة وعدم التواكل انتظارا لمبادرة
الآخرين، فمن وجد خللا في صف المسلمين فليبادر إلى سده وليتقدم غير هياب ولا متردد
لإصلاح عطبه، فحياة الأمة من حياة قلوب وهمم أبنائها.
في جمع الصفوف خلف الإمام نلحظ كذلك توحدا
في الاتجاه، ولا تقبل الصلاة ممن يولي وجهه شطر اتجاه عكس اتجاه الجماعة، وكذلك حالنا
كأمة، فقد نختلف في بعض وسائلنا وأهدافنا المرحلية، لكن علينا أن نهتدي - كأمة - إلى
أهدافنا العليا واتجاهنا العام ونعرفها كما نعرف أبناءنا، وبمقدار ما يتوضج ذلك في
أذهان أفراد الأمة، بمقدار ما يتجذر في سلوكها العام، ولذلك نجد الحديث الشريف يؤكد
على أن استواء المظهر يقود إلى استواء الجوهر، والعكس صحيح، حيث يخاطب المسلمين محذرا
فيما رواه مسلم، بقوله عليه الصلاة والسلام، (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، بل
يبلغ التحذير هنا مداه لأهمية تركيز هذا المعنى في وجدان المسلم لينتقل معه إلى محراب
الحياة، فقد روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتسونَّ صفوفكم،
أو ليخالفن الله بين وجوهكم) وهذا في رواية البخاري ومسلم، وقد رواه أبو داود وأحمد
بلفظ: (أو ليخالفن الله بين قلوبكم)، فهل نتوقع أن يخالف الله بين قلوبنا إذا أسأنا
في رص صف الصلاة، ولا يخالف بين قلوبنا ونحن نعمل على تفريق صفوفنا في ميدان الحياة،
مع أن أثر هذا الأخير أكبر بكثير من أثر عدم رص الصفوف في محراب الصلاة؟!، وكيف يُمكِّنُ
الله لقوم استحقوا منه أن يخالف بين قلوبهم؟!!.
الإمام في الصلاة ليس شخصا بحد ذاته - بدليل
أن الأمة ليست ملزمة أن تصلي خلف إمام واحد -، ولا يعنينا شخص الإمام إذا توفرت فيه
شروط الإمامة، بل هو قوانين ضابطة تذوب دونها الفوارق الطبيعية بين المأمومين، فنحن
قبل أن نقف خلف الإمام قد نختلف على صُعُد الفكر أو الذكر، وقد تتباين أحكامنا على
عدة مذاهب ومشارب، ولكن كل هذه الفوارق تذوب، لا في ذات الإمام، بل في روح الجماعة،
وقوانينها الضابطة، ولنتخيل المسجد لو قامت فيه عدة جماعات في وقت واحد على تعدد المذاهب
والمشارب والأفكار والأحزاب!!، وهكذا فليس المطلوب أن لا تختلف الأمة، فذلك تكليف لا
يراعي الفطرة والطباع البشرية، ولكن المطلوب أن نُثبِّت العقد الإجتماعي الضابط لحركة
الجميع على اختلاف توجهاتهم، منطلقين من ثوابت الشرع ومقتضيات الواقع، وعندئذ نخرج
من مساحة الجماعات المختلفة، إلى مساحة المجموعات المتنوعة، ويصبح الاختلاف سببا للقوة
لا للضعف، وللتنوع لا للتضاد، وللتعاون لا للتلاعن، وللتكامل لا للتآكل.
لقد رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال:
(استَووا تَستوِ قلوبُكم، وتماسُّوا تراحَموا )، وهنا نرى ضرورة الحرص على تسوية الصفوف،
والاهتمام بها كأحد أهم الأسباب في التأثير على القلوب - سلبًا وإيجابًا -، وعلى هذا
نجد أهل العلم يربطون بين العناية بهذه السنة وبين تحولها كسلوك عام يندرج تحت باب
سد الذرائع، فنسمع ابن القيم رحمه الله يقول:
(اجتِماعُ القلوب وتآلُفُ الكلمة مِن أعظم مقاصد الشرع، وقد سدَّ الذريعة إلى ما يُناقِضه
بكل طريق حتى في تسوية الصفِّ في الصلاة؛ لئلا تَختلف القلوب، وشواهد ذلك أكثر من أن
تُذكَر)... فهو يرى في هذا السلوك بداية وليست نهاية، وتدريبا للنفس على كل معاني تسوية
الصف، صف الصلاة وصف الأمة على السواء.
لن تقف دروس تسوية الصفوف عند هذا الحد،
وما ذكرناه أقل بكثير مما تحمله هذه الشعيرة من معان جليلة كبيرة، والمهم أن نسعى إلى
نقل هذا السلوك من محراب الصلاة إلى ميدان الحياة، إذ لا يصح أن تنقسم الأمة الواحدة،
في الوقت الذي باتت تتوحد فيه الأمم المتناحرة.مة الواحدة، في الوقت الذي باتت
تتوحد فيه الأمم المتناحرة.