حكم إيقاف الحدود في حالات خاصة

                                  
د.عبد الكريم العاني
اكاديمي وباحث


من المقرر في الشريعة أن إقامة الحدود منوطة بالإمام أو من ينيبه، ومع "أنَّ الحدود منضبطة في نفسها، لا تفتقر إلى تحرير مقاديرها، غير أنَّها لو فُوِّضت لجميع الناس، فبادر العامة لجلد الزناة، وقطع العُداة بالسرقة وغيرها، اشتدَّت الحَمِيَّات، وثارت الأَنَفَات، وغَضِبَ ذوو المُروءات، فانتشرت الفِتَنُ، وعَظُمت الإحَنُ؛ فحسم الشرعُ هذه المادَّة وفَوَّض هذه الأُمورَ لولاةِ الأمور، فأذعن الناس لهم، وأجابوا طوعاً وكرهاً، واندفعت تلك المفاسدُ العظيمة "([1]).
       ومن المعلوم أيضاً أن الحدود لا تقام عند الغزو، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُقْطَعُ الأَيْدِي فِي الْغَزْوِ"([2])، وهي عبارة نص واضحة المعنى في النهي، ودلالة نص في باقي الحدود، فيقاس عليها بقية الحدود، "وعلى هذا ذهب أكثر أهل العلم على أن عدم إقامة الحدود في الغزو وفي الثغور مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو فإذا خرج الإمام من أرض الحرب ورجع إلى دار الإسلام أقام الحد على من أصابه"([3]).
وفي الحديث أيضاً إشارة نص في أن تأخيره صلى الله عليه وسلم الحد لمصلحة راجحة وخشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضباً، وقد أجمعت الصحابة رضي الله عنهم على هذا الحكم، وهو قول الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام رحمهم الله تعالى رحمة واسعة، أن الحدود لا تقام في أرض العدو وأن تُؤَخَر لمصلحة راجحة يراها الأمير أو الحاكم أو القائد([4]).
       ومن المعلوم أيضاً "منع بيع السلاح في أيام الفتن، لأن في السماح ببيعه إعانة على الفتنة، وسد ذريعة الإعانة على المعصية"([5]).
       ومن المعلوم أيضاً عدم إقامة الحد في الفتن في بعض الظروف، كما ثبت ذلك في حادثة الإفك، حيث لم يجلد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي سلول حينما قذف أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها)، بينما جُلِدَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ (رضي الله عنه) وحَمْنَةُ ابْنَةُ جَحْشٍ(رضي الله عنها) ومِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَة (رضي الله عنه)، حينما شاركوا في إشاعة هذا الإفك وقذف أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) التي برأها الله سبحانه وتعالى من سابع سماء بقرآنٍ يقرأ إلى قيام الساعة، فيقاس على هذا الفعل عدم إقامة الحدود في الفتنة على من يخاف لو أقيم عليه الحد ثارت الفتن والمحن، كرئيس عشيرة أو قبيلة كبيرة، وهذا لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"([6])، لأن مفهوم الحديث هنا أنه إخبار عن الحاكم الظالم قبل الإسلام، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو إمام عادل، فكان دليلاً على عدم تعارض الحديثين.
       كذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة حاطب بن أبي بلتعة (رضي الله عنه) قبل فتح مكة، فقد قام بإرسال رسالة إلى قريش تعلمهم بقدوم محمد صلى الله عليه وسلم بجيشه لمقاتلتهم، فلما أُخبِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك من قبل جبريل عليه السلام، فلم ينزع صلى الله عليه وسلم صفة الإسلام عن حاطب (رضي الله عنه) ولم يقم عليه الحد علماً إن ذلك يعد من الخيانة العظمى، وعدم إقامة الحد عليه جاء لسابقة الإسلام وقِدم الصحبة، بل لقد نزل فيه قرآناً يخاطبه بصفة المؤمن مع جماعة المؤمنين، قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ[ ([7])([8])، "وسبب ذلك أن ما قدمه من العون للمشركين لا يحمل دلالة قاطعة على كفره، إذ ربما كان الحامل له على ذلك شيئاً آخر، كما أتضح ذلك فعلاً لما اعتذر حاطب بن أبي بلتعة (رضي الله عنه) لرسول الله صلى الله عليه وسلم  بعد أن سأله صلى الله عليه وسلم: "يَا حَاطِبُ مَا هَذَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ يَقُولُ كُنْتُ حَلِيفًا، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ فَقَالَ عُمَرُ (رضي الله عنه) يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ[([9]) إِلَى قَوْلِهِ ]فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ[([10])"([11]).
       كذلك فعل الفاروق (رضي الله عنه) بالنظر إلى علة النص لا إلى ظاهره فأوقف إقامة حد السرقة في عام الرمادة، ويقاس على ذلك بقية الحدود.
       واستقراءً لكتب السيرة أن الحدود شرعت بعد أن حسمت مادة الجريمة في العهد المدني بأن مُنِع سببها فلم تقم الحدود في العهد المكي ولا في بداية العهد المدني.
       وكما ذكرنا سابقاً في قوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُقْطَعُ الأَيْدِي فِي الْغَزْوِ"([12])، بأنها دلالة نص في باقي الحدود، ومنها الحدود التي مؤداها الموت، كالرجم في الزاني المحصن، والقتل المتعمد، والمرتد عن دينه المفارق للجماعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ" ([13]).
ومما لاشك فيه أنه ليس هناك تلازم بين الحكم على شخص ما بالكفر والأمر بقتله أو قتله، وذلك أن تنفيذ القتل حداً كما هو في المرتد لا يجوز إلا للحاكم المسلم القائم الظاهر أو من ينوب عنه، وليس قتل المرتد هو من واجبات أو حقوق الأفراد، وإلا لقتل كل أحد من يريد قتله وزعم أنه مرتد، وذلك لأن ترك الرعية تقوم بتنفيذ العقوبات الشرعية ‏(‏الحدود‏)‏ يؤدي إلى الفوضى والفساد والاضطراب‏.
خلاصة ذلك لا يجوز إقامة الحدود إلا من قبل الإمام، فلا تقام في وقت الفتن في بعض الظروف نظرا للنص الشرعي الدال بعبارته وإشارته ونظرا للمصلحة، فليس من الحكمة إقامة الحد على رئيس عشيرة أو من له جاه أو له تأثير في المجتمع في وقت الفتن، ولا تقام في الغزو ولا في أرض العدو، ويقاس على ذلك في مقام الدفاع (جهاد الدفع) من باب أولى إذا كانت الأرض محتلة، أو مسيطر عليها من قبل غير المسلمين.




([1]) القرافي: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام،ص153 .
([2]) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الحدود عن رسول الله x، باب ما جاء أن لا تقطع الأيدي في الغزو، برقم (1450)، 4/53، وقال عنه حديث غريب.
([3]) ينظر المرجع السابق.
([4]) ينظر:: ابن القيم: إعلام الموقعين، 3/6.
([5]) ينظر :: المرجع السابق، 1/42.
([6]) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها)، كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، برقم (6406)، 6/2491؛ والإمام مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود، برقم (1688)، 3/1315.
([7])سورة الممتحنة، آية 1.
([8]) لباب النقول، ص 193؛ أسباب النزول، ص283
([9])سورة الممتحنة، جزء من آية 1.
([10])سورة الممتحنة، جزء من آية 1.
([11]) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن سيدنا علي t، كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدراً، برقم (3762)، 4/1436؛ والإمام مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب بن أبي بلتعة t، برقم (2494)، 4/1941.
([12]) نقدم تخريجه.
([13]) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود t، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم، برقم (1676)، 3/1302.

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا

هذا أحدث موضوع