كلاب النار (الجزء الأول)


علمنة الأحزاب الإسلامية


خمسة احلام تخلى عنها النازحون في العراق


وقفة بعد أحداث الفلوجة.. المواجهة الشرعية للبغي وإرهابه



هل هي أزمة توجيه؟!


حين تبكي النخبة


ترويج العمل الإغاثي.. بين المصالح والمفاسد


موقف الشريعة إذا اجتمعت المفاسد في السياسة الشرعية.



(ليس كل ما يعلم يقال) قاعدة فقهها عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وجهلناها اليوم


أسباب هلاك الجماعة



حازم الفلاحي
ونحن نعيش أحداث هذا الزمن المليءبالفتن، يتسائل بعضنا: كيف الخلاص؟ وقبل الخلاص: اين الخلل؟ وماهي الأسباب؟
هل نحتاج الى صفحات ومجلدات لاجل بيانها؟ ام هي واضحة ولكنها خفيت على بعضنا واخفاها بعضنا الاخر؟
الجواب متروك لكم.. لكنني اجيب عن الأسباب وألخصها بكلمتين هي:
  1. 1.    الاستنساخ الفكري.
  2. 2.   واحترام الذات.

لو نظرنا بإمعان الى جل مشاكلنا في مجتمعنا المسلم: لماذا لم نتفق منذ فترة طويلة؟ ولماذا لم نر ان هناك من يمكن ان يحررنا من فرقتنا ومن تشرذمنا وضعفنا؟
لقال أحدنا: نحتاج الى نبي أو قوي ذي شوكة حتى تحل مشاكلنا !
لماذا؟ هل اختفى النبي صلى الله عليه وسلم من بيننا ورفع ذكره والكتاب الذي جاء به من قلوبنا ؟
السبب ايها الفضلاء؛ لأننا نعيش جل مشاكلنا بسبب الاستنساخ الفكري لموروثاتنا بغض النظر عما اذا كانت هذه الموروثات تناسب العصر ام لا، لذك أصبحت تلك الموروثات جامدة ومُجمِّدة للعقول جعلت عقولنا وسط دوامة الخطوط الحمراء المتناقصة المساحة والمتناقضة التوجهات بالرغم من أنها باتجاه سلبي لحد الخنق!!!
والموروثات قسمان: الأول: هو المورث القديم من العلوم الذي لم يستطع حامله أن ينصبه على الواقع دون المساس بمقاصده الشرعية.
والثاني: هو الموروثات المتأتية من هجرة الاشخاص من مكان الى مكان كأن تكون مسجد الى مسجد أو من مدينة الى مدينة أو من قطر الى قطر.
هنا تبرز القابلية العقلية للفرد في خدمة نفسه فهجرة الموروث تؤدي الى فراغ لربما يملأ بما لا يليق بأدبياته التربوية والدينية !
أو التقوقع على موروثاته الأدبية والفكرية والتربوية فيصبح غريباً في مكانه الجديد شاذا عن الجماعة التي وصل إليها.
وحقيقة كل ذلك هو ما يعانيه أهل السنة والجماعة في العراق على وجه الخصوص والناس عامة .
فالفطنة هنا والذكاء والتفاعل الايجابي المتوازن هو المطلوب للمحافظة على اتزان الفكرة ومقبولية الشخصية وطرح الذات القديم على المستجدات.
فاننا نعاني من تزمت البعض بالقديم مدعيا انها أصول .. ومن ثم عدم ترجمتها الى الواقع المعاصر واستعمالها بالطريقة المثلى التي تعامل بها الرعيل الأول من الصحابة والتابعين وكيف انهم استطاعوا ان يسخروا موجوداتهم الفكرية لخدمة المتطلبات الجديدة.
فحسان وابن رواحة بقيا شاعرين لكن تغير اسلوبهما في الأداء بما يناسب المرحلة، وبقي ذكاء خالد ودهاء عمر وحكمة معاذ وبذل عثمان واخلاص الصديق وعفة الحرائر الصحابيات (رضي الله عنهم جميعا) لكن تغير الاداء في ذلك شكلا وصورة باختلاف مساقات العيش وأنماط الحياة الجديدة، لكنه بقي خاضعا للولاء والبراء خاضعا لمتطلبات الرسالة ونشرها خاضعا للأوامر الإلهية.
((خياركم في الجاهلية خياركم في الاسلام اذا فقهوا )) ماذا فقهوا؟
هل المطلوب ان يكونوا فقهاء عبادات ام فقهاء عقائد ام ماذا ؟!
المقصود فقه الواقع الجديد ومتطلبات المرحلة، وإلا كيف لعمر رضي الله عنه أن يمنع ما ظاهره من القطعيات، لماذا؟ لأنه فقه روح الشرع، وفهم الواقع، وتحرك تحرك المجتهد الحكيم، فحل مشاكل زمانه ضمن ضابط دقيق وفهم عميق.
متى ما صار لأبناءنا مُطاوعة فكرية ومتابعة واعية لفقهاء الواقع المعاصر ورضوا بحكم الله على انه حكم الله.. وبحكم البشر على انه من باب ((أجتهد ولا آلُو))= أصبحنا موفقين في خطواتنا.. يبارك لنا الله تعالى في عملنا ويسهل علينا وحدتنا ويقوي شوكتنا، وصرنا في النهاية مهابي الجانب .....
نعم.. لا وصول بلا أصول.. ولا أصول بلا استعمال منضبط للعقول..
وكل قديم غير مناسب للواقع يظهر عند انزاله عور وقصور.. ولات حين مندم..



القوة الناعمة بين الشدة والرخاوة.. المنبر نموذجاً


عمار وجيه

 (جوزيف ناي) الباحث الاستراتيجي الأمريكي من جامعة هارڤارد هو اول من استخدم مصطلح القوة الناعمة عام ١٩٩٠ في كتابه (وثبة نحو القيادة Bound to lead)  ويعرفها بأنها: القدرة في الحصول على ما نريد من خلال الجذب بدلاً من القسر أو الدفع. في حين أن القوة الصلبة تمثل القوة المشتركة: السياسية والاقتصادية والعسكرية، أي القوة في صورتها الخشنة التي تنتهي بالحرب وتستخدم فيها الجيوش.
الكاتب يصف القوة الصلبة بأنها العصا والجزرة. فالجزرة فيها تكون حين يتم التخفيف عن العدو المستهدف بتسهيلات تجارية مثلاً، أملاً في الترويض والإقناع بالتنازل. أما العصا فتاتي ضمن مراحل وأنماط الحرب الخمسة: دبلوماسية الإكراه، التخريب، الردع، الدفاع، التدخل العسكري المباشر.
 القوة الناعمة في الغرب تنبثق من المصالح لا المباديء، بل في كثير من الأحيان تديرها أطراف من الدولة العميقة وتكون الشخوص التي تحرك العلاقات والإعلام فيها غير ظاهرة.
أما في بلداننا الإسلامية التي تجمع بين المباديء والمصالح، فإننا نمتلك موروثاً قيمياً قادراً على تحريك كل ما يؤثر في الرأي العام بطريقة وفلسفة القوة الناعمة. ومن الوسائل ذات التأثير الهائل، منبر الجمعة. فديننا الحنيف منحنا فرصة عظيمة حين جعل  صلاة الجمعة وخطبتها فريضة أسبوعية مما يلزم المواطنين الملتزمين بالحضور طوعاً ورغبةً وامتثالاً، كما إن القرآن خصص سورة كاملة  باسم (الجمعة).
  في خطبة الجمعة فرصة كبيرة لنشر الوعي والتعبير عن ثقافات وأعراف الشعوب والدفاع عن حقوقهم وإيصال صوتهم إلى أولي الأمر. فكيف إذا كان في كل عاصمة ومدينة كبيرة إسلامية ما يربو على ألف مسجد إن لم يكن عدداً أكبر؟
 قد تبدو المقاربة غير موفقة لدى القارئ الكريم، لكني تعمدت أن أربط بين منبر الجمعة ومفهوم القوة الناعمة لأؤكد أن المنبر سلاح سلمي فعال يفوق كل سلاح وجهد تنفق عليه الدولة المليارات دون أن يقدم عشر ما يقدمه المسجد من تأثير شعبي ورسمي.
المؤسف أن المنبر غير مخدوم كما ينبغي ومنذ زمن بعيد، لا من قبل المؤسسة الرسمية ولا المجامع العلمية. في حين أنه وبقليل من التأمل يمكن أن نثبت بأنه خادم للأمة كلها، سواء من التزم بالشرع أو من لم يلتزم. بل حتى العلمانيون الذين طالما سخروا من الدين واللباس الشرعي، قد يكونون أول المستفيدين من المساجد لما فيها من تأثير إيجابي نفسي واجتماعي، يسهم في اعتدال المزاج وتقليل معدلات الجريمة والحوادث وتقليل الحاجة إلى الرقابة البشرية المكلفة للدولة بتحفيز الرقابة الإلهية التي يرتفع مؤشرها لدى المصلين دون جدال.
العلماني يصعب عليه أن يفهم أن المساجد ومنابرها أشبه بحقول القمح التي يريد المواطن أن يتنزه قربها فلا يجد مساحة تكفي للمرح فيشعر بالانزعاج من القمح، لكنه ينسى أن تلك الحقول مصدر خبزه وقوت يومه.
لذا فإن شرائح متعددة في المجتمع أسهمت بشكل أو آخر في معاداة المساجد معنوياً ومادياً. وتولد ذلك العداء من انعكاسات لمؤثرات نفسية أو أجندات سياسية أو قناعات طائفية مخطوءة. وكل ما جرى ويجري من عداء رباعي يستهدف المنهاج، والخطيب، والمواطن المتلقي، والبنيان الذي هو المسجد، كان دائماً يتحول فيما بعد إلى حسرة وندامة على الأمة.
ولعل أوضح دليل في أواخر الدولة العباسية، كان اقتران ذلك العداء الذي حول المساجد أحياناً إلى مرابط للخيل أو مرابض للغنم، بالتمدد الصليبي الذي صاحب وما يزال يصاحب أزمان الفتن والاضطرابات الفكرية. وكان وما يزال تبرير تلك السلطات والمجاميع الغاشمة أن المسجد أصبح مكاناً للخارجين عن القانون. وبدلاً من تصحيح المعادلة يقومون بترويع المصلين وقتل الدعاة والخطباء وهدم المساجد أو حرقها. وبالرغم أننا لا ننكر وجود استغلال سيء للمتشددين لبعض المساجد، إلا إن ذلك لا يعالج بهمجية مقابلة. فالبناء يعاد والداعية يولد والمواطن الخائف لا يلبث أن يأمن، لكن الخسارة تكمن في توقف عجلة البناء الفكري والروحي لدى شباب الأمة.
أول تغيير مطلوب الآن هو تشكل قناعة لدى قادة الأمة ومفكريها أن المنبر فرصة وليس تهديداً. فهو تواصل مجتمعي أسبوعي إلزامي، وطمأنينة نفسية، ووسيلة راقية لإعادة الأمة إلى وسطيتها. فآية سورة الجمعة التي تنادي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، فإنها تؤكد دون شك أن الهدف ذكر الله وليس التخندق المفضي إلى تقسيم الأمة، وإذا لم يكن ذكر الخالق سبحانه جامعاً لكل المذاهب والمشارب فما الذي يجمعهم؟ كما إن التحرك نحو ذلك الاجتماع الأسبوعي الإلزامي الراتب بصيغة السعي وليس المشي يعبر عن الأهمية، فضلاً عن الأثر النفسي الكبير في إيقاف البيع والشراء في أهم يوم للمواطن وهو يوم عطلته، ما يؤكد أهمية التوكل ومنح النفس حقها من الخلوة والتأمل والإصغاء لحديث الموجه والمرشد. تخيلوا كم هو مهم أن ينتقل المواطن من بيئة السوق الاستهلاكية التقليدية، إلى بيئة الروح والفكر التي في كثير من الأحيان تناقش أكثر القضايا ذات التماس مع يومياته. بمعنى أنه ينتقل من وضع حرق المال إلى وضع التفكير في تنمية النفس والمال والوقت والحياة التي يتطرق لها الخطيب كثيراً.
 المسؤولية الأساس تقع على العلماء والدعاة وحملة الفكر الإسلامي في إعداد قادة الرآي العام وهم الخطباء والمربون في المساجد. فالمنبر بحاجة من يشتاق إليه مرشداً كان أو متلقياً، والخطيب ينبغي أن لا يملّ ولا يكل، وأن يكون له رغبة في التجديد والتنويع من شأنها أن تبقي الجمهور مشدوداً وواثقاً بما يقدم اسبوعياً. وفاقد الشيء لن يعطيه. ولا ننكر وجود محاولات عديدة لرفع مستوى الخطباء حتى أن بعض الجمعيات الدعوية أصدرت مجلة للخطيب لرفع المستوى، لكنها توقفت شأنها شأن كثير من المشاريع بعد الشدة التي أصابت الأمة.
وبصراحة متى ما تتمازج الخبرات الفقهية الوفيرة لدى علمائنا مع المهارات الدعوية التي تكتسب من نصوص الوحي وتجارب الدعاة الرواد، إضافة إلى الخبرات الإنسانية التي تفوق علينا بها الغرب والشرق الأقصى، حينئذ يمكن أن نخطو الخطوة الواعدة نوعاً وكماً، ونضمن بعدها عدم إخفاق المنبر.
نحن نحتجّ بأن الحكومات المستبدة كانت سبباً في إضعاف المنبر وتجييره لصالح أجنداتها، وهذا لا ينكر، لكن صدقوا لو حدث انفراج وعودة للحريات، فلا تتوقعوا  انطلاقة هائلة في الخطاب المنبري، بل ربما نعود إلى مربع الخلافات بين التوجهات الفكرية داخل المكون الإسلامي ذاته. لذا يصبح لزاماً على رعاة الدعوة إلى الله أن يتكفلوا برعاية مشروع عملاق لإعداد قادة الرأي العام الحقيقيين.
استغرب أحياناً من خطيب يتباطأ عن متابعة أحدث نظريات التعليم في العالم، ربما بذريعة ان فيها أفكاراً غير إسلامية، في حين أنها علوم تجريبية تستند إلى علم النفس والاجتماع، وبإمكاننا بيسر وسهولة فرز الشوائب التي فيها مما يخالف ثوابت ديننا.
كل المثقفين تعلموا من خلال علوم الاتصال المختلفة أفكاراً مؤثرة في المجتمع بإمكان الخطيب أن يبدع ويبرع فيها كي يزيل حالة الملل والإحباط لدى المصلين ويغري عدداً أكبر من الشباب والناشئة، بل وحتى الفتيات بالحضور والتواصل.
وأخيراً ولمصلحة الأمة الإسلامية التي غالباً ما تفرط بمصلحتها، ينبغي حماية المساجد والمنابر من قبل مؤسسة الدولة لا الحكومات التي تتبدل وتتغير، ما يجعل كليات الدعاة والخطباء وهيئة الوقف غير خاضعة للتسييس مطلقاً. الأحرى بالمنبر أن لا ينقاد للأحزاب، فقد يكون اليوم الحزب الفلاني إسلامياً لكن الحال سيتغير يوماً ما وقد تكون المنابر حينها وبالاً على الإسلام. 
ولا بأس من الاستفادة من التجارب الناجحة حتى لو كان مصدرها مسيحياً، فنموذج مدارس كلية بغداد التبشيرية كان نموذجاً فذاً وفيه مستوى معرفي مرموق وانضباط إداري وقيمي عالٍ. والمسلمون أولى بذلك الضبط والربط.

الأمة التي تحمل ذرة عقل ووعي لا تفرط بمنبرها، لأن التفريط بتلك القوة الناعمة سيكون  هدية مجانية للأعداء والخصوم. 

احترام الرأي المخالف عند الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ

أ‌.       د صلاح الدين محمد النعيمي
باحث في السياسة الشرعية

   لاشك أن الاختلاف جزء من طبيعة الإنسان بل يمكننا القول أن الاختلاف هو آية من آيات الله تبارك وتعالى، فنرى أن الناس مختلفون في ألسنتهم وألوانهم  وأخلاقهم وفهمهم  ومداركهم العقلية، دل على ذلك قوله تعالى:
 ] ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين[[1]
جاء في تفسيرها: (واختلاف ألسنتكم وألوانكم: اللسان الفم، وفيه اختلاف اللغات : من العربية إلى العجمية والتركية والرومية واختلف الألوان في الصور : من البياض والسواد والحمرة فلا تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر وليس هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين فلا بد من فاعل فعلم أن الفاعل هو الله تعالى فهذا من أدل دليل على المدبر البارئ)[2]
قلت: فإذا كان الاختلاف فطرة الحق- جل في علاه- التي فطر الخلق عليها، فلا عجب أن يختلفوا في آرائهم وتفكيرهم ونظرتهم للإحكام الشرعية وكذا القوانين الوضعية وفهمهم لنصوصهما فكل يفهم ويفسر ويستنبط من تلك النصوص ما يراه مناسبا حسب ما لديه من الأدلة لذا نجد أنهم يختمون كلامهم بــ : (والله اعلم)
  وهذا دليل على أن الاختلاف موجود ومجال الاجتهاد لمن يأتي بعده ليضيف أو يحذف من رأيه موجود أيضا.
   وهذا ما ذكره الأئمة الأعلام فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، قولهم :
( إذا سئلنا عن مذهبنا ومذهب مخالفينا في الفروع يجب علينا أن نجيب: بأن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفينا خطأ يحتمل الصواب لأنك لو قطعت القول لم يصح قولنا : إن المجتهد يخطئ ويصيب)[3]
يؤيد ذلك قولهr:
 (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)[4] 
قال شراح الحديث:
)  ( إذا حكم الحاكم ) أي أراد الحكم ( فأصاب ) أي وقع اجتهاده موافقا لحكم الله
 فله أجران ) أي أجر الاجتهاد وأجر الإصابة والجملة جزاء الشرط ( فله أجر ) أي واحد...إنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط وهذا فيمن كان جامعا لآلة الاجتهاد عارفا بالأصول عالما بوجوه القياس فأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف ولا يعذر بالخطأ بل يخاف عليه الوزر)[5].
   من هنا يمكننا الجزم بأن الاجتهاد في حكم المسألة من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور المذاهب الفقهية العديدة، وفي هذا تيسير على الأمة ورفع الحرج، وهي الوسطية بعينها ، فالتوسط منبع الكمالات والتيسير ودفع المشقة عن الناس.
 والمتتبع المنصف لهذه المذاهب يجد أن الاختلاف أصل واضح في ارثنا الفقهي، فما من مسألة إلا وتجد فيها أكثر من رأي لذا وجب علينا أن يسعنا ما وسع الجيل الأول من آل بيت رسول الله r وصحابته الأعلام ــ رضي الله عنهم أجمعين ـــ فقد اختلفوا في كثير من المسائل ولم يؤد ذلك الشقاق بينهم.
 نماذج من احترام الرأي المخالف للصحابة ــ رضي الله عنهم ــ
  الصحابة الكرام ــ رضي الله عنهم ــ هم الذين آمنوا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، وعاصروا الوحي، وماتوا على الاسلام،  ومع ذلك اختلفوا في فهمهم لبعض المسائل، لكن اختلافهم هذا لم يفسد للود قضية، ولم يؤثر على علاقتهم، بل على العكس احترموا آراء مخالفيهم، كما سنرى ذلك واضحا جلياً في النماذج الآتية:

النموذج الاول
 حديث أبي سعيد الخدري ــ رضي الله عنه ـ إذ يقول:
« كنا نغزو مع رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام، فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا، فأفطر فإن ذلك حسن)[6]
وجه الدلالة من الحديث:
فقول الصحابي أبي سعيد: ( فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم) أي لا يعيب أحدهم على الآخر  سواءً  صام معه أم لم يصم، وفي هذا دليل واضح على أن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ كان يحترم أحدهم رأي المخالف، وفي ذلك احترام الرأي الآخر، مع أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ بين أظهرهم،
فكان منهجهم كما عبر عنه سيدنا علي[7] ــ رضي الله عنه ــ ترجيح ( النمط الأوسط ) الذي يلحق به التالي، ويرجع إليه الغالي.
قال ابن القيم[8]: (فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وخير الناس النمط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً، وهى الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط. والآفات إنما ينتظرون إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها)
النموذج الثاني
 اختلافهم في أيهما أفضل إتمام الصلاة أم القصر في منى.
  وأصل المسألة أن  أمير المؤمنين عثمان ـــ رضي الله عنه ــ صلى بمنى أربعا فقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- صليت مع النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ بمنى ركعتين ومع أبي بكر-رضي الله عنه- ركعتين ومع عمر ــ رضي الله عنه ــ ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق ووددت أن لي من أربع ركعتين متقبلتين، فقد عاب ابن مسعود عثمان ــ رضي الله عنهما ــ بالإتمام بمنى ثم أقيمت الصلاة فصلى خلفه أربعا فقيل له في ذلك، فقال: الخلاف شر[9].
وجه الدلالة
   إن ابن مسعود مع أنه مقتنع برأيه لكونه صلى قصرا وراء رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر ــ رضي الله عنهما ــ  لكنه علل ذلك بقوله الخلاف شر وهذا قمة الفهم الوسطي الجديد، ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى مثل هذا الفهم.
النموذج الثالث:
اختلافهم في قول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ لما رجع من الأحزاب[10]
( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)[11]
فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا ذلك فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم.
وجه الدلالة
  إن بعضهم قال ( لم يرد منا ذلك ) ما أراد بقوله ظاهره وعدم الصلاة في الطريق وإنما أراد الحث على الإسراع، فعذر كل واحد منهم فهمه لهذه العلة.
قلت: واختلاف الصحابة إنما كان في فهمهم لقول رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ـــ ومع هذا فقد أقرهم الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ــ ولم يعب أحدهم على الآخر، وفي هذا احترام للرأي الفقهي المخالف، وهذا ما نصبوا إليه في كل زمان ومكان، فالاختلاف واقع، لكنه يجب أن يكون في الآراء فقط لا الاختلاف في القلوب.
وأخيرا أقول كيف نتعامل مع مسائل الخلاف اليوم:
   أختم مقالي بهذه القاعدة الجليلة التي تبين لنا بوضوح طريقة التعامل مع المسائل الخلافية المستجدة اليوم، فأقول:
   إن هناك اتجاهين في التعامل مع المسائل الفقهية:
الاتجاه الأول: الاتجاه المذهبي الجامد الذي يرى أن الحق معه ومع مذهبه ولو جئته
              بألف دليل يخالف رأيه، فهذا اتجاه مرفوض جملة وتفصيلا لأنه أعطى
    القدسية لرأيه، وألغى آراء المذاهب الفقهية المعتبرة، وفي هذا مبالغة مذمومة.
الاتجاه الثاني: الاتجاه االلامذهبي الذي يرى صاحبه انه مجتهد ويسير مع الدليل وقوله حق وصواب لا غيا أراء المذاهب بأجمعها، وهذا ليس مقبولا، أيضاً.
قلت: والراجح هو الاتجاه الوسط الذي يجمع بين الاتجاهين فيعرض آراء الجميع
    بأدلتهم ومناقشاتهم وردودهم ولا يبخس الناس أشياءهم، لأن المذاهب مدارس
   فقهية حاولت فهم النصوص من أجل التيسير على المكلفين، لذا وجب على
  الجميع احترامها وعدم تقديسها، وإذا بان لهم الحق وثبت عندهم الدليل أخذوا به، وإن كان قائله من غير مذهبهم، فالحق أحق أن يتبع.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا





[1] - سورة الروم، الآية: 22.
[2] - انظر: الجامع لأحكام القران للقرطبي :14/18.
[3] - الأشباه والنظائر، لابن نجيم، تح: عبد الكريم الفضلي (ط/ المكتبة العصرية،  بيروت،2003م): 418،
      ونسب القول للإمام أبي حامد الغزالي.
[4] - أخرجه البخاري في صحيحه، محمد بن إسماعيل البخاري (ط3/ دار ابن كثير ، اليمامة - بيروت،
     1407هـ - 1987م تح: د. مصطفى ديب البغا: باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ:6/2676
      برقم(6919)
[5] - عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب(ط2// دار الكتب العلمية،
    بيروت  1415هـ):9/ 354
[6])) أخرجه مسلم،  باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، صحيح مسلم
     ، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (ت: 261هـ)، تح: محمد فؤاد عبد الباقي (ط/ دار
      إحياء التراث العربي ـــ بيروت ): 2/787 برقم (1116)
[7]))  أدب الدنيا والدين، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي
     (ت: 450هـ) (ط/ دار مكتبة الحياة، 1986م):24
[8]))  إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، محمد بن أبي بكر بن أيوب، ابن قيم الجوزية (ت: 751هـ)،تح: محمد
     حامد الفقي (ط/ مكتبة المعارف، الرياض، د. ت): 1/182

[9] - الاستذكار، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، تحقيق : سالم محمد عطا، محمد علي معوض (ط1/
    دار الكتب العلمية - بيروت، 1421 – 2000):2/ 228.
[10] ــــ الأحزاب: غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة سميت بذلك لتحزيب القبائل العربية وتجمعها ضد المسلمين
    ونزلت  فيها سورة سميت بهذا الاسم .  
[11] ـــ أخرجه البخاري، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء :1/ 321 برقم (904).

استدعاء النص ... ام الانطلاق منه ؟!




عبدالمالك سالم خضر السعدي
مدرب وكاتب

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) الزخرف 84