وقفة بعد أحداث الفلوجة.. المواجهة الشرعية للبغي وإرهابه




الدكتور عبد الستار عبد الجبار
خطيب جامع الإمام الأعظم
رئيس قسم الفقه وأصوله في كلية الإمام الأعظم
 
موضوع البغي وقتال البغاة من الموضوعات التي تحتاج من أهل العلم إلى تجلية وبيان، وذلك لخطورتها في حياتنا اليوم ولأنها من أسباب الانقسام والتشرذم عبر التأريخ فإرهابيو اليوم الذين ذبحوا وقتلوا وحرقوا هم الذين خرجوا من ضئضئ بغاة الأمس، وربما استطعنا من خلال معالجات الأمس أن نتلمس طريق المعالجة اليوم.
فأهل البغي مفسدون ومن واجبات الحاكم المسلم تأمين الجبهة الداخلية بالقضاء على أهل البغي والفساد الذين يقطعون الطرق ويعبثون في الأرواح والأموال بغير وجه حق. فما معنى البغي؟ ومن هم أهل البغي؟ وكيف نتعامل معهم اليوم؟
إن معنى البغي التعدي في الطلب، وقد عدَّ الله البغي من ضمن المحرمات الكبيرة فقال }قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{ الأعراف33 وهو هنا بمعنى ظلم الناس والاعتداء عليهم وهذا لا يكون إلا بغير حق.
وأهل البغي عند علمائنا القدامى الذين يتجاوزون على الإمام في طلب ما ليس لهم، فهم (الخارجون على إمام الحق بغير حق)([1]) وعادة يخرج هؤلاء بتأويل مردود للنصوص كتأويل الخوارج الحكم بما أنزل الله، ولشبهة التأويل لا يُكَفَرون بل يوصفون بالبغي، ويطالب أهل العلم بممارسة دورهم في مناصحة هؤلاء ومحاورتهم لتبديد شبهات تأويلهم الفاسد كما حاور عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الخوارج ورد منه الكثير وحيَّد الكثير، وكان ذلك قبل قتالهم لتقليل الشر.
أما أهل البغي اليوم فقد تعدى شرهم إلى تدمير المدن العامرة وتخريب الحضارة وتقتيل الأبرياء من الناس وتشويه صورة الدين في نفوس البسطاء من أبناء الأمة وتشويه صورته أما غير المسلمين فصار المذهب السني راعيَ الإرهاب الأول في نظر البشرية جمعاء، وبدأت الأرض تضيق بأهلنا داخل أرضنا وخارجها، مما يستلزم يحثًا جادًا عن معالجة الأمر وما عاد يقبل السكوت.
أما كيفية التعامل معهم؛ فقد بين علماؤنا القدامى نسكت عنهم إذا اعتزلونا، ونحاورهم بالتي هي أحسن إذا أظهروا تأويلهم الفاسد وإذا قاتلونا نقاتلهم لرد شرهم عن الأمة والدين.
وإذا ينفع إذا كان شرهم كما هو في الماضي يصيب الدولة والإمام؛ ولكن بسبب تطور وسائل الاتصال أصبح شرهم يصيب البشرية جمعاء ويعطي غير المسلمين صورة مشوهة عن الدين، فما عاد ينفع السكوتُ ولا الترك، ولا بد من جهد علمي لمواجهتهم فكريًا ابتداءً.
وفي تراثنا الفقهي: إذا اجتمع المسلمون على إمام، وصاروا آمنين به، فخرج عليه طائفة من المؤمنين، لظلمه لهم فهم ليسوا من أهل البغي، وعليه أن يترك الظلم وينصفهم، ولا ينبغي للناس أن يعينوه؛ لأن فيه إعانة على الظلم.. وإن لم يكن ذلك لظلمه لهم، ولكن ادَّعوا الحق والولاية فقالوا: الحق معنا فهم أهل البغي، فعلى كل من يقوى على القتال أن ينصر إمام المسلمين على هؤلاء الخارجين.
والأصل في جواز قتال البغاة قوله تعالى} وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{ الحجرات9 وقتال علي بن أبي طالب r لهم.
أما الآية فقد قَالَ الجصاص في تفسيرها (اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرَ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَهُوَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ ضُرُوبِ الْقِتَالِ فَإِنْ فَاءَتْ إلَى الْحَقِّ بِالْقِتَالِ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ لَمْ يُتَجَاوَزْ بِهِ إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ تَفِئْ بِذَلِكَ قُوتِلَتْ بِالسَّيْفِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقِتَالِ بِالْعِصِيِّ دُونَ السِّلَاحِ مَعَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْبَغْيِ وَتَرْكِ الرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ وَذَلِكَ أَحَدُ ضُرُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ)([2]).
وهذا يعني أنهم لا يقاتلون على كل حال، بل يُمَيز بين خروج بحق على إمام ظالم وخروج بغير حق على إمام عادل لم يظلم.. ويميز أيضًا بين خروج لقتال الدولة وخروج يشبه ما يسمى اليوم بالتظاهر والاعتصام.
فالخروج الحق على الظالم لا يبيح للأمة أن تقف مع الإمام الظالم ضد المظلومين،  والخروج للتظاهر والاعتصام غير المسلح صورة شرعية للمطالبة بالحقوق لا ينبغي أن يباح استعمال السلاح ضدهم بل غاية ما يباح إن كانت مطالبهم غير مشروعة أن يمنعوا بقوة بيضاء تستعمل معهم العصي وليس السيف أو الرصاص وهو ما يسمى اليوم بمكافحة الشغب والتظاهر غير المشروع.
وقوله تعالى} وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا{ يقتضي أن يسلك الإمامُ وأهلُ الحل والعقد والأمةُ الحوارَ والنصحَ والإرشاد وتبيانَ الحقِّ في الأمر وتبديد الشبهات التي لديهم أولا في محاولةٍ للإصلاح ولا يكون القتال أول خيار.
وهذا ما فعله علي t مع الخوارج ولم نفعله مع خوارج العصر اليوم، فلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْخَوَارِجُ فِي حروراء وَهُمْ سِتَّةُ آلافٍ أَوْ نَحْوُهَا، وأرادوا قتال علي t جاءه ابن عباس وقال له: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَبْرِدْ([3]) بِالصَّلاةِ لَعَلِّي أَلْقَى هَؤُلاءِ، فَلَبِسَ ابْنُ عَبَّاسٍ حُلَّتَيْنِ مِنْ أَحْسَنِ الْحُلَلِ وَكَانَ جَهِيرًا جَمِيلا فَأَتَى الْقَوْمَ، فَلَمَّا رَأَوْه قَالُوا: مَرْحَبًا بِابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَا هَذِهِ الْحُلَّةُ؟ إنكارًا عليه لبسه الثياب الحسنة فأجابهم: وما تنكرون من ذلك؟ لقد رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r حُلَّةً مِنْ أَحْسَنِ الْحُلَلِ، ثُمَّ تَلَى عَلَيْهِمْ }قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ{ الأعراف32.
ويظهر أنه تعمد لبس حلةٍ حسنة ليواجهوه بالإنكار، وإنكارُهم عليه اللباس الجميل لاعتقادِهم أنَّ هذا ينافي التنسكَ والتعبدَ، فردهم إلى ما شاهد من سنة النبي الأكرم r وإلى ظاهر القرآن الكريم فسلموا له، وكان هذا التسليم في قضية بعيد عن الحرج بداية التسليم في القضايا الأخرى الحرجة.
ثم سألوه: مَا جَاءَ بِكَ? فأجابهم: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ r وَلا أَرَى فيكم أحدًا منهم، ولأبلغنكم مَا قَالُوا، وَلأُبَلِّغَنَّهُمْ مَا تَقُولُونَ: فَمَا تَنْقِمُونَ مِنَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ r وَصِهْرِهِ? فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: لا تُكَلِّمُوهُ فَإِنَّ اللَّهُ يَقُولُ: }بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ{ الزخرف58 وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا يَمْنَعُنَا مِنْ كَلامِهِ، ابْنِ عمّ رَسُول اللَّهِ r وَيَدْعُونَا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ.
فقد صوَّر لهم أنه مبعوث أمير المؤمنين والصحابة y للتداول في قضايا الخلاف بين الفريقين وتبادل وجهات النظر، واختار صفتي أمرة المؤمنين وصحبة النبي r ليلقي في نفوسهم المهابة من موقف الرفض والمعارضة.
وتخوف بعضهم بحجة أنه من قريش وقرش قوم يجيدون الخصومة فأرادوا أن لا يحاوروه هروب من الحوار خوفًا من نتائجه، وردُ فريقٍ منهم عليهم بأنها دعوة إلى المحاججة بكتاب الله ولا يوجد ما يمنع منها؛ جعله في وضع الاستفادة، والاستفادة من هذه الصفة حسنٌ في الحوار.
فأخبروه: نَنْقِمُ عَلَيْهِ ثَلاثَ خِلالٍ:
إِحْدَاهُنَّ: أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ وَمَا لِلرِّجَالِ وَلِحُكْمِ اللَّهِ، واستدلوا عليه بقوله تعالى }إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ{ الأنعام57.
الثانية: أنه قاتلَ فَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَإِن كَانَ قَدْ حَلَّ قِتَالُهُمْ فَقَدْ حَلَّ سَبْيُهُمْ وَإِلا فَلا.. ويريدون بذلك معركة الجمل بين علي t من جهة؛ وطلحة والزبير وعائشة y من جهة أخرى.
الثَّالِثَةُ: مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ أَمِيرُ الْمُشْرِكِينَ.. وذلك حينما اتفق الحكمان على خلع علي ومعاوية.
فسألهم: أَرَأَيْتُمْ إِنْ خَرَجْتُ لَكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَرَاجِعُونَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: وَمَا يَمْنَعُنَا.
$ فردَّ على شبهتهم الأولى وهي قولهم إِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، فقال: فَإِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ }يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ{ المائدة95 وَذَلِكَ فِي ثَمَنِ صَيْدِ أَرْنَبٍ([4]) أَوْ نَحْوِهِ قِيمَتُهُ رُبْعُ دِرْهَمٍ فَوَّضَ اللَّهُ الْحُكْمَ فِيهِ إِلَى الرِّجَالِ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُحَكِّمَ لحكَّم، وَقَالَ }فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها{ المائدة35.. أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
ثم قال: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: قَاتَلَ فَلَمْ يَسْبِ، فَإِنَّهُ قَاتَلَ أمكم؛ لأن الله يقول }وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ{ الأحزاب5 فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأُمِّكُمْ فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهَا أُمُّكُمْ فَمَا حَلَّ سِبَاؤُهَا، فَأَنْتُمْ بَيْنَ ضَلالَتَيْنِ.. أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
ثم قال: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّهُ مَحَا اسْمَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي أُنَبِّئُكُمْ عَنْ ذَلِكَ؛ أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r يوم الحديبية جرى الكتاب يبنه وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ اكْتُبْ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ محمدٌ رَسُول اللَّهِ، فَقَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ، فقال: اللهم إنك تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، ثُمَّ أَخَذَ الصَّحِيفَةَ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: "يَا عَلِيُّ اكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ"([5])، فَوَاللَّهِ مَا أَخْرَجَهُ ذَلِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ.. أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
وكانت نتيجة هذا الحوار أن رَجَعَ ثُلُثُهُمْ، وَانْصَرَفَ ثُلُثُهُمْ، وَقُتِلَ سَائِرُهُمْ عَلَى ضَلالةٍ([6]).
ورجوع فئة عظيمة بحجم الثلث منهم نصر كبير لا يستهان به، واعتزال ثلثهم الفريقين كسب للصف المؤمن، وإقامة الحجة من رجل مثل ابن عباس t فيها إبراء ذمة الجماعة المسلمة اتجاه هؤلاء الذين أصروا فقتلوا على الضلالة، وهكذا يكون دور العلماء.
وهنا نتساءل: أين دور علمائنا في محاورتهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة؟ ولما غابت عن الساحة الردود على شبهاتهم سقط الكثير من الشباب المضلل في حبائلهم والتحاق بهم.
والذي يقلب الصفحات أكثر في بحث كيفية التعامل معهم إذا لم يحملوا السلاح يجد أن الإسلام عاملهم كمعارضة سلمية وقبل منهم نقدهم الحكومة واعتراضهم عليها سلميًا وإن كان بالسب، فقد وردَ أنَّ رَجُلًا جَاءَ بِرَجُلٍ مِنَ الْخَوَارِجِ إِلَى عَلِيٍّ t, فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنِّي وَجَدْتُ هَذَا يَسُبُّكَ، قَالَ: فَسُبَّهُ كَمَا سَبَّنِي. قَالَ: وَيَتَوَاعَدُكَ، قَالَ: لَا أَقْتُلُ مَنْ لَمْ يَقْاتُلْنِي. ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ )لَهُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُهُمُ الْمَسَاجِدَ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا، وَلَا نَمْنَعُهُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيهِمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَا نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا(([7]).
وقد قال علي t هذا وهو يعلم حقيقتهم، فهو الراوي عن رَسُولَ اللهِ r أنه قال فيهم )يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ(([8]) أي أنه حمل مقاتلتهم على خروجهم المسلح وليس على مجرد معارضتهم، فلم يقاتلهم مع حداثة أعمارهم وسفاهة عقولهم بل كان القتال مقابلة لقتالهم له.
وورد في رواية أبي سعيد الخدري في الصحيحين أيضًا )يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ( فهم مداومون على قراءته ولكن من غير فهم لمقاصده.
وقَوْله r (يَمْرُقُونَ) من المروق وَهُوَ الْخُرُوج، وقد كَفَّر قومٌ الخوارجَ واحتجوا بهذا الحديث وقالوا إِنَّ المُرَاد بِالدّينِ الْإِسْلَام، وحمله الجمهور على المروق من الطَّاعَة لأن عليًا t لم يكفرهم([9]) وجعل لدمائهم وأموالهم حرمة.
ففي حرمة أموال البغاة نقل الجصاص إجْمَاع الصحابة على أَنَّ (كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ أَوْ مَالٍ اُسْتُهْلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تُغَنَّمُ أَمْوَالُهُمْ الَّتِي لَيْسَتْ مَعَهُمْ مِمَّا تَرَكُوهُ فِي دِيَارِهِمْ)([10]) وفي سبي نسائهم واستعبادهم قال (لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَلَا تُمْلَكُ رِقَابُهُمْ فَكَذَلِكَ لَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ)([11]) وقال أيضا يوم الجمل (لَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ)([12]). فأين دورنا اليوم؟
فبعد مواجهات هؤلاء البغاة العسكرية وطردهم وملاحقتهم بدأت تظهر تصريحات تحذر من الجيل الثالث منهم الذي سيكون أشدَّ شراسة مما سبق، فهل سنرجع إلى المربع الأول كما يقول السياسيون؟
إن مواجهة البغاة ليست عسكرية فحسب، بل إن الاكتفاء بالمواجهة العسكرية ربما يزيد من سوء الفهم والغلو في التأويل المنحرف.
ولا بد مع هذه المواجهة من مواجهة فكرية تضع البغاة على جادة الفهم الصحيح لنصوص الكتاب والسنة كما وجدنا ذلك عند حبر الأمة وترجمان القرآن t.
ولا بدَّ من جهد اجتماعي أيضًأ يقبل منهم اعتذارهم وندمهم ويحفظ لهم حقوقهم كما نهى عليٌ t عن قتل أسيرهم والإجهاز على جريحهم وعدمِ سبي نسائهم وذراريهم.
فهذا الذي يمكن أن يسمى مصالحة، ويكون حلاً شرعيا للإرهاب.




([1]) العيني، بدر الدين محمود بن أحمد (ت855هـ) البناية شرح الهداية، ط2 دار الكتب العلمية بيروت 1420هـ-2000م 7/ 298.
([2]) أحكام القرآن، تحقيق: قمحاوي 5/ 280.
([3]) الإبراد في الصلاة: تأخير صلاة الظهر في الصيف إلى آخر وقتها تلافيًا لشدة الحر، وهنا أراد تأخيرها ليمنحه وقتًا لمحاورتهم.
([4]) أي في صيد المحرم.
([5]) رواه البخاري ، كتاب الشروط، باب: الشروط في الجهاد، برقم 2731.
([6]) الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان (ت748) تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ط المكتبة التوفيقية 3/174-176.
([7]) ابن زنجويه، حميد بن مخلد (ت251هـ) الأموال، تحقيق الدكتور: شاكر ذيب فياض، ط1 مركز الملك فيصل، الرياض 1406هـ-1986م 2/517.
([8]) رواه البخاري، 4/ 244 برقم
3611 رواه مسلم 2/ 746 برقم 1066.
([9]) العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري 16/ 143.
([10]) أحكام القرآن 5/283.
([11]) أحكام القرآن 5/ 283.
([12]) أحكام القرآن 5/ 284.

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا

2 التعليقات

التعليقات
4 يوليو 2016 في 4:26 ص حذف

شيخي الغالي ...
لم أحد في مقالك هذا حلا واقعيا يشفي الغليل إنما الذي رأيته هو سرد تاريخي وربما فيه شيء من الظلم لخواطر الأمس لخوارج اليوم يختلفون كثيرا عن خوارج الأمس وطريقة معالجتمه ربما تختلف أيضا ، واتفق معك أنه لا يوجد أحد من كبار العلماء قام بالرد على شبههم بل لا يوجد موقف واضح من (دولتهم المزعومة )من قبل علماء السنة وأعتقد أن السبب هو عدم وضوح الرؤية لديهم وكذلك لتقديسهم للتراث السياسي شكلا ومضمونا وعدم الخروج بفكر معاصر

رد
avatar
4 يوليو 2016 في 4:27 ص حذف

شيخي الغالي ...
لم أحد في مقالك هذا حلا واقعيا يشفي الغليل إنما الذي رأيته هو سرد تاريخي وربما فيه شيء من الظلم لخواطر الأمس لخوارج اليوم يختلفون كثيرا عن خوارج الأمس وطريقة معالجتمه ربما تختلف أيضا ، واتفق معك أنه لا يوجد أحد من كبار العلماء قام بالرد على شبههم بل لا يوجد موقف واضح من (دولتهم المزعومة )من قبل علماء السنة وأعتقد أن السبب هو عدم وضوح الرؤية لديهم وكذلك لتقديسهم للتراث السياسي شكلا ومضمونا وعدم الخروج بفكر معاصر

رد
avatar