الثوابت والمتغيرات في أحكام السياسة الشرعية



د. صلاح الدين محمد النعيمي
باحث متخصص في السياسة الشرعية

تعد السياسة الشرعية مجالاً رحباً في قضية التأصيل الشرعي للوقائع والحوادث المستجدة، التي لا نجد لها دليلاً خاصاًّ من القران الكريم أو السنة النبوية أو الإجماع، ولا لمحلها نظيراً تقاس عليه ، وهذا ليس غريباً باعتبار أن السياسة الشرعية تدور في غالب مضامينها مع دلائل الاجتهاد، وتكون أقرب الى المصالح المرسلة منها بغيرها عند غياب الدليل الشرعي ومستخرجاته الحكمية، شرط أن لا تنفصل عن قواعد الشريعة وكلياتها ومقاصدها.
لذا عرفها ابن عقيل، فقال: (السياسة الشرعية ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسولr  ولا نزل به وحي)
إلاّ أن الملاحظ على هذه الأدلة أنها ليست على درجة واحدة في استناد أحكام السياسة الشرعية، إنما يعرف ذلك بحسب نوع المسألة التي يراد لها المستند الشرعي، لأن مسائل السياسة الشرعية نوعان:
أحدهما: ثبت حكمه بنص شرعي لا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، بل يبقى ثابتاً، وهو ما يعبر عنه بالفقه السياسي الثابت.
وثانيهما: لم يثبت حكمه بنص، أو بعبارة أخرى لم يرد بخصوصه نص فمرجعه حينَئِذٍ إلى طرق الاستنباط (الاستدلال)، والقواعد الكلية، والحكم في هذه الحال يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والمصالح والوقائع والأعراف والعادات ، وهو ما يطلق عليه الفقه السياسي المتغير، وهو الغالب من أحكام السياسة الشرعية.
فالحكم الثابت هو فقه الواجب
والحكم المتغير هو فقه الواقع
قال ابن القيم  في (من تجوز له الفتيا):
 (وهذا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والقدرة والعجز فالواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب وينفذ الواجب بحسب استطاعته لا من يلقى العداوة بين الواجب والواقع فلكل زمان حكم والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم)[1]
بناءً على ما تقدم فان أحكام السياسة الشرعية نوعان:
أحدهما: ثبت حكمه بنص شرعي.
وأما الآخر: لم يثبت حكمه بنص شرعي.
    والأحكام الفقهية في النوع الأول يقسمها ابن القيم -رحمه الله- إلى قسمين:
القسم الأول:
الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال، لأن أحكامها تستنبط مباشرةً من نصوص الكتاب والسنة منطوقاً أو مفهوماً، من أمثلتها: قوله تعالى: ]الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:41، فهذه الآية الكريمة تعلن بوضوح الوظائف الأساسية للحكومة التي يقيمها المؤمنون في كل زمان ومكان، وجديرة بأن تسمى منشور الدولة الإسلامية، فهي –إذن- تبين لنا شكل الحكومة التي يسعى الإسلام لإقامتها، وتشرح العمل السياسي الذي يبقى ثابتاً ما بقيت الحياة، ولا يختلف مهما تغير الزمان والمكان والأحوال. 
والقسم الأول (الشرائع الكلية): يعبر عنها بالفقه السياسي العام الثابت:
 (وهو قواعد السياسة ومقاصدها العامة القارّة (المستقر) في الأحوال العادية)
والفقه الثابت: يعبر عنه بالقطعيات من نصوص القرآن والسنة، مما انعقد عليه إجماع الأمة، واستقرّ أمرها علماً وعملاً نظراً وتطبيقاً.
من ذلك: فرضية الحكم بما أنزل الله، وتحقيق العدل بين الناس، ومتعلقات الاعتقاد، وقواعد الأخلاق العامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحريم موالاة الكفار، وتحريم الشرك، وما عُلم من الدين بالضرورة... الخ، فهذه وأمثالها ثوابت في الدين لا يمكن أن تتغير مهما تغير الزمان والأحوال.
وعليه فالثوابت لا تدخل في مجالات إعمال السياسة الشرعية، لأن مجالاتها من حيث مسائلها لا تخرج في إطارها العام عن الجوانب العملية التي تقبل التغيير لبنائها على مناط حكم متغير يتغير الحكم الشرعي لمسألته تبعاً لتغير المناط، وهو ما سنلاحظه في القسم الثاني من النوع الأول، وكذا النوع الثاني.
القسم الثاني:
السياسات الجزئية التابعة للمصالح فتتقيد بها زماناً ومكاناً، أو بعبارة أخرى النصوص التي جاءت الأحكام فيها معللة بعلة، أو مقيدة بصفة، أو التي راعت عرفاً كان موجوداً زمن التشريع أو نحو ذلك.
وهذا القسم له صور، تتعدد بتعدد أسباب تغير الحكم المعتبرة، منها:
1-  تغير الحال: من أمثلتها: أمر سيدنا عثمان t بإمساك ضوال الإبل، مع أن النبي r منع من إمساكها، قائلاً للسائل ((ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل من الشجر حتى يلقاها ربها)) أخرجه البخاري
 فمنْعه r من إمساكها، كان ذلك عن حالة آمنة، فلما تغير حال الناس ووجد منهم من يأخذ الضالّة، أمر سيدنا عثمان t بإمساكها، وهذا سياسة منه t، وكذلك لو أنَّ حالةً من حيث الأمانة لم تتغير، وإنما كان الناس يعيشون بأرض مسبعة، للزم الأمر بإمساكها خشية أن يأكلها السبع، وهذا من السياسة أيضاً.
2-  تغير المصلحة: من أمثلتها: إذْنُ النبي r للناس في ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، بعد نهيهم عن ادخارها وأمرهم بالتصدق بما بقي، فإنه لما كان العام التالي سأل الصحابة t النبي r بقولهم (يا رسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي؟) أي بالتصدق، فقال r: ((كلوا وأطعموا وادخروا فان ذلك العام كان بالناس جهدٌ فأردت أن تعينوا فيها))أخرجه البخاري وفي رواية مسلم ((إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا)) فبين النبي r لهم بأن الحكم الأول (التصدق) قد تغير إلى الادخار بزوال علة النهي، وهي الدافة.
ومن الأمثلة المعاصرة: قطع العلاقات الدبلوماسية عند الخلافات والنزاعات واستئنافها حسب ما تقتضيه مصلحة الدولة.
3-  تغير العرف: من أمثلتها: إخراج زكاة الفطر في كل بلد من قوت أهلها، ولا يلزم إخراجها من قوت أهل المدينة من القمح أو الشعير أو التمر أو الزبيب أو الأقط (اللبن المجفف) الذي قيدهم به رسول اللهr  ولو كان قوت أهل المدينة غير هذه الأصناف لم يكلفهم أن يخرجوا مما لا يقتاتونه.
وفي وقتنا الحاضر يجوز إخراج القيمة إذا اقتضت مصلحة المستحق للزكاة، ولا سيما أن الناس محتاجون للقيمة أكثر من احتياجهم لتلك الأصناف.
وهذا القسم (السياسات الجزئية) بصوره الثلاث التي أوردناها يدخل في القسم المتغير، على أساس أن الحكم قد تغير.
والذي يبدو لي:
إن هذا القسم يدخل -أيضاً- في الفقه الثابت، لأن الحكم لم يتغير، بل الذي تغير هو الأحوال والأشخاص والأعراف حسب ما تقتضيه مصالح الناس، وعليه يمكن القول إن الذي تغير هو مناط الحكم لا أصلُه.
فهذه مسائل ثبتت أحكامها بنص أو إجماع أو قياس، لكن شأنها ألاّ تبقى على حال، ومن ثَمَّ يتغير الحكم فيها تبعاً لتغير مناطه من حال إلى حال، لا تغير في أصل الحكم، بحيث يرى الإمام -أو من يقوم مقامه- أن الحكم تغير في تلك المسائل تبعاً لذلك، فيحكم بحكم يستلزمه هذا التغيير فالحكم الثاني يسمى سياسة شرعية.  
أما النوع الثاني من أحكام السياسة الشرعية، فهو لم يثبت حكمه بنص شرعي، أو بعبارة أخرى هو ما لم تأت فيه نصوص بخصوصه، فإن الفقهَ فيه يكون عن طريق الاجتهاد الصحيح المنضبط الذي تكون غايته تحقيق المصالح ودرء المفاسد في ضوء مقاصد الشريعة، وعدم مخالفته لدليل من أدلة الشرع المعتبرة.
  وهذا النوع يطلق عليه: الفقه العام المتغير أو الفقه السياسي الخاص (غير الثابت)، وهو: (الفقه الذي تقتضيه سياسة التشريع، ولا سيما فيما لا نصَّ قاطعاً فيه، أو ما لا نص خاصاً فيه أصلاً).
أو بعبارة أستاذنا الزلمي: (الفقه الذي تقتضيه سياسة التشريع، ولا سيما في ما لا يدل عليه النص دلالة قطعية أو لا يوجد النص أصلاً).
وهو القسم الأكبر من مسائل السياسة الشرعية: لذا فإنه حظي باهتمام كبير من لدن الباحثين من خلال تفصيله وبيان مآخذه الدليلية، وإيضاح ضوابطه.
فمن الباحثين المعاصرين من يقول في مَعرِضِ إيضاحه لمحيط السياسة الشرعية في قسمها المتغير، ما نصه (إنها -السياسة الشرعية– فيما نرى خاصة بالأحكام التي شانها ألاّ تبقى على وجه واحد، بل تختلف باختلاف العصور والأحوال، وعلى حسب ما يترتب عليها من النتائج والآثار، وبالأحكام التي لا نجد لها دليلاً خاصاًّ من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولا لمحلها نظيراً تقاس عليه مما سبق فيه حكم من الرسول r يعتبر من الفقه العام، فمرجعها إلى قواعد رفع الحرج ودفع الضرر والحكم بالعدل، وإلى العمل بمبدأ سد الذرائع والاستصحاب والاستحسان، ومراعاة العرف والمصالح المرسلة).
من هنا تفهم السياسة الشرعية على أنها استنباط الحكم الشرعي للوقائع المستجِدة التي تنزل بالأمة، ولم يرد فيها نص معين من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولا لمحلها نظير تقاس عليه، فعندئذ يتم التوصل إليها بالاجتهاد من خلال الأدلة المختلف فيها (الاستدلال) والقواعد الكلية بما يحقق المصلحة العامة في ضوء مقاصد الشريعة في هذه الوقائع والمستجدات.
الاستنتاج:
    مما تقدم يمكن أن نستنتج أن الإسلام سلك طريقين في تشريعه للأحكام هما: 
الأول: طريق التشريع الثابت لأمور لا تتبدل بتبدل الزمان والمكان مثل العقائد والعبادات والحدود والقصاص وجملة من المعاملات ويدخل في هذا الباب كل ما يندرج تحت الفقه الثابت، وطريق التشريع الثابت محدود نظراً لأن وقائعه محددة متكررة في آحادها.
الثاني: طريق السياسة الشرعية المتغيرة بتغير الزمان والمكان إذ أشارت الشريعة إلى عموميات وقواعد كلية تحكمها، وتركت تقديره لأهل العلم والاجتهاد بحسب ما يقتضيه زمانهم ومكانهم، وطريق التشريع في السياسة الشرعية غير محدود بل واسع المجال وذلك لتجدد وقائعها ونوازلها فكان لا بد من قواعد تجمع شتاتها وتوضح معالمها وتبين كيفية التعامل مع تلك الوقائع والنوازل[2].





[1] اعلام الموقعين:4/ 220 
[2] للمزيد راجع كتابنا: أثر المصلحة في السياسة الشرعية: 125 ـــ 130

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا