الاجتهاد بين الضرورة والواقع الفقهي


حازم الحسني
كاتب وداعية
 يحكى بأن يونس بن عبداﻷعلى - وهو أحد طلاب اﻹمام الشافعي - اختلف مع أستاذه اﻹمام محمد بن إدريس الشافعي في مسألة أثناء إلقائه درساً في المسجد! فقام يونس مغضبا ، وترك الدرس ، وذهب إلى بيته .!! فلما أقبل الليل ، سمع يونس صوت طرق على باب منزله!
فقال يونس :من بالباب..؟
قال الطارق :
محمد بن ادريس !!
قال يونس : فتفكرت في كل من كان اسمه محمد بن إدريس إلا الشافعي .!!
قال : فلما فتحت الباب ، فوجئت به .!!
فقال اﻹمام الشافعي : يا يونس تجمعنا مئات المسائل ، وتفرقنا مسألة واحدة. ؟!
ومثال آخر الإمام إسماعيل بن يحيى المُزني تلميذ الإمام الشافعي يبدأ مختصره الذي ذكر فيه فقه إمامه الشافعي يقول: "اخْتَصَرْت هَذَا الْكِتَابَ مِنْ عِلْمِ مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ مَعَ إعْلَامِهِ نَهْيَهُ عَنْ تَقْلِيدِه ِوَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطَ فِيه ِلِنَفْسِهِ"
وكذلك رأينا صاحبي أبي حنيفة أبا يوسف ومحمد بن الحسن يخالفان إمامهما في كثير من آرائه واجتهاداته كما هو معروف لدى المطلعين على الفقه الحنفي.
التنوع المثري فيما بعد كون مدارس فقهية، لكل مدرسة منها خصائصها المميزة لها عن غيرها، ومع ذلك رأينا أئمة هذه المدارس ينهون تلاميذهم عن تقليدهم، ويأمرونهم بالنيل من المعين الأول، وبالتزام ما أدّاه إليهم اجتهادهم!
ولذلك رأينا الأجيال الأولى من تلاميذ هؤلاء الأئمة بعيدين عن التقليد الأعمى والتعصب المقيت، بل وجدنا عكس ذلك تمامًا وإلى غير ذلك من الأمثلة التي يطول الكلام بذكرها، وكلها شاهد صدق ودليل حق على أنّ الطبقات الأول من تلاميذ هؤلاء الأئمة قد امتثلوا أمرهم في عدم التقليد الأعمى، بل نظروا إلى تراث أئمتهم نظرة تأمل وتدقيق فما وافق اجتهادهم قبلوه، وما خالف تركوه، ولم يعد ذلك سوء أدب تجاه إمامهم، بل هو الأدب نفسه حيث كان منهم الامتثال لهم.
ومع تتابع السنوات حاد من حاد عن هذا النهج القويم، وصار اتباع هؤلاء الأئمة غاية لا وسيلة، وأصبح غاية المنى شرح كلام الأئمة وتفسيره وتوضيحه، أما النقد له فغدًا شيئًا مستنكرًا، يُشنع على صاحبه أيما تشنيع!
وبدلًا من أن يُنظر إلى هذا النهج المحدث على أنه انحراف عن المسار الصحيح، إذا بنا نجد تأصيلًا لذلك تحت اسم "إغلاق باب الاجتهاد" فصار هذا الشيء المخالف لما كان عليه الأوائل هو الصراط المستقيم الذي لا يجوز العدول عنه بحال.
لكن الإمام الدمشقي العز بن عبد السلام، وعلى الرغم من أنه قد حمل على المقلدين، وبين خطأ مسلكهم لكنه استثنى من ذلك العامة، فقال: "إن وظيفتهم التقليد لعجزهم عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد، بخلاف المجتهد فإنه قادر على النظر المؤدي للحكم".
فليست الدعوة إلى الاجتهاد دعوة إلى الفوضى العلمية وإرخاء العنان لكل من هب ودب، ولكنها دعوة لرد الحق لأصحابه، فالمجتهدون قد سُلب منهم في وقت حقهم الشرعي في الاجتهاد، وآن أوان رده!
ولم تكن هذه الظاهرة، أعني ظاهرة التقليد ممن يملك أدوات الاجتهاد، موجودة في سلف الأمة:
قال ابن عبد البر: "يُقَالُ لِمَنْ قَالَ بِالتَّقْلِيدِ: لِمَ قُلْتُ بِهِ وَخَالَفْتَ السَّلَفَ فِي ذَلِكَ؟ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقَلِّدُوا".
وإنما بدأت هذه الظاهرة في القرن الرابع الهجري، كما نص على ذلك ابن حزم حيث قال: "فكان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة يطلبون حديث النبي صلى الله عليه وسلم والفقه في القرآن ويرحلون في ذلك إلى البلاد فإن وجدوا حديثا عنه صلى الله عليه وسلم عملوا به واعتقدوه ولا يقلد أحد منهم أحدا البتة فلما جاء أهل العصر الرابع تركوا ذلك كله وعولوا على التقليد الذي ابتدعوه ولم يكن قبلهم".
فيا أيها الأحباب اليوم نحن أهل السنة نجد من استحقها ولم يتجرأ عليها ، على الرغم من أن الضرورة الواقعية تقر بالحاجة الملحة الى مجتهد والتي للأسف استغلها بعض المتنطعين بتوجهات خاصة او موقف ذاتي تصدروا المواقف للأمة فكانوا وكأنهم يطبقون حديث المعصوم صلى الله عليه وسلم - حتى لا يبقى على الأرض إلا لكع ابن لكع - جاهلا; فيفتون للناس! -
وهذا الحال قائم للأسف فلو ان تورع  الجميع عن منصب الإمامة العظمى، محل الاجتهاد لكان أمر الناس فوضى لا نظام له ولتعطلت كثير من الواجبات الشرعية المنوطة بالإمام!
وليس الحق في متناول الجميع وليست البصيرة تُشترى او يُتدربُ عليها وإنما هي فطنة بهبة ربانية مع أدوات علمية ومعاينة هموم ومتغيرات المجتمع وتطور حاجاته والتفاعل معها هي من تدعوا إلى أن يتصدر أصحاب الفضيلة ليدبروا أمور الناس  .
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو قريب من التنزيل وحاضر زمنه ... يوقف حداً للسرقة وهو نص .. !
ويوقف حكما في زواج الكتابية وهو نص.... !
وكأن اختيار أبي بكر لعمر في خلافته دعوة للاجتهاد وعدم غلق الباب
وهذا رسول الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقبل من صحابي كلمة ليس فيها ما يعين المقلد من اهل الاجتهاد على قبول حجة تورعهم - اجتهد ولا آلو - ويثني عليه ويحمد الله على شجاعته.
أليس فيهم الأسوة الحسنة ومنهم المنهج القويم....؟!
التورع أدى إلى نقيضه، فلئن كان الداعي لهذا التورع الخوف من القول في الدين بجهل، فقد أدى ذلك إلى التقليد الأعمى، وهو عين الجهل!
ولذلك شبه الغزالي حال هؤلاء بحال من" يَقْتُلُ نَفْسَهُ عَطَشًا وَجُوعًا خِيفَةً مِنْ أَنْ يَغَصَّ بِلُقْمَةٍ أَوْ يَشْرَقَ بِشَرْبَةٍ لَوْ أَكَلَ وَشَرِبَ، وَكَالْمَرِيضِ يَتْرُكُ الْعِلَاجَ رَأْسًا خَوْفًا مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعِلَاجِ،وَ كَمَنْ يَتْرُكُ التِّجَارَةَ وَالْحِرَاثَةَ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ صَاعِقَةٍ فَيَخْتَارُ الْفَقْرَ خَوْفًا مِنْ الْفَقْر"[ المستصفى للغزالي]
ويجب التنبيه إلى أنه لا يزال في هذه الأمة مجتهدون حتى يقبض الله تعالى العلم من الأرض، ولا يصح ادعاء أن الأرض قد خلت من مجتهدين بعد انتهاء القرون الأولى.
قال ابن عرفة المالكي في [ الرد على من ألحَدَ إلى الأرض للسيوطي ] 
" قال شيخنا ابن عبد السلام ،يعني أحد أئمة المالكية: لا يخلو الزمان عن مجتهد إلى زمن انقطاع العلم".
وقال ابن دقيق العيد في [ شرح الإلمام بأحاديث الأحكام ] "
فالأرض- لاتخلو من قائم لله بالحجة والبرهان والأمة الشريفة لابد فيها من سالك إلى الحق على واضح المحجة إلى أن يأتي أمر الله".
وقال السيوطي في رسالته [الرد على من أخلد إلى الأرض] :
ذهبت الحنابلة بأسرهم إلى أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد لقوله - صلى الله عليه وسلم- لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله رواه الشيخان وغيرهما قالوا لأن الاجتهاد فرض كفاية فيستلزم انتفاؤه اتفاق المسلمين على الباطل".
وقال السيوطي في رسالته [تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد" ص 53 "]: ومن الأحاديث الدالة على استمرار الاجتهاد إلى قيام الساعة، وإلى وجود أشراطها: قوله صلى الله عليه وسلم: "يبعث الله على رأس كل مائة سنة، من يجدد لهذه الأمة أمر دينها". 
والظاهر من نص الحديث أن المجدد قد يكون واحدا أو أكثر، لأن لفظ "من يجدد الدين" لا يحدد عددا بعينه، فقد يكون المجدد واحدا أو أكثر، وقد يجدد الدين بجهاد أو دعوة، ولذلك فإن الكثير من العلماء المحققين، منهم الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري والحافظ ابن كثير في دلائل النبوة والحافظ ابن الأثير في جامع الأصول قد أشاروا إلى إمكانية حمل الحديث على عمومه من كون المجدد في كل عصر مجموعة من العلماء والقادة المصلحين الربانيين، ينفون عن الإسلام تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وفي ذلك كلام لابن القيم رائع.... في كتابه [ الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية ]قال رحمه الله: "وَهَذَا مَوْضِعُ مَزَلَّةِ أَقْدَامٍ، وَمَضَلَّةِ أَفْهَامٍ،  وَهُوَ مَقَامٌ ضَنْكٌ، وَمُعْتَرَكٌ صَعْبٌ، فَرَّطَ فِيه ِطَائِفَةٌ، فَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَضَيَّعُوا الْحُقُوقَ، وَجَرَّءُوا أَهْلَ الْفُجُورِ عَلَى الْفَسَادِ، وَجَعَلُوا الشَّرِيعَةَ قَاصِرَة ًلَا تَقُومُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، مُحْتَاجَةً إلَى غَيْرِهَا، وَسَدُّوا عَلَى نُفُوسِهِمْ طُرُقًا صَحِيحَةً مِنْ طُرُقِ مَعْرِفَة ِالْحَقِّ وَالتَّنْفِيذِ لَهُ، وَعَطَّلُوهَا، مَعَ عِلْمِهِمْ وَعِلْمِ غَيْرِهِمْ قَطْعًا أَنَّهَا حَقٌّ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، ظَنًّا مِنْهُمْ مُنَافَاتِهَا لِقَوَاعِد الشَّرْعِ.
وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهَا لَمْتُنَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ نَافَتْ مَا فَهِمُوهُ مِنْ شَرِيعَتِهِ بِاجْتِهَادِهِمْ ،وَاَلَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ ذَلِكَ: نَوْعُ تَقْصِيرٍ فِي مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ، وَتَقْصِيرٍ فِي مَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ، وَتَنْزِيلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلَمَّا رَأَى وُلَاةُ الْأُمُورِ ذَلِكَ، وَأَنَّ النَّاسَ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ أَمْرُهُمْ إلَّا بِأَمْرٍ وَرَاءَ مَا فَهِمَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الشَّرِيعَةِ، أَحْدَثُوا مِنْ أَوْضَاعِ سِيَاسَاتِهِمْ شَرًّا طَوِيلًا، وَفَسَادًا عَرِيضًا فَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَتَعَذَّرَ اسْتِدْرَاكُهُ، وَعَزَّ عَلَى الْعَالِمِينَ بِحَقَائِق الشَّرْعِ تَخْلِيصُ النُّفُوسِ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتِنْقَاذُهَا مِنْ تِلْكَ الْمَهَالِكِ.
وَأَفْرَطَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى قَابَلَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةَ، فَسَوَّغَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا  يُنَافِي حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ أُتِيَتْ مِنْ تَقْصِيرِهَا فِي مَعْرِفَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ".
فهذا النص القيم من ابن القيم يوقفنا على سبب خطير ومصيبة عما بها البلوى في أمتنا ومجتمعنا خصوصاً مما احتضنها من جرأة المتفيقهين على التحكم بمصير هذا المجتمع ووروده الى العلكة والفناء ....
وفي هذا الصدد أنقل من كتاب الإرشاد للإمام الجويني أمام الحرمين رحمه الله يقول في كتابه [الإرشاد الجويني ]
 " من شرائط الإمام أن يكون من أهل الاجتهاد، بحيث لا يحتاج إلى استفتاء غيره في الحوادث وهذا متفق عليه".
فهذا الشرط المتفق عليه – كما قال الجويني – قد تم تعطيله لمّا تعطل الاجتهاد، وإن كانت الضرورة أجازت التخلي عن هذا الشرط، فإن الخروج من هذه الضرورة يجب السعي إلى تحصيله، وإلا صرنا كمن أباحت له الضرورة أكل الخنزير فاستلذ ذلك، وتكاسل عن طلب الحلال.

وبعد هذه النتائج التي ذكرنا يمكننا القول إن إغلاق باب الاجتهاد مصيبة كبيرة حلّت بالأمة الإسلامية، ولكن منّ الله علينا فأدرك علماء هذا العصر خطورة ذلك، فأبوا هذا الإغلاق، وثاروا عليه، وأطلقوا لأنفسهم العنان للاجتهاد المنضبط، وصارت الاجتهادات تفي بجميع نوازل العصر، وقرارات المجامع الفقهية خير شاهد على ذلك، وصارت كثير من المصارف والمؤسسات تستعين بالعلماء ليصححوا لها معاملاتها وفق الشريعة الإسلامية، فلعل فتح باب الاجتهاد يكون الخطوة الأولى إلى عودة حاكمية الشريعة، كما كان إقفاله هو الخطوة الأولى في تنحية الشريعة ! 

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا

2 التعليقات

التعليقات
1 يناير 2016 في 7:05 ص حذف

نسأل الله تعالى ان يظهر لهذه الأمة من العلماء الشجعان من ياخذها في طريق رشدها وخلاصها

رد
avatar
1 يناير 2016 في 7:05 ص حذف

نسأل الله تعالى ان يظهر لهذه الأمة من العلماء الشجعان من ياخذها في طريق رشدها وخلاصها

رد
avatar