الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية.


د. سمير هاشم العبيدي
أكاديمي وباحث
    لم يشهد القرن الماضي ضجة كبيرة حول كتاب ما، مثلما حدث مع كتاب الشيخ علي عبد الرزاق الأزهري (الإسلام وأصول الحكم)، ثم حُوكم أزهرياً وسُحبت منه الشهادة العالمية، وكلُ كتابه يدور ويؤكد معنا واحدا وهو الإسلام دولة مدنية لا دينية.
    نتساءل اليوم ... لماذا الصمت وكل الأحزاب الإسلامية من شرق الوطن العربي إلى غربه تُنَّظرُ لهذا المعنى ؟! من المغرب والجزائر وتونس وها هي مقالات وتصريحات قادتهم ومُنظريهم ومن بينهم راشد الغندوشي تفوح بذلك، ثم من مصر وقادة الفكر الأخواني كمحمد عماره والقرضاوي، تؤصل لذلك وهلم جرا.
   علينا في البداية تحرير محل النزاع وبكلمات بسيطة وواضحة، حتى لا تختلط المصطلحات والمعاني، ونتهم الناس بما لا يعنون أو يريدون.
   هناك منظومتان الأولى تدعو إلى سيادة الله تعالى في ملكه خلقا وحكما، وأنَّ الإنسانَ عبدٌ مستخلف في الأرض لعمارتها بمنهج الله تعالى الذي بينه له رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وله أنْ يجتهد في استحداث وسائل تؤدي إلى المحافظة على ثوابته وخطوطه العريضة المسبقة والخارجية، فله نصوصٌ مقدسة متمثلة بالكتاب والسنة وله منهجٌ سماوي يتبعه لسعادته في الدارين، يحافظ من خلاله على هيكلية دولته ودينها ورعاياها.
    المنظومة الثانية تدعو إلى سيادة الإنسان وأنه مركز الكون، وأنه حر في ملكه، وهو مُنشئ الأحكام، عن طريق وسائل تتطور مع تطوره وقد وصل في نهاية المطاف إلى أرقى نظام بشري وهو النظام المدني الديمقراطي النيابي، حيث يخضع لسلطة المواطنين(تشريعا وقضاءً وتنفيذا) وما يقررونه بحكم الأغلبية هو النافذ، وكل شيء خاضع للنقاش تحت قبة البرلمان، فلا مقدسات ولا أحكام سابقة ملزمة على المواطنين، إلا الخطوط العريضة للدستور الذي هم ارتضوه لأنفسهم وتوافقوا عليه.
لاحظ أنَّ تحريرَ محل النزاع يكمن في(مَنْ هو السيد؟ ومَنْ هو العبد؟ ومن هو منشئ الأحكام؟)
    المطروح في الساحة الآن وما يُجابه به الإسلاميون الحركيون هو السؤال التالي، هل أنتم تنشدون تأسيس دولة مدنية أو دينية ؟
   أغلبهم يجيبون بالدولة المدنية، بعضهم يعتقدها اعتقاداً، ويضرب الأمثلة على ذلك بأن شكل الخلافة الراشدة لم يكن واحدا في طريقة تنصيب الخليفة، وأنهم استفادوا من تطوير دولة الإسلام من منظومات مجاورة فارسية أو رومانية و...الخ، ونقول صحيح ما تضرب من أمثلة ولكنها ليست في محل تحرير النزاع.
   وبعضهم يعتبرها مخادعة، فهو يُبطن وينشد الدولة بالمفهوم الأول، ويظهر للإعلام الكلام في الدولة المدنية، وهذا لا بأس به في مفهومه فالحرب خدعة.
   وبعضهم يقول: نحن لا نستطيع أنْ نقيم دولة الإسلام، وسنقود المجتمع بالمنظومة التي يرتضيها المجتمع ويتوافقون عليها، وهذا كلام خطير من جهة أنَّ الناس اختاروا الإسلاميين لاعتقادهم أنَّ منهجهم الإسلامي رصين ويحقق العدل والأمان ويقضي على الفساد وال..خ، وأنهم ملَّوا الأحزاب القومية والبعثية وغيرها، وتشبثوا بالإسلام، وإذا بالإسلاميين يصرحون أنهم دولة مدنية، وأنهم يحكمون الناس بما يتواضعون عليه من أحكام، فمثلهم كمثل الذي يفر الناس إليه لنجدتهم، وهو يفر منهم، أو يغير جلده الذي عرفوه به.
   اعتقد أنَّ الجواب على السؤال، هل تنشدون دولة دينية أو مدنية ؟ هو مقدمة خاطئة مبنية على تقسيم ثنائي فقط، فإذا اخترت الدولة المدنية فقط فقد أوصلت رسالة خاطئة للمسلمين وهم جمهورك الذي تراهن عليه في الانتخابات؛ لأنهم يعتقدون أن هذا الاختيار هو انسلاخ عن الدين وعن ما كنت تروج إليه سلفا (الإسلام هو الحل)، وإن اخترت الدولة الدينية فقط، فقد أوصلت رسالة خاطئة للغرب، لأنهم يتصورون الدولة الدينية الثيوقراطية بسلطة فردية تحكم بلسان الله على البشر؛ لذا فالجواب الأصح أنْ يقول نحن ننشد دولة دينية مدنية.
    والتفصيل له مستويات حسب مقتضيات الحال، كما يقول أهل البلاغة، فنقول دينية وذلك باعترافنا بسيادة الله تعالى في ملكه وأنَّ الأحكام المقطوعة بصحتها لا نتجاوزها، فليس من صلاحيتنا تحريم الحلال ولا تحليل الحرام، ونحن دولة مدنية لأننا نبذل قصار جهدنا لتحقيق مصالح المجتمع والحفاظ على أمنه وسعادته بالوسائل والطرق الحديثة، وقد نجبر على أنظمة لا نستطيع اليوم أن نتجاوزها فنتعامل معها، لأن الحياة يجب أنْ تستمر، حتى يعتقد الآخرون بأن الخير كل الخير في منظوماتنا الدينية والمدنية، وحتى يتوفر لنا البديل المناسب.
   وتُسند هذه المقدمات، بنشر صورة الدولة الإسلامية الدينية المدنية المقبلة، وكيف سينجحون بالمحافظة على هذه الصورة، وكيف ستنعم الدول المجاورة لها بالأمن والسعادة لأنهم يعرفون مقدار العهد والالتزام الدولي.
    سيواجه الإسلاميون بالسؤال عن تطبيق الحدود مثل الرجم، والقطع والجلد وغيرها، فليكن، الجواب: بإظهار عوار الدولة المدنية وتطبيقاتها، وليقل نحن لا نرضى بسجل الجريمة المتصاعد في أمريكا مثلا أنْ يحل في ديارنا هل تعلم أنَّ معدل السرقة عندهم هو ثلاث سرقات في كل دقيقة، وعشرات القتلى يومياً، وعشر حالات اغتصاب في كل ساعة، وأنَّ ايطاليا تنفق على سجونها أكثر مما تنفقه على التعليم والصحة؛ لذا هم في أزمتهم المالية الحالية قرروا تبيض السجون لتخفيف النفقات، وهذا خطأ فوق خطئهم الأول، والشواهد كثيرة، نحن ننأى ببلادنا أنْ تحلَّ بهم الكوارث وقد استأمننا شعبنا على قيادته، فهلموا معنا لإنقاذ البشرية مما هي فيه، واطرحوا كل الحلول لمناقشتها ومنها الحل الإسلامي.
    عموماً المسألة الدولية ليست بالشيء الهيّن، ونحن جزء من مجتمع كبير في عصر العولمة، في عصر السيادة الغربية، التي أسقطت السيادة والحدود والتاريخ الشخصي للدول الأخرى، وذلك بتشديد قبضتها على المؤسسات الدولية النشطة والمؤثرة كهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وصندوق النقد الدولي ومحكمة  العدل الدولية والخ؛ لذا قالوا نحن- لا غيرنا- يصنع التاريخ، والبقية هم على هامش إطار الصورة، فإذا كان حال الدنيا هكذا، فعلينا التعامل معه مع تمني الفرج والعمل على إيجاده، مع عدم الخضوع والانجرار والتسريع في عولمتنا وضياع هويتنا، وإلى الله المشتكى أولاً وأخراً.




شارك الموضوع

إقرأ أيضًا