المعايشة القيادية.. حلاً و برنامجَ تطوير


د. هشام الأنيس
أكاديمي وباحث
ليس مقدّرا لشخص ما أن يكون قائداً دوما، إذ إنّ هذه المهمة تنبني على مدخلات كثيرة تتوزّع ما بين تهيئة شخصية للذات بتنوّع مجالاتها الفكرية و الإيمانية و النفسية، و ما بين تهيئة لبناء يقوم على اكتساب مهارات متنوعة، فضلا عن مستلزمات أخرى تحدّثت عنها كتب الإدارة و القيادة، و لعلّ ما يمكن أن يطفو على سطح التنظيمات بشكل عام و الإسلامية منها بشكل خاص هو تراجُعُ القيادات السابقة عن مركز القيادة و انبثاق مجموعة جديدة، قد يكون لها من الرؤية و الفهم و الإمكانات ما يجعلها مؤهلة للانتقال لقُمرة القيادة، إلا أنّ ما يعترضها من إشكالات سيقلقها، و هي تتعلّق معظمها بالانفصال بين القيمِ و ممارساتها، فعندما تغيب القيمة التربوية في النفس و يصاحبها غياب أطرٍ مؤسسية و قد رافقهما غياب جهاز رقابيّ يضبط عملية الانتقال من أعلى إلى أدنى و بالعكس، عند غياب هذه المستلزمات فإنّ أزمة لابد منها ستلوحُ في أفق هذه التنظيمات، تتمثّل بعدم انسجام الفرد مع البيئة الجديدة، و قد نوقشت حالة انتقال الفرد إلى مستوى قيادي أعلى في مقال ( التآلف القيادي)، و التي تشكّل حالة يمكن استثمار إيجابياتها فضلاً عن نسبيّة السلبية التي يمكن أن تحدث و التي يمكن تجاوزها بمسارات التطوير القيادي مع المجموعة الجديدة، و لكن الإشكال سيكون أكبر عند تراجع الفرد من موقع أعلى إلى مستوى قياديّ دونه، مما يعني أن الفرد سيتعرّض لاختبار التفاعل و العمل بدافعية هي ذاتها التي كانت تحرّكه عندما كان في سدّة القيادة، و غالبا ما تكون هذه الحالة من الانتقال بعد ممارسات انتخابية تدفع أناسا إلى القيادة و آخرين تُنزِلُهم إلى مواقع أدنى، حيث يتحوّل الفرد من آمر إلى مأمور و منْ مخططٍ ربما إلى منفّذ، و منْ شخص يمتلك صلاحيات إلى فردٍ محدود الصلاحيات، فبعد جولات انتخابية ترفع رجالا لتولي مسؤولية في مرحلة عصيبة تمر بها الحركة، وتنأى بآخرين تركوا هذه المواقع رغبة منهم أو منْ افراد تنظيماتهم، نجد أنّ هيكل التنظيم بين مترقب متوجس من مستقبل قادم، وما بين ماضٍ استظل بجمره أو بنوره، ما بين مجموعة قيادية تشكو ضعفا تنظيميا وبقايا ثقة اهتزت، وموارد مالية تئن، و مجموعةٍ ترى ( أنْ ليس في الإمكان أبدع مما كان) وأمام كل هذه القضايا العالقة، هناك مستقبل مجتمعات تشهد صراعاً على الانقضاض عليها و تفتيتها و من ثَمَّ تقاسمها، فهي القصعة التي تداعت عليه الأكلة.
       وهنا يلزم الأمرَ حديثٌ صريحٌ في مستقبل عمل القيادات القديمة و كيفية زجّها في العمل و حفظها بعيداً عن حالة التقوقع و العزلة التي قد تتطوّر، عند عدم تصريف طاقاتها، إلى معوّقات و معثّرات تمنع إفادة المجموع من هذه الحالة الصحية التي أفرزت مجموعةً جديدة تملك مؤهلات التطوير أو التطوّر، و الأمران كلاهما منفعة معتبرة و عليه فإنّ:
1.  الثقة بالمجموعة الجديدة من المروءات التي تزيّن سيرة مَنْ مضى أمام مَنْ هو قادم، فاحتكار الخيرية والإبداع والقيادة الفاعلة ليس من شيم القادة عموما ، وهي ليست من شيم قادة الحركة من باب أولى، وقد أخبر الله بكتابه أنّ الخيرية لهذه الأمة مقترنة بأفعال وعبادات إنْ تخلّى عنها المؤمنون نزعها الله منهم وشرّف بها آخرين " كنتم خير أمة أُخرِجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"، و تعدّ هذه الثقة مما يندرج تحت بند الثقة في أركان البيعة العشرة، و تستلزم هذه الثقة التريّث في الحكم على عطاء المجموعة الجديدة، و منحها قدراً من الوقت و الحرية في ممارسة التغيير اللازم في البرامج أو الخطط أو إدارة المؤسسة، و ليس ثمة داعٍ إلى تفسير حالة التغيير بأنها نقدٌ لذوات معينين، بقدر ما يجب أن نفسرّها على انها وسائل جديدة يستلزمها الوقت و تطوّر العصر، و مراعاة المرحلة التي تمرّ بها الحركة الإسلامية في إطاريها؛ الداخلي و الخارجي.
2.  من قراءة تنظيمية متفحصة لواقع الحركة الإسلامية يتبين بأن أبرز خلل يعثّر العمل و يحتاج لرعاية إنما هو في القيادات الوسطية، التي تشكّل صلب عملية التواصل المتبادل التي غالبا ما يكون غيابُها سبباً في اضطراب حركة الأفراد و عدم قدرتهم على تفهّم معطيات الأمر القادم من اعلى، بل يتطوّر الأمر أحيانا ليكون غبشاً في الرؤية أو في تفاصيل الأهداف المرجوة، و الذي بدوره سيكون سبباً في تعثّر الخطط، و من ثَمّ عدم فهم السبب وراء ضعف المجموعة القيادية في أداء دورِها الذي سيتسِمُ بالضعف، حينها سنعود إلى المربع الأول الذي كثيرا ما يتردد فيه محتوى (عدم كفاءة المجموعة الجديدة) و ضرورة إرجاع الأمور إلى وضعها السابق بالوجوه ذاتها.
إنّ الحلقة التواصلية التي سيتعمل معايشة القائد على تحقيقها هي مفتاح التواصل مابين منْ هو أعلى ومن هو أدنى، فإنّ في نزول القيادات التي اكتسبت خبرة ودراية فضلا عما امتازت به من تفرّغ وتواصل في العمل، فرصة متاحة لسدّ النقص في هذا المستوى من العمل واستكمال التوريث الدعوي وفق مفهوم المعايشة القيادية التي تمكنُ ممارستها اختيارا، بدل أن تكون اضطراراً تحتّمُه قيم تنظيمية و إدارية تحفظ لجميع الأفراد حقوقهم في اختيار قياداتهم.
إنّ وجود الثغرة المتمثّلة في غياب الكادر التربوي و الفكري في هذا المستوى من الحركة احياناً يُنتج حالة من الفوضى، بسبب غياب المعرفة باحتياجات القواعد، وعدم القدرة على تبنّي وإقناع هذه القواعد بتوجهات القيادة الجديدة.
وإن التحولات الخارجية والنضوج الفكري والثقافي للقواعد قد تصاحبه تصورات و قناعات جديدة و هذا بسبب أن مجمل الطاقات الموجودة في وسط الحركة الإسلامية من فئة الشباب الذي تتسارع الرؤى الجديدة و معطيات العصرنة إلى ذهنه، و ليس ذلك بمعيب، و لكنه سيكون هادرا مما  يستلزم وجود رؤى ذات أصالة في التفكير و حفظ للقيم و التراث الفكري، و هذا ما يمكن أن يكون حاضراً في المجموعة القيادية السابقة، التي من المؤكد أنها وصلت الى منزلة القيادة بوجود مقوّمات فكرية و قيمية و عملية، حينئذ ستحلّق الحركة بانسيابية بهذين الجناحين، و هو التحليق ذاته الذي ستشهده هذه الحركة بتناغم جناحيها مع المجموعة القيادية الجديدة، إذ لا يمكن تصورُ تغيير تامٍ على مستوى القيادة، و إنما غالبا ما يكون استبدالا جزئيا، و نادرا ما يكون كليّا وهو ما يحدث ربّما في المنعطفات الخطيرة التي تمرّ بها التنظيمات الإسلامية.
3.  الحذر من شعور الانهزام والتراجع بالنسبة للمجموعة التي غادرت موضع القيادة، فنحن لسنا أمام عرض من الدنيا الفانية حتى نحزن على ما فاتنا، كما أن الشعور بأن القواعد تآمرت وتحالفت لإزاحة المجموعة السابقة سيكونُ ذريعة سهلة تفضي إلى الانعزال والتقوقع على الذات، وإن احترام القيادات في أحد جوانبه يكمن في قدرتها على تلقّي النقد وقبوله والنزول إلى الرأي السائد بين القواعد من دون مكابرة أو عنت، ما دام هذا النقد ينطلق من رغبة في تحسين الأداء وتجاوز الأزمات والبدء بخطوة صحيحة ومدروسة، و رغبة الهيكل العام داخل الحركة الإسلامية في تبنّي التغيير الذي يتناسب مع هذه التحولات ليس عيبا إذا وجدتِ القواعد أنّ المجموعة السابقة غير قادرة على تحقيقه، وهذا في الظروف طبيعية ، أما والأمر في ظلّ تسارع الأحداث واشتداد الأزمات فإنه يسع القواعد أن تبحث عمّن يلبي احتياجها ويتفهم تحولاتها، فاختيار القواعد لقيادات جديدة لا يطعن في عطاء منْ سبق، والأمر لا يعدو في بعض جوانبه وجهة نظر لا بأس من تبنيها.
4.  إن تفعيل ( المعايشة القادية) في إطار الحركة الإسلامية عموما يأتي بسبب وجود مساحات من العمل غير مشغولة، بل معطّلة أحيانا بسبب غياب الكفء على إشغالها، أو انشغاله بمهام أخرى، و أكثرُ المساحات تعرّضا لحالة الإهمال هي تلك المساحات التي تكون مساحة العمل فيها أكبر من مساحة القول، و تلك التي تكون مدعاة للعمل و تبتعد عن الجدل، و هي ما نسميه ( مساحة التنفيذ الفعلي)،  وعليه فسيكون لمجموعة المعايشة  القيادية فرصة لتحريك هذه المهام بطاقة أكبر وخبرة أعظم، و يحتم عليها البدء باستثمار هذه الطاقات، و يتأكد هذا الأمر عندما تكون القيادة الجديدة مشغولة بزحمة أولويات أعمالها، لذا ستكون هذه المساحة فرصة لسدّ النقص الحاصل، توجب على منْ سبق أن يكون حاضرا لسد الفراغ وإشغال المساحات الفارغة طوعاً، فمنْ شغل موقعاً قياديا لا يحتاج إلى منْ يوجهه وإلى ما ينبغي فعله في موضوع العمل والحركة، فالعمل مأمور به شرعا قبل أن يكون مطلباً تنظيميا.
وستبقى مسالة تحقيق فائدة المعايشة القيادية  داخل منظومة الحركات الإسلامية متوزعة بين فكرة القناعة و فكرة الاستثمار، فالأولى تقع على عاتق القيادات التي سترفع سقف القواعد الوسطية، و تقدّم صورة مثالية إلا أنها واقعية في الوقت ذاته، و تضرب مثلا للتجرد بعيدا عن شهوة الرئاسة و الزعامة و غرور الأداء و الكفاءة، و الثانية تقع على عاتق الجهاز الإداري الذي يضع خططاً و مشاريع و مهام تحفظ للقيادات السابقة خبرتها و تبرمج جهدها في انسيابية مع مع هيكل التنظيم.

إنّ ما يتحقق من جراء هذه الممارسة كبير جدا فهو لا يقف عند اختبار الذات، أو تقديم أنموذج للاقتداء فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى توحيد الرؤى و الأفكار و تعميق الفهم و ضبط حرك و فكر الأفراد، و فوق كل ذلك ستضمن لنا هذه المعايشة توريثا للففكر و منهجية السير يحفظ  هذه الحركة و الأفراد من الذوبان أو التآكل في المجتمع.

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا