"لا يفتي قاعد لمجاهد"... هل هي قاعدة فقهية؟


وسام الكبيسي
كاتب ومحلل سياسي

بدأنا نسمع كثيرا في السنوات الأخيرة، من يردد هذه المقولة، ومع أن ظاهرها يوحي بأنها مقولة مرتبطة بالشريعة والفتوى، فإنني ولهذه الساعة لم أسمعها أو أقرأها عن فقيه معتبر على سبيل إقرارها أو العمل بها، ولكنني سمعتها كثيرا ممن لا يُؤخذ عنهم العلم ولا يشهد لهم بالأهلية للاجتهاد، لينتصروا لرأي جماعات اختلف الناس حول أفكارها وسلوكياتها، بحجة أن أفراد هذه الجماعات تتحرك في ميادين (الجهاد)، وهم أعرف بالواقع من غيرهم ولا يصح أن يفتي لهم من لم يكن معهم في الميدان.
يبدو لي من الوهلة الأولى أن هؤلاء وقعوا في خلط في المفاهيم وعدم قدرة على التمييز لقلة بضاعتهم وحماستهم واندفاعهم وتطرفهم في نصرة وتأييد هذه الفصائل، ولقد حلت بالأمة مصائب كثيرة وكبيرة بسبب الفهم السقيم لهذه القاعدة ( مع عدم الإتفاق عليها حتى بين المتأخرين من أهل العلم )، والإصرار على تطبيقها رغما عن أنف الأمة بعوامها وعلمائها.
لذلك كان لزاما علينا البحث عن هذه (القاعدة) تأريخيا وفقهيا، ومحاولة مناقشة القائلين بها بناءً على افتراضاتهم واستدلالاتهم، إجلاءً للأمر وإبراءً للذمة، وتبيينا لمن افتتن بهذه (القاعدة) وبات لا يرضى بها بديلاً ولا يقبل بغيرها دليلا.
لقد بحثت طويلا خلال الأسبوع الماضي لعلي أجد هذه (القاعدة) قد وردت عن السلف بنصها أو بمعناها، بحسب تطبيقات القائلين بها من المعاصرين، فما وجدت لها عندهم - أي السلف الصالح - أثرا، وكل الذي وجدته أن الفتوى في أمور الجهاد لا تختلف عن غيرها من أمور الشرع، وهي موكولة لأهل العلم، وراجعت كتب القواعد الفقهية والأصولية التي ألفت في عصور السلف فما وجدت من بين الشروط التي وضعوها للفتوى ولا الشروط التي وضعوها للمفتي أن يكون مجاهدا أو نافرا للجهاد، فمن أين جاء هؤلاء بهذه المقولة وجعلوها قاعدة يحاكمون عليها الفقهاء ويشوشون بها على الأمة؟.
إن التسليم بهذه المقولة، يجعلنا نفصل بين مجاهدي الأمة وفقهائها، ويحرم الأمة من الاستفادة من شجاعة أبنائها بعد ترشيد قتالهم بآراء فقهائها، وإلا اتخذ الشجعان رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
مقولة أم قاعدة فقهية؟
وإنما ننفي عنها وصف الـ(قاعدة)، ونصفها بأنها (مقولة) لأن القاعدة وصف يتسم بالضبط ويكون كالتعريف جامعا مانعا، بينما هذه (القاعدة) - إن صح ان نسميها قاعدة -، حمالة اوجه، لذا فمن حقنا أن نشكك في كونها قاعدة بله أن تكون ملزمة، وهو ما لا يتوفر حتى للقواعد المطردة،
إذ المقرر عند العلماء أن القاعدة الفقهية ليست كلية تنطبق على جميع جزئياتها، بل أغلبية تنطبق على أغلب جزئياتها، ومعنى ذلك أننا حتى لو قبلنا هذه المقولة كقاعدة، فلا يعني هذا أن تنطبق على جميع أفرادها فتعطي الحق بالفتيا لكل مجاهد، وتمنع الفتيا عن كل قاعد.
وللتذكير فإن الجهاد قد يكون فرضا على العين وقد يكون فرضا على الكفاية فما كان على الكفاية فيجوز للعالم أن يتخلف عنه (مثلا الشيخ ابن عثيمين والشيخ القرضاوي مع جهاد أهل فلسطين، وسورية اليوم ) وأما على العين فلا يجوز ذلك إلا من أصحاب الأعذار مثل (الشيخ عبد الكريم زيدان رحمه الله الذي أقعده عذر العمر والمرض عن مجاهدة المحتل في العراق ) ولا شك فكلهم في رتبة عالية من الإجتهاد فهل يتعلل طالب علم بترك فتاواهم لأنه يجاهد وهم قاعدون؟، وهل القعود له حكم واحد، أم يخضع للأحكام الخمسة المتدرجة بين الحرام والواجب؟.
يردد القائلون بهذه (القاعدة) من متأخري المتأخرين قوله تعالى في سورة التوبة:١٢٢
"وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ".
ويظنون أنهم بترديدهم لهذه الآية يسندون مقولتهم، ولكننا بالعودة إلى تفسيرها نجد أن ابن عباس رضي الله عنهما، يقول بأن هذه الآية نزلت لتنسخ قوله تعالى النساء: ٧١ "فَانْفِرُوا ثَبَاتٍ أَوْ انْفِرُوا جَمِيعًا" وقوله تعالى: التوبة: ٤١ "انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا"، فتأمر المؤمنين بألا ينفروا جميعا ويتركوا رسول الله لوحده في المدينة.
ونقل الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره :
قوله تعالى " ليتفقهوا " الضمير في ( ليتفقهوا ، ولينذروا ) للمقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة ومجاهد ،. وقال الحسن (أي البصري) : هما للفرقة النافرة ، واختاره ابن جرير.
والحسن البصري بنى تفسيره للآية على معنى ليس هو المراد عند أهل هذه القاعدة، فهو رحمه الله يتحدث عن نقل النافرين للقاعدين، ما يرونه من الكرامات التي يعطيها الله للأمة ولأهل الجهاد فينصرهم على ضعف منهم وقلة، على أعداء يفضُلون عليهم في العدد والعدة، ومعلوم أن هذا المعنى يؤخذ بالمشاهدة والتدبر الذي يحسنه الكثير من المؤمنين، ولا يسمى فقها بالمعنى الاصطلاحي.
ولذلك قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية:
( ثم نبه على ان في إقامة المقيمين منهم ، وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتهم .
فقال "ليتفقهوا" أي القاعدون "في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم" أي ليتعلموا العلم الشرعي ، ويعلموا معانيه ، ويفقهوا أسراره ، وليعلموا غيرهم ، ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم .
ولكن لنفترض أن الآية تفيد بأن لا يفتي القاعدون للنافرين للجهاد، فهل نفهم من هذا أن النافر صار مؤهلا للفتيا بمجرد خروجه للجهاد؟، أم أنه يجب أن يتحلى بالشروط التي تجعل الناس، وطلبة العلم على وجه الخصوص، تطير بفتاواه بين مجالسهم، كما هو حال الفقهاء المشتهرين في الأمة في كل عصر؟
وهل يصح أن تكون هذه الآية مستندا لقادة الميدان من العسكريين، تبرر لهم ترك أقوال الفقهاء المعتبرين والأخذ بما يصل إليه اجتهادهم الذي لا يقوم على ضوابط وقواعد فقهية وأصولية، ولا على أهلية لتحقيق مناطات الأحكام، بحجة أنهم أعرف بالواقع؟، وهل نتخيل مقدار الفساد الذي يجلبه هذا الفهم للأمة، خصوصا ونحن نتحدث عن قتال ودماء وتقدير مواقف بين الأمة وأعدائها؟.
ومن قال إن معرفة الواقع - أي واقع - يكفي لاستنباط الحكم الشرعي المناسب له، ما لم يكن المستنبِط حائزا على شروط الاستنباط؟، وهل نسمح هنا بتوسيع العمل بهذه الحجة لإعمالها في ميادين أخرى؟، فيقول التاجر في السوق أنا أفتي لنفسي، ويقول السياسي في الحكم أنا أفتي لنفسي، وهكذا… بحجة أنهم أدرى بواقعهم من الفقهاء؟، وما الحاجة لوجود الفقهاء في الأمة، وندب الشرع إلى سؤالهم باعتبارهم أهل الذكر على هكذا فهم سقيم؟.
وهنا نقر بأنه لا يستغني العالم المفتي القاعد عن المجاهدين في الساحات لمعرفة واقع الميدان, وتعقيدات الوضع الاجتماعي والسياسي المتعلق بالحرب، ولكن ينبغي أن يوازي ذلك، الاقرار بأن بناء التصور عن الواقع يأتي في مرحلة واحدة من مراحل الاجتهاد لتحصبل الفتوى، وهي - أي مرحلة التصوير - تعتبر المرحلة الأولى التي يبنى عليها التصور الكافي للمسألة في ذهن المفتي ثم تأتي بعد ذلك مراحل لا يحسنها كل إنسان بمجرد معرفته بالواقع، منها مرحلة التأصيل بالأدلة ثم مرحلة التكييف الفقهي وصولا إلى مرحلة التنزيل حيث يُنزَّل الحكم على الواقع، فهل يحسن ذلك غير الفقهاء المجودين الذين بذلوا أعمارهم للعلم والجلوس الطويل بين أيدي من سبقهم من العلماء للتعلم والتدرب والتمرن والمشاهدة والمجاهدة؟.
ومن قدر الله تعالى أن وقعت بعض الحالات في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، لتكون علامة ترشد الحيارى وتدل التائهين منها، قصة الصحابي الذي شُج رأسه وأفتاه بعض الصحابة الذين كانوا في المعركة بأن يغتسل من الجنابة، وأنهم لا يجدون له رخصة في التيمم، فاغتسل واشتد مرضه فمات، وسمع بذلك رسول الله وهو البعيد عن المعركة، فقال "قتلوه قتلهم الله..." والحديث رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، فلماذا لم يعتذر لهم رسول الله بأنه اجتهاد من أهل الجهاد، وأنهم أدرى من غيرهم؟!
يتعلل بعضهم كذلك بأن بين أهل الجهاد من بلغ مرحلة الفتيا ولا حاجة لهم بمن هم خارج الميدان، فنسألهم: هل هؤلاء الذين تأخذون فتاواكم عنهم، ممن يُشهد لهم بامتلاكهم شرائط المفتي؟ ومن يشهد لهم؟
وعلى فرض وجود من يشهد لهم، فهل يكفي ذلك مع وجودهم في الميدان أن لا يرجعوا إلى فقهاء الأمة الآخرين؟، خصوصا إن كان من بين هؤلاء من هم أعلى كعبا وأرفع درجة وأقوى سندا من أولئك؟، وعلى فرض أن النافر اجتهد في مسألة ما واستند إلى أدلة بعينها، ثم اكتشف أنها أضعف من أدلة فقيه لم ينفر، ويخالفه الرأي في المسألة بما هو أنفع للأمة والمجاهدين، فهل هو ملزم شرعا بأخذ هذا الرأي أم يتعلل بأنه من أهل الميدان ولا يُعلى على قوله؟!.
قد نقبل هنا قول القائل لا يفتي المفتي القاعد على المفتي المجاهد (إذا تساويا في مرتبة الإجتهاد، وقوة الأدلة التي يُستند عليها) ليستقيم فهم العبارة، وإلا فليس معنى ذلك أن كل مجاهد له حق الفتيا، ففي ذلك مفسدة عظيمة.
أمر آخر يتعلل به أصحاب هذا الرأي، فيقولون، كيف نأخذ الفتوى من وعاظ السلاطين؟، وبعضهم أفتى الظلمة من الحكام بقتل المسلمين؟، فنقول لهم، علينا هنا أن نفرق أولا بين أهل العلم من الثقات لنخرجهم من هذه الدائرة، ولا نتعمد الخلط مثلكم فترمون كل من يخالفكم من المفتين بهذه التهمة، وعندما نحدد القلة من وعاظ السلاطين، ممن امتلكوا العلم ولم تسنده التقوى والورع في قلوبهم، فأكلوا الدنيا بدينهم، سنتفق معكم على عدم أخذ العلم والفتوى عن هؤلاء، فمن كان هذا حاله، لا يأخذ بفتياه قاعد ولا مجاهد لأنه متهم بقلة الدين، فلا يؤتمن بالتوقيع عن رب العالمين، فلماذا هذا التدليس؟، ولمصلحة من هذا الخلط في الأمور؟!.
وقد تناقشت يوما مع أحد الإخوة الفضلاء في هذه المسألة، فذكر إنه سمع من بعض القائلين بهذه المقولة أنهم يقصدون الجهاد بمعناه العام فيدخل في ذلك كل مجاهد بالسيف أو الكلمة أو غيرهما... فأجبته بأن توصيف الجهاد بالكلمة وغيرها لا يندرج تحت الجهاد الذي
  ينصرف الذهن إليه عند سماع الآية التي تتحدث عن الخروج والنفير، ولأن القعود من قولهم (لا يفتي قاعد)، ضده الخروج للجهاد، وجهاد الكلمة لا يتطلب الخروج.
وبهذا المعنى الذي تنقله لا يبقى في الأمة قاعدٌ إلا من نافق في دينه أو أعان الظلمة وشرعن لظلمهم، وإنما المسألة تدور حول مصطلحي القاعد والمجاهد وليس حول سعة مدلول لفظ الجهاد لعدة أنواع باعتباره لفظ جنس، إذ (قاعدتهم) تتحدث عن الجهاد بمدلوله الخاص، وإلا لانتفت حجتهم للاستدلال بها ابتداءً ولزمهم القول بما يقوله فقهاء الأمة.
بقي أن نؤكد على أمر مهم، وهو أن القائلين بهذه المقولة يتعاملون معها بانتقائية، فنراهم يأخذون بعض الفتاوى عن قاعدين ويطيرون بفتاواهم فرحا، متى ما جاءت هذه الفتاوى متوافقة في وجه من الوجوه مع ما يقولون به، بل يعملون على تفخيم وتعظيم القائلين بتلك الفتاوى، وكم رأيناهم مجدوا ببعض السلفيين من أهل العلم، فلما أفتى هؤلاء بما يخالف نهجهم سلقوهم بألسنة حداد وقذعوهم بألفاظ شداد، كما حصل مع الشيخ الحويني والشيخ حامد العلي، وذلك يفضح هؤلاء القوم، ويُظهر أنهم إنما يتبعون أهواءهم، وأنهم إنما تشبثوا بهكذا مقولة واهية ليداروا ضعف حجتهم أمام حجج الفقهاء المتبحرين، فراحوا يقولون كيف نأخذ منكم ولستم من أهل الجهاد؟!.
خلاصة القول أن من يقرأ النصوص ويراجع السِّير فلن يجد لهذه القاعدة سنداً بل القول بإهمالها لا بإعمالها هو الذي تقوم الأدلة عليه، وقد كان من الصحابة ومن بعدهم من فقهاء القرون الخيرية قاعد ومجاهد فما رأينا لهذه ( القاعدة ) أثراً، فهل نتبع المتأخرين ونهمل تقريرات السلف؟
إن هذه (القاعدة) المستحدثة استغلها الكثير من حدثاء الأسنان ومحدودي الأفهام فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وجلبوا على الأمة الطوام، فوجب توضيح أمرها، والله من وراء القصد.



شارك الموضوع

إقرأ أيضًا