حافظوا على الركنين لما بعد العاصفة



د. عمار وجيه
سياسي وباحث

منذ شبابنا كنا نقرأ عن الفتن، لكننا ربما لم نشهد فتنة أشد من فتنة اليوم. وقد يأتي ما هو أسوأ أو تنكشف الغمة.  ونسأل الله أن تكون الثانية ليأتي الفرج.
الأمة ماتزال تتنقل من تيه إلى تيه، لأنها ترغب في التغيير ولا تحسن استخدام وسائله ولا الصبر على مراحله.
تقدمت الأمة خطوات واعدة في القناعة بالحل الإسلامي منذ عقد الثمانينات والتسعينات، ثم تراجعت بعد فتن الاحتلال وظهور مجاميع العنف التي صبت غضبها على الأمة وتركت الأعداء.
استيقظت الأمة لتسقط أوثان الاستبداد، فلم تجد أمامها نموذجاً جاهزاً سوى النموذج الديمقراطي السائد في العالم، ففشلت في تطبيقه بعد أن استدرجت إلى خطط الدولة العميقة، وضلالات المبتدعين والمتشددين، وخداع الغرب المهيمن على المشهد.
اندفعت أمتنا بعد التغيير لتحاسب الفاسدين من أزلام من مضى تحت شعار (من اين لك هذا؟) ثم صعقت بظهور جمع غفير ممن فاقوا منقبلهم فساداً وإفساداً.
كلذلك أدى إلى تراجع مخيف ورغبة جامحة بالعودة إلى الماضي أو الارتماء الكامل في أحضان المجتمع الدولي!

مشاريع التغيير بالمحصلة اصيبت بانتكاسات فاقت الوصف، سيما بعد أن حصل التآمر على المعتدلين، بحسد الخصوم، ولؤم أعداء العقيدة الذي تنبأ به القرآن (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا). فالانقلاب على الشرعية في مصر، ومحاربتها في ليبيا بحفتر ثم داعش، وتمزيق الثورة السورية، وتحريض الحوثيين في اليمن، وتهجير سنة العراق بغية إذلالهم، كانت كلها رسائل واضحة مفادها: لامكان للحل الإسلامي في المنطقة العربية فابحثوا عن تحالفات جديدة تكونون فيها اتباعاً.
وكان من مكر الله سبحانه أن أفشل كل المشاريع في بلداننا وآخرها المشروع الطائفي، ثم
أعجز الغرب عن إقصاء تيارالاعتدال الإسلامي، فلم يبق للمجتمع الدولي سوى لعبة الترويض قبل أن يضطر لمواجهتنا بالسلاح.
ولئن كانت الوسطية عندنا تعني بالضرورة الالتزام بالشريعة بلا إفراط ولاتفريط، فإنما يريده المجتمع الدولي هو الميل نحو التحلل  (وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا). فالنموذج الراقي للفتاة الملتزمة بالحجاب الفضفاض على سبيل المثال، لم يرقْ للآخر الذي أصرّ على خلق صورة ذهنية للشباب أن الحجاب الشرعي أمسى ضرباً من التشدد. لكن لم يعترض أحد على صورة فتاة الجينز التي تكشف بطنها وتكتفي
بربط شعرها بخرقة، ولا وصفه أدعياء (الاعتدال المروض) بأنه تحايل على وسطية الإسلام وتفريغ لمحتواها.
ونفس الحال ينطبق على آباء
أطلقوا العنان لأبنائهم وبناتهم لإشباع غرائزهم قبل الزواج بذريعة تخفيف الكبت. وسرعان ما تطورت المخالفات لتكون مقدمة للمسكرات والمخدرات والصحبة الفاجرة، ثم الانخراط في المافيات ثم خدمة الدولة العميقة. وكأن المطلوب من مجتمعاتنا تقليد دورة حياة حشرة وليس تأسيس بناء أمة يراد لها الاستقامة على الشرع الحنيف.
الأعوام القادمة ستكون أشبه باحتلال كامل للمنطقة العربية بالذات، العسكرة فيه ليست الأسوأ، بل الهيمنة السياسية المعرقلة لاستعادة الإرادة أو اكتساب السيادة، والهيمنة الاقتصادية التي تتحكم بالمفاصل الانتاجية والاستثمارية، والسحر الثقافي الضاغط على العلماء والدعاة بدعاوى الوقاية من احتمالات تشكيل بؤر الإرهاب من جديد.
وقبل اكتمال الصورة الجديدة للاحتلال، كان لإيران تفاعلها وقدمت بديلها الأسوأ فلم تدافع عن قيم الإسلام بل استهدفتها بقتل الحب بسلاح الكراهية، وبدلاً من الإسهام في حفظ ديار المسلمين، منحت الضوء الأخضر للاحتلال فتحول إلى وبال، كما إنها لم تحرص على وحدة الشعوب المسلمة بل زرعت طائفية مقيتة دموية قل مثيلها. ولم يعد في المدى المنظور لإيران أي مستقبل يخدم المنطقة بل صار ت عبئاً كبيراً استعدى العرب والعجم على حد سواء.

إذن ما دور حمَلة الرسالة؟
واحد من ابلغ النصوص القرآنية المحكمة قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَاوَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَاتَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ).
وفيه ركنان أساسيان: إقامة الدين، ونبذ الفرقة: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه). ولكي يتحقق هذان المطلبان، وجب على كل المسلمين في العالم وبالخصوص ذوي الاعتقاد السليم أن يدوروا حولهما.
نشاط الفكر الإسلامي الحديث توسع كثيراً في آخر ربع قرن. وبعد أن كان يعتمد على نخبة محدودة من الرواد، بلغ اليوم عدد الدعاة والباحثين الألوف وتوفرت المواد المعرفية كتباً وتسجيلات ومنشورات هائلة على وسائل التواصل.
(إقامةالدين) بحاجة إلى تفعيل كافة المشاريع النظرية والعملية التي تحمي الدين، ومنها تأسيس وتطوير معاهد الفكر والمساجد والمدارس والجامعات على اسس عقدية ومعرفية راسخة أملاً في توحيد المفاهيم وتقريب الثقافات الإسلامية.
سنحتاج المزيد من الجهد لتبسيط فكر الأولين وانتقاء ماينفع الجيل القادم. سنحتاج المزيد ممن يتقن اللغات الحية سيما الدعاة والمنظرون لتحقيق المزيد من التواصل الحضاري وتصحيح صورة الإسلام التي تشوهت هناك. وتقع المسؤولية عل ىدعاة المشرق والدعاة المغتربين بالتضامن.

(نبذ التفرق) يقتضي الاجتماع على الكليات وتقديم القادة الأكفاء الذين يحرصون على وحدة الأمة وارتقائها.
وإذا كان الغرب يدّعي محاربة التطرف بالانفتاح والليبرالية لنقل الأمة من التطرف الديني إلى التطرف المدني، فإننا الموصوفون بالأمة الوسط أولى منه بذلك ونحقق وسطيتنا بطمر الخلافات التاريخية التي ظهرت على شكل عناوين موهومة بمسمى الصوفية والسلفية والمرجئة والقدرية، وتوارثت النخب تلك المصطلحات ليس لتوحيد الصف والنهوض بالأمة بل لتتجذر الخلافات الموهومة بين أهل السنة والجماعة وتوجَد المبررات لظهور الزعامات. واليوم وإن اختفت بعض تلك الفرق إلا إن عقدة التصنيف مازالت متأصلة فيمعظم بلداننا نتيجة لغياب النخبة القائدة.

الإصرار على إنجاح هذين المطلبين: إقامة الدين ونبذ التفرق سيضمن بإذن الله نهضة سريعة لشباب الأمة بعد أن تمر العاصفة.  

فتح المدينة .. وتحديات المرحلة



رضا الحديثي
باحث وكاتب

حينما نتجول في رحاب السيرة المحمدية ، باحثين في ثناياها عن إجابات لتساؤلات كثيرة ، فلابد ان تكون لدينا وقفات طويلة وعميقة لقصة الانتقال من مرحلة الاستضعاف الى مرحلة الدولة ، لان هذه الانتقالة هي المرحلة الاخطر للعبور من فقه مكة بمراحلها المختلفة الى فقه الدولة بمراحله المختلفة .
ويمكن لنا ان نقف معكم من خلال اداث ماقبل الهجرة عند اربعة اركان هامة ، نرى فيها محاور التهيئة الربانية نحو دولة الرسالة :

الركن الاول : القدر الرباني الذي هيأ مجتمع المدينة لمرحلة قادمة ، فقد قدر الله أن يكون " يوم بعاث " قبل الهجرة بخمس سنين ، ليقتل فيه من أكابر يثرب وأشرافهم  من كان سيستكبر ويأنف أن يدخل في الاسلام كما حصل من عبد الله بن أبي ، فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الإسلام "
 ويشاء الله أن يقود الشباب هذه المرحلة ، فيكون دخول أهل يثرب الاسلام على أيديهم ،وتبدأ بهم مرحلة الدولة القادمة ، فمرحلة التغيير والتجديد مرحلة شبابية بإمتياز  ، ولن يستطيع أن يخوض غمارها كبار السن على فضلهم وصدقهم ، فقوانين التغيير تؤكد ان هؤلاء قد يكونوا من مقاومي التغيير الشرساء لما تعودوه من طريقة في العمل لا يستسيغون الخروج عليها.

الركن الثاني : بيعة إعلان العبودية لله والاستسلام اليه ، وهذا الوصف هو أدقّ  ما يعبر  عن اركان بيعة العقبة الاولى ،  روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏" تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا، فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله ، فأمـره إلى الله ؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عـنه" ‏ ، قــال‏:‏ فبايعناه ـ على ذلك‏.‏
الركن الثالث : التربية القرآنية التي أهَّلت الجيل على مدار سنة ليعلن البيعة الثانية ويؤدي حقها ،فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه, وأمره أن يقرئهم القرآن , ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، فكان مصعب يسمى المقرئ بالمدينة ، وكان منهج مصعب في دعوته وتربيته قرآنياً تختصره كلمته مع أسيد بن حضير ثم نفس الكلمة مع سعد بن معاذ " فقال له مصعب‏:‏ أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره، فقال‏:‏ أنصفت، ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب بالإسلام، وتلا عليه القرآن‏ " ، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون .
الركن الرابع : بيعة إعلان النصرة لله ولرسوله ، وهذه المرحلة كانت النتيجة لكل ما سبق ، حيث تأهل الجيل لحماية الدعوة ، روى الإمام أحمد عن جابر  ،قلنا‏:‏ يا رسول الله ، علام نبايعك‏؟‏ قال‏:‏ "على السمع والطاعة في النشاط والكسل‏.‏ وعلى النفقة في العسر واليسر‏.‏ وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ وعلى أن تقوموا في الله ، لا تأخذكم في الله لومة لائم‏.‏ وعلى أن تنصرونى إذا قدمت إليكم، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة‏" .‏
وقد كان المبايعون على فهم عالٍ بتبعات هذه البيعة فهذا العباس بن عبادة الأنصارى يخاطبهم : " يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل, قالوا: نعم, قال:انكم تبايعونه على حرب الأحمر و الأسود من الناس, فأن كنتم ترون أنكم اذا أنهكت أموالكم مصيبة,وأشرافكم قتلا, أسلمتموه فمن الآن،فهو و الله خزي فى الدنيا و الآخرة ان فعلتم, و ان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه على نهكه الأموال و قتل الأشراف فخذوه, فهو و الله خير فى الدنيا و الآخرة " ، فأجاب الأنصار : نأخذه على مصيبة الأموال و قتل الأشراف, ابسط يدك يا رسول الله لنبايعك فبسط يده فبايعوه.


وهذه الاركان الاربعة بتكاملها هي أقرب الى ان تكون معالم طريق لمرحلة قادمة ، مرحلة تجديد وبناء، ونهضة سيكون لها ما بعدها ، وأحسب ان أقداراً ربانية ساقت الجيل الى مرحلة جديدة ، وأن  في الأمة من اعلن البيعة الأولى ، ومنهم من ينتظر ، والمرحلة الآن مرحلة ( منهاج النبوة ) تربية وفكرا وعملا ، لتكون العقبة الثانية إعلانا حقيقيا يتحمل فيه المصلحون تبعات بيعتهم فتشرق الارض بنور الله ، وتكون دولة الرسالة .

التاريخ .. طريق لإعمار العقول !



عامر ممدوح
باحث واكاديمي
يقول أبو زيد الدباغ ( ت 696 هـ ) في كتابة ( معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان ) وهو يدون تاريخ بناء المسجد الجامع في المدينة على يد القائد الكبير عقبة بن نافع ( ت 63 هـ ) : (( اختلفوا بالقبلة ، فأقاموا أياماً ينظرون مطالع الشمس ومغاربها ، فأغتّم لذلك عقبة ، ودعا الله فأتاه آتٍ في منامه ، وقال له : إذا أصبحت فأحمل لواءك على عاتقك ، فإنك تسمع بين يديك تكبيراً ، لا يسمعه أحداً من المؤمنين غيرك ، فالموضع الذي يقطع عنك التكبير فيه ، فهو مصلاك ، وهو محراب مسجدك )) .
توقفت وانا اقرأ لطلبتي هذا النص قليلاً ، لم يستثيرني موضوع كرامات القائد الكبير قبولاً او رفضاً ، فجهاده يكفي ، وتضحياته أكبر كرامة ودليل على علو المقام ، ولكني تساءلت وأنا وسط قراءتي : إذا كان المسلمون انتظروا اياماً ينظرون مطالع الشمس دون قرار ، فكيف كانوا يؤدون صلاتهم اليومية ، وهم في تلك المرحلة المبكرة التي كانت فيها الصلاة تتمتع بقيمتها ومكانتها ؟!
هل توقفوا عن ادائها طيلة مدة انتظارهم لخيوط الشمس تدلهم على قبلة المسجد ؟ أم كانت لهم سبل اخرى غفل عنها المؤرخون في زحمة الحديث عن الكرامات والمقامات ؟!
مرة أخرى، لا يهمني اللحظة الخروج بنتيجة حول هذه المسألة ، ولكن الذي يهمني الكيفية المطلوبة للتعامل مع الواقعة والخبر التاريخي بالشكل الذي يوافق المنطق وطبيعة الأشياء ، وهو أمر لن يكون بتمحيص سند الرواية لوحدها ، وإنما وفق إعمال العقل الذي يمكننا من اتخاذ القرار النهائي حولها بين القبول أو الرفض ، وتقييمها بين الضعف والقوة !
ان الحدث التاريخي ، منقول عبر رواته ، وهم كما يعلم المختصون بعلم الجرح والتعديل ليسوا على درجة واحدة من الموثوقية والتدقيق ، وإذا كان الحديث النبوي الشريف لأهميته قد التزم في التعامل معه وفق قواعد هذا العلم بصرامة ، فإن تلك الصرامة تكون أخف وطأة دون شك ونحن نتكلم عن تاريخ الشام والعراق ومصر والمغرب والأندلس .
ولو أخذنا على سبيل المثال المحاولة الرائدة لأستاذنا العلامة الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة وتاريخ الخلافة الراشدة وفق قواعد المحدثين ، لوقفنا على عشرات الوقائع التي نجدها اليوم مسلمات وهي تضعف كثيراً أمام هذا الميزان .
وعموماً  .. التاريخ وهو يمثل فرعاً معرفياً مهماً ولازماً في مسارات النهضة المنشودة لا بد أن نعلم كيفية التعامل معه ، فلا نستسلم لمضامينه دون تثبت ، ولا نتقبل ما ينقله لنا الآخرون ، وواحدة من وسائل ذلك التثبت جعل المتلقي يربط بين الأحداث ، ويسلسلها ، وينتقل بكليته إلى ذلك الزمان ، فيركب الجمال ، ويعبر الصحاري ، ويحمل السيف ، ويمر بالمحيط ، مع عمرو وعقبة وطارق وموسى و ... ، وبدون ذلك  لن يكون قادراً بالفعل على التعامل معه ، وتحقيق الافادة المطلوبة منه ، لأنه سيكون فاقداً للقدرة على التركيز والتمييز .
وهنا لا بد أن يكون العلامة ابن خلدون ( ت 808 هـ ) حاضراً بيننا ، حين نبه في مقدمته الشهيرة إلى مغالط المؤرخين ووضع قواعد التعامل مع حوادث التاريخ ، وفي مقدمتها ، تكرار الأخبار بأعيانها من المؤرخين القدماء دون نظر وتمحيص للأخبار ، والجهل بطبائع العمران ( أي المجتمع البشري ) ، والتساهل في إيراد المعلومات ولا سيما ما يتعلق بالأعداد .
كما لا يفوتنا التذكير بمستلزمات دراسة التاريخ كما ثبتها ، وهي : العلم بقواعد السياسة  ، وطبائع العمران ،  والإحاطة بالحاضر من ذلك ، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينها من الخلاف وتحليل المتفق منها والمختلف ، فمن لم يعرف الماضي لم يعرف الحاضر .
هل هذا عمل المختص لوحده ، اهتماماً وممارسة ؟ دون شك أن المختص هو الأولى باتباع هذه القواعد ، والاهتمام بها ، ولكننا جميعاً مدعوون لعدم اهمال ذلك ، لأنه سبيل لتفكير سليم ، وأمة ناهضة ، ترنو للعودة إلى ميدان التأثير والفعل من جديد.
وفي عودة لمثالنا الذي ابتدأنا به  ، نجد أن الدراسات الحديثة كشفت بان محراب مسجد القيروان الذي بناه عقبة ينحرف قليلاً عن الاتجاه الصحيح ( احمد فكري : المسجد الجامع بالقيروان ، ص 22 ) ، وبالتالي بات من القطعي أن لا قيمة للحديث عن انتظار الشمس لعدة أيام كما تقول لنا الرواية المتداولة ، وإلا فكيف تتسق الكرامة مع انحراف القبلة ، وهو بالضبط ما يعزز القول أن ذلك المضمون يتنافى مع طبيعة الأشياء ويتقاطع مع منطقها .


اشكالية الامة ونهضتها بين علماء السلطان، وسلطان العلماء

اشكالية الامة ونهضتها بين علماء السلطان، وسلطان العلماء

اشكالية الامة ونهضتها
بين علماء السلطان، وسلطان العلماء

د.ادريس العيساوي
أكاديمي وباحث
ليس خافيا على اهل الاختصاص وغيرهم: ان الامة تمر باخطر مراحلها ،واحرج اوقاتها، واصعب ظروفها وعلى جميع المستويات العلمية والفكرية ، والاقتصادية ،والاجتماعية ،والسياسية حتى وصل الامر الى محاولة المساس بثوابتها والنيل من مبادئها…

فهناك حملات غير مسبوقة من قبل الاعداء تهدف الى الطعن بمرتكزات الامة العقدية ، والقيمية ، والحضارية ،مدعومة بماكنة اعلامية كبيرة اخترقت الحواضر والبوادي مستخدمة كل وسائل التأثير،واساليب التضليل،والتشويه بمكر لتزول منه الجبال،وقد ساعدهم في تحقيق مآربهم جيوش جرارة من فرق ضالة، وهيئات مشبوهة ،وحكام مستبدين اضافة الى بعض الكتاب والاعلاميين ،والمعممين  ،وحدثاءالاسنان ،وسفهاء الاحلام من مرضى النفوس ،واصحاب الهوى والجهل  من الذين يتزيون بزينا ،ويتكلمون بلساننا بقصد او بغير قصد. 

ومما يؤسف له ان تصدر  مشهد الاصلاح او هكذا روجوا للناس  علماء السلطان الذين يدورون بفلك الحكام ،والمصالح الشخصية الضيقة،اشباعا لنزواتهم وغرائزهم ،مبتعدين كل البعد عن مصالح الامة وآلامها ، وهمومها ، وآمالها ، مما خلقوا اشكالية مركبة متمثلة بعدم قدرتهم على معالجة أسباب انتكاسة الامة مع تزيينهم الباطل حقا ، والهزيمة نصرا ،والمفسد مصلحا ،والخؤون امينا من جهة ،ومن جهة اخرى كانوا سببا في اهتزاز صورة العالم والمصلح في نفوس جماهير الامة وهذا ما سيلقي بآثاره السلبية على محاولات المخلصين في المستقبل القريب
. 
لذا كان لزاما على العلماء الربانيين من ممارسة دورهم ،وسلطانهم  في نهضة الامة من كبوتها ،والمحافظة على هويتها وعقيدتها ، وبث روح الامل  في شبابها من خلال الثبات على المواقف المصيرية ، مهما بلغت التضحيات ، وعظمت الشدائد والمصاعب . 

وهذا ما فعله امام اهل السنة احمد بن حنبل عندما استطاع تثبيت الناس بموقفه وتجلده ،وصبره على الحق رغم قلة الناصر في فتنة خلق القران التي ابتدعها علماء السلاطين، من معتزلة وغيرهم ،وزينوها للمأمون، الا ان الامام احمد بايمانه الصادق ،ويقينه الراسخ حفظ الله به الامة من الانزلاق الى مهاوي  البدع  ، والضلال ليعلن للاجيال ان سلطان العلماء هو الحاكم للامة وجماهيرها ، والقاضي لاشكالاتها، والمدافع عن حقوقها ،وكيانها ،والجامع لشملها، والمحفز لطاقاتها وامكانياتها، لا سلطان الحاكم او علماء  السلطان ،والامثلة كثيرة في تاريخ حضارتنا ،فالامة في ايام المحن ، والفتن ينهض بها العلماء المصلحون الذين تجردوا عن حظوظ انفسهم،واخلصوا عملهم…

فحاجة الامة اليوم الى من يعيد مجدها ،ويرفع شأنها ،ويحافظ على ثوابتها اكثر من اي وقت مضى،ومن وجهة نظري لا يتحقق ذلك الا بسلطان العلماء من خلال ،حل الاشكالات، وتفكيك المنظومات العبثية التي لبست ثوب الدين زورا ،وبهتانا
. 

أدلة إثبات وجود الله تعالى وضرورة التجديد


د. عبد الوهاب أحمد حسن
أكاديمي وباحث

تُعد قضية وجود الله تعالى أهم قضية شغلت الأفكار عبر القرون الماضية السالفة، وفي عصر يظهر من يشكك بوجود الإله، ومن ينكر هذه القضية.
وقد عني علماء الإسلام بهذه القضية عناية كبيرة وأقاموا الحجج والبراهين لإثباتها والاستدلال عليها.
وقد كانت تلك الأدلة والبراهين تناسب العصور الأولى والقرون التي مضت، والذي يقرأ الآن أساليب الأقدمين (رضي الله عنهم) يجدهم قد وفّوا وأدوا ما عليهم من إقامة الحجة وتبيين الحق للناس في زمانهم، ولكن أصبحت أساليب القدامى صعبة الفهم، معقدة العبارة، بعيدة عن شبهات العصر الحاضر، بل أصبح الكثير من طلاب العلوم الشرعية يصعب عليهم فهم العبارات في كتب الكلام لتعقيدها، إضافة إلى أن أدلة القدامى لإثبات وجود الله تعالى أصبحت لا تناسب شبهات الحاضر، ولا أفكار المعاصرين، نعم قد تكون الأفكار الإلحادية هي نفسُها، لكن أصبحت الأدلة الآن أبسط وأسهل مما كانت عليه سابقاً.  
والذي يعنينا في هذا البحث المختصر ذكر أهم أدلة أهل الكلام على وجود الله سبحانه في كتب العقيدة، ثم ذكر أسلوب بعض المعاصرين في التدليل على وجود الرب تعالى، وذكر بعض أدلة المعاصرين.
أهم الأدلة على وجود الله تعالى في كتب القدماء:
الدليل الأول: دليل الحدوث.
وقد بنى المتقدمون الاستدلال على وجود الله سبحانه بحدوث العالم، ودليل حدوثه: أن العالم حادث، وكل حادث له محدِث، فالعالم له محدث([1]).
ثم استدلوا على حدوث العالم بتغيره فقالوا: العالم متغير، وكل متغير فهو حادث، فالعالم حادث([2]).
ويستند علماء الكلام في هذا الدليل على نظرية الحدوث، وهي: أن العالم متغير من حال إلى حال وهو– العالم- مركب من جواهر وأعراض، أو أعيان وأعراض.
قال الباقلاني: ((الجوهر: الذي له حيز. والحيز هو المكان أو ما يقدر تقدير المكان عن أنه يوجه فيه غيره.
والعرض: هو الذي يعرض في الجوهر، ولا يصح بقاؤه وقتين، يدل على ذلك قولهم: عرض لفلان عارض من مرض، وصداع إذا قرب زواله، ولم يعتقد دوامه. ومنه قوله عز وجل: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ))([3]).
ونلاحظ غرابة هذه الطريقة في الاستدلال عن كثير من أفهام المعاصرين، سواء كانت هذه الغرابة في الفكرة أو في الألفاظ والمصطلحات المستخدمة، ولهذا يجد مدرسوا مادة العقيدة وعلم الكلام صعوبة في تبسيط هذه المعاني وتذليلها للطلاب والدارسين.
والدليل على أن كل حادث لابد له من محدث يحدثه، قول الإمام الماتريدي: ((وَأَيْضًا أَن كل عين مُحْتَاج إِلَى آخر بِهِ يقوم وَيبقى من الأغذية وَغَيرهَا مِمَّا لَا يحْتَمل أَن يبلغ علمه مَا بِهِ بَقَاؤُهُ أَو كَيفَ يسْتَخْرج ذَلِك ويكتسب، فَثَبت أَنه بعليم حَكِيم لَا بِنَفسِهِ وَبِاللَّهِ النجَاة والعصمة.
وَأَيْضًا: أَنه لَو كَانَ بِنَفسِهِ لَكَانَ يبْقى بِهِ وَيكون على حد وَاحِد، فَلَمَّا لم يملك دلّ على أَنه كَانَ بِغَيْرِهِ، وَأَيْضًا لَا يَخْلُو كَونه بِنَفسِهِ من أَن كَانَ بعد الْوُجُود، فَيبْطل كَونه بِهِ لما كَانَ مَوْجُودا بِغَيْرِهِ، أَو قبله، وَمَا هُوَ قبله كَيفَ يُوجد نَفسه؟ مَعَ مَا لَو كَانَ بِهِ قبل الْوُجُود لتوهم أَن لايوجد، فَيكون عديماً فَاعِلاً، وَذَلِكَ محَال. وَيشْهد لما ذكرنَا: أَمر الْبناء وَالْكِتَابَة والسفن أَنه لَا يجوز كَونهَا إِلَّا بفاعل مَوْجُود فَمثله مَا نَحن فِيهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق))([4]).
ومعنى كلامه– رحمه الله- أن كل موجود يحتاج إلى موجِد يوجده، ولا بد أن يكون هذا الموجِد متقدماً في وجوده على الموجَد، ولا يُعقل أن يوجد الشيئُ نفسه، لانه كان عدما قبل وجودها، وهذا القول يعنى: أن ننسب إلى المعدوم إرادة وقدرة، وهذا محال.
وتكون النتيجة عندئذ: الرجحان بدون مرجح، وهو محال، يقول الدكتور قحطان الدوري: ((فلو حدث حادث بلا محدِث، للزِمَ أن يترجح وجوده على عدمه بلا مرجِح، وهو مستحيل بالبداهة))([5]).



الدليل الثاني: دليل الخلق والاختراع
ويسمى: دليل العناية والاختراع، وملخص هذا الدليل: أن الله تعالى خلق الخلق وفق عناية خاصة ونظام محكم، وتوازن دقيق، وقد أبدع تعالى هذا الكون من غير سابق صنع مماثل فهو سبحانه المخترع لهذا الكون والمنشئ له وحده.
إنّ دليل الغائية والعناية من الأدلة القوية في إثبات وجود الخالق عز وجل. فالكون كما لاحظه أصحاب الدليل لم يخلقه الله تعالى مصادفة واتفاقاً، إن الله تعالى أودع الكون سننه التي يسير عليها، وجميع المخلوقات تسير وفق نظام متكامل لا مجال فيه للفوضى أو الاضطراب، ولا مجال فيه للعبث أو الاتفاق فالإتقان الكامل، والعناية الشاملة لكل الموجودات تشهدان أن لهذا الكون خالقا ومدبراً حكيماً، نَظَّم الكون وربط بين أجزائه المختلفة بحيث يكمل بعضها بعضا. وقَدَّر الخالق عز وجل كل شيء في هذا الكون تقديرا([6]).
فهذه المخلوقات لابد لها من موجِد، أخرجها من عدَم، وأمدها من عُدم، وآثار هذا الخالق تدل عليه.
وربما يكون هذا الدليل من أوضح الأدلة التي استخدمها المتكلمون، وأبسطها في زماننا هذا، وأقدرها على مجاراة العصر الحديث.
وقد أكّد القرآن الكريم هذا المعنى وكرّره في ثنايا آياته، منها قوله تعالى: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴿٦﴾ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴿٧﴾ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴿٨﴾ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴿٩﴾ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴿١٠﴾ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴿١١﴾ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴿١٢﴾ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴿١٣﴾ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ﴿١٤﴾ لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ﴿١٥﴾ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا)([7])
وقوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ﴿٦١﴾وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)([8]).
ويرى ابن تيمية ان أدلة وجود الله تعالى منحصرة في دليلي العناية والاختراع، فقال: ((فقد بان من هذا أن الأدلة على وجود الصانع تعالى منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية ودلالة الاختراع، وأن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص؛ وأعني بالخواص العلماء، وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل، أعني: أن الجمهور يقتصرون في معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس، وأما العلماء فيزيدون إلى ما يذكرون من هذه الأشياء بالحس ما يدركون بالبرهان أعني من العناية والاختراع))([9]).
الدليل الثالث: دليل الوجوب
وهذا الدليل يقوم على افتراض كون موجد العالم واجباً أو ممكناً أو مستحيلاً، لأن كل أمر لابد أن يتصف بواحد من هذه الثلاث، وتسمى هذه: أقسام الحكم العقلي، وهو: الذي تكون وسيلة إثباته العقل، كإثبات أن الواحد أقل من الأثنين.
فموجد العالم لا يمكن أن يكون مستحيلاً، لأن المستحل هو ما لا يتصور وجوده مطلقاً، كتقدم وجود الولد على الوالد، فلا يتصور وجود المستحيل، بالتالي لا يمكن أن يكون موجد العالم مستحيلاً.
ولا يمكن أن يكون موجد العالم ممكناً، لأن الممكن لا يوجد إلا إذا وُجد سبب وجوده، ولأن وجود الممكن يتوقف على مرجح قائم قبله ليرجح وجوده، وهذا السبب المتقدم إما أن يكون ممكنا أو مستحلاً، فنقول فيه كما قلنا فيما قبله، فلزم أن لا يكون موجد العالم ممكناً.
ولمّا ثبت أن موجد العالم ليس مستحيلاً ولا ممكناً، وجب أن يكون موجد العالم واجب الوجود، وهو الله تعالى، الذي لا يتصور في العقل عدمه([10]).
وبعد ذكر هذه النماذج لأدلة وجود الله تعالى، سأذكر مثالاً معاصراً على إقامة الدليل على وجود الله سبحانه.

التجديد في أدلة وجود الله تعالى:
ومن رواد هذا المنهج الشيخ الدكتور عبد المجيد الزنداني، الذي عرض العقيدة في الله تعالى عرضاً أبهر المسلمين قبل غيرهم، والمؤمنين قبل الملحدين، ذلك أنه اعتمد على أدلة سهلة ومشاهدة بطريقة يفهما أهل هذا العصر فيقول: ((ونعرف وجود الله بطريقين:
أولاً: عن طريق الأدلة المشاهدة في المخلوقات:
وتقوم هذه الأدلة على أسس عقلية لا يخالفنا فيها أحد، مهما كان دينه أو جنسه أو علمه أو مكانته وهذه هي الأسس:
العدم لا يفعل شيئاً:
فمن المستحيل أن يوجد فعل بدون فاعل، ومن المستحيل أن يفعل العدم شيئاً لأنه لا وجود للعدم.
الفعل مرآة لبعض قدرة فاعله وبعض صفاته:
إن بين الفعل والفاعل علاقة قوية، فالفاعل هو المقدمة، والفعل هو النتيجة ولا يكون شيء في الفعل ليس للفاعل قدرة على فعله. فمثلاً: إذا نظرنا إلى مصباح كهربي عرفنا: أن لدى صانع ذلك المصباح زجاجاً، وأن الصانع يقدر على تشكيل ذلك المصباح في الشكل الذي تراه (شكل كرة)، وأن لدى الصانع أسلاكاً من (التنجستن) ذلك لأنه من المستحيل وجود المصباح بزجاجة وأسلاك (التنجستن) التي فيه دون أن يكون له قدرة على تشكيل الزجاج والتنجستن في الشكل الذي تراه في المصباح.
وإذا تأملت جيداً إلى المصباح وتفكرت: ستجد الإحكام في الصنع يحدث عقلك أن صانع المصباح حكيم، وسترى التصميم الكهربائي يشهد لك أن الصانع خبير بالكهرباء.
وإذا شاهدنا سيارة متحركة، تسير في الطرقات المعبدة، وتتحرك عند اللزوم، وتتوقف في المكان المعلوم، وتدور في المكان المعد للدوران عرفنا: أن سائق السيارة عاقل مفكر، وأن له إرادة حكيمة أحكمت توجيه السيارة، وأنه على علم بطريقة قيادة السيارة، وأنه موجود. فلولا وجوده ما تحركت السيارة تلك الحركات المنظمة الدقيقة.
·      هناك علاقة محكمة بين المصنوع والصانع، والفعل والفاعل.
·      لا يكون شيء في المصنوع أو الفعل إذا كان الصانع أو الفاعل لا يملك قدرة أو صفة تمكنه من فعل ذلك الشيء في مصنوعه أو فعله.
·      كل شيء في المصنوع أو الفعل يدل على قدرة أو صفة الصانع أو الفاعل.
·      المصنوع أو الفعل مرآة لبعض قدرة الفاعل وبعض صفاته.
إذن: إذا تفكرنا في أي مصنوع أو فعل عرفنا منه بعض صفات صانعه أو فاعله وبعض قدرته.
وكذلك: إذا تفكرنا في المخلوقات عرفنا منها بعض صفات الخالق وبعض قدرته سبحانه.
وهكذا عرفنا بعضاً من قدرة الصانع والسائق وصفاتهما من الآثار المشاهدة لأفعالهما أمامنا، وبهذا كان الفعل مرآة لقدرة فاعله وبعض صفاته.
فاقد الشيء لا يعطيه:
فنحن إذا شاهدنا مقتولاً في الشارع فإن أحداً منا لا يدعو إلى إلقاء القبض على حجرة بجواز القتيل بتهمة القتل، لأنها لا تملك القدرة على الفعل، كما أن الواحد منا لا يزعم بأن حيواناً لا يعقل قد أطلق قمراً صناعياً يدور حول الأرض؛ لأن الحيوان لا يملك القدرة على إطلاق ذلك القمر. وهكذا يحكم العقل حكماً جازماً بأن ليس الفاعل من لا يملك القدرة على الفعل. وفاقد الشيء لا يعطيه.
تطبيق الأسس العقلية:
1.  فإذا طبقنا الأساس الأول: (العدم لا يخلق شيئاً) وشاهدنا ملايين الملايين من الأحداث تحدث كل يوم في هذا الكون الفسيح جزمت عقولنا بأن لكل فعل منها فاعلاً لأن العدم لا يخلق شيئاً.
( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴿٣٥﴾ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ) [الطور:35، 36].
2.  وإذا طبقنا الأساس الثاني: الفعل مرآة لبعض قدرة فاعلة وبعض صفاته وجدنا أن هذه الأفعال والأحداث:
·      محكمة في نظامها تشهد أنها من صنع حكيم.
·      موجهة في سيرها تشهد أنها من صنع مريد.
·      عظيمة في تكوينها تشهد أنها من صنع عظيم.
·      متناسقة في أعمالها مترابطة في خلقها تشهد أنها من صنع الواحد الأحد.
·      خاضعة لنظام موحد تشهد أنها من صنع حاكم مهيمن.
فتجزم كل العقول بأن خالق هذه المخلوقات: حكيم، عليم، خبير.. الخ.
الوجود:
(أ) وإذا شاهدنا هذا الملكوت البديع وجدناه دائماً في سيره، مستمراً في نظامه، فيشهد ذلك لكل صاحب عقل، أن حاكمه المهيمن على سيره، المسيطر على نظامه الثابت المتنوع لا شك موجود دائم.
قال تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )[الزخرف: 87].
قال تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [العنكبوت:61] .
قال تعالى: (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[المؤمنون: 84].
قال تعالى: (قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) [المؤمنون:88].
قال تعالى: (قُل مَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ أَمَّن يَملِكُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَمَن يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمرَ فَسَيَقولونَ اللَّـهُ فَقُل أَفَلا تَتَّقونَ) [يونس: 31].
(ب) إن الصفات السابقة، التي عرفنا أنها صفات لخالق الكون (حكيم، عليم، خبير، مريد، عظيم، واحد، أحد، حاكم، مهيمن)، إن هذه الصفات لا تكون صفات لمعدوم إنما هي صفات لا شك للخالق الموجود الدائم.
3.  وإذا طبقنا الأساس الثالث: فاقد الشيء لا يعطيه نجد أنه:
((لا يوجد بين هذه المخلوقات من يتصف بأنه: الحكيم، العليم، الخبير، المريد، العظيم، الواحد، الأحد، الحاكم، المهيمن، الموجود، الدائم.
إذن: خالق الكون هو غير الكون المخلوق. هو: الحكيم، الخبير، المريد، العظيم، الواحد، الأحد، الحاكم، المهيمن، الخالق، الموجود، الدائم.
قال تعالى: (هُوَ اللَّـهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [الحشر:24].
وهكذا نجد أن الطريق الأول لمعرفة الله هو التفكر في مخلوقاته. فكلما ازداد الإنسان علماً بمخلوقات الله وأسرار خلقها ازداد إيماناً. لذلك حث الإسلام إلى التفكر وحض على العلم المفيد وأشار خاصة إلى العلوم الكونية التي تبحث في أسرار خلق الله))([11]).
وبهذا الطرح السهل والعرض المبسط وجدنا العديد من مفكري الغرب والشرق يتسابقون إلى الإسلام، وجدنا الكثير من الشباب المفتون بالفكر الغربي يعود إلى دينه ويفخر بعقيدته التي تتحدث بلغة العلم والنظريات والتحدي العلمي والمعرفي.
دليل التحدي في الخلق:
ومن أوضح أدلة وجود الله تعالى هو الخلق، فهل من خالق غير الله؟ هذا السؤال الذي كرره القرآن الكريم مراراً، يأتي العلامة الزنداني ليجدد طرحه بأسلوب علمي، فيقول: ((إذا تأملنا في شتى أرجاء الكون لا نجد إلا مخلوقات عاجزة لا علم لها ولا إرادة ولا خبرة ولا دوام ولا هداية، فعرفنا أنها مخلوقات محتاجة إلى خالق حكيم عليم خبير يختلف عنها في الذات والصفات، تحتاج إليه جميع المخلوقات، وهو الغني الصمد الذي لا يحتاج لأحد هو الله سبحانه. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴿٧٣﴾ مَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)([12]). وقال تعالى: (وَالَّذينَ يَدعونَ مِن دونِ اللَّـهِ لا يَخلُقونَ شَيئًا وَهُم يُخلَقونَ)([13])))([14]).
وليس ذلك فحسب، بل تحدى الله تعالى كل الناس بهذا المخلوق الحقير– الذباب- بأنهم لن يخلقوا ذباباً، ومع ذلك: لو سلبهم الذباب شيئاً لا يستطيعون استرجاعه منه بعد أخذه، فهل بعد هذا التحدي من دليل على ضعف البشر وعجزهم؟! فهاهم البشر لا يستطيعون خلق ذبابة وسيبقى هذا التحدي قائماً إلى قيام الساعة.
ثم يأتي العلم الحديث ليثبت أن الذباب إذا اراد أن يلتقط شيئاً فإنه أولاً يصب عليه من لعابه فيتحول إلى مادة أخرى تماماً، فإذا أراد إنسان استرجاع ما أخذ الذباب لا يستطيع لأنه قد استحال إلى مادة أخرى.
فكيف بما هو أكبر وأعظم شأناً؟
يقول الزنداني: ((نعم: والبشر يعجزون عن استرداد أي شيء يأخذه الذباب، لأنه بمجرد أخذه يصب عليه من لعابه، فيحوله من فوره شيئاً آخر لا تنفع استعادته.
إن الحياة التي وهبت، وتوهب على الدوام في الكائنات الحية، لا تكون إلا من الحي الدائم سبحانه))([15]).





([1]) ينظر: المواقف للإيجي لعضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي الشافعي (ت756هـ)، ومعه: شرح المواقف، للسيد الشريف علي بن محمد بن علي الجرجاني (ت 816هـ)، ط/1 بمطبعة السعادة بمصر سنة 1907م، 8/2، والمسامرة شرح المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة لابن الهمام الحنفي تأليف كمال الدين محمد بن محمد بن ابي بكر بن علي بن أبي شريف (ت905هـ)، ط/1 دار الكتب- بيروت، 1423هـ- 2002م، ص 17.
([2]) ينظر: شرح جوهرة التوحيد، المسمى: تحفة المريد على جوهرة التوحيد، لبرهان الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد الجيزاويالباجوري الشافعي، (ت1276هـ)، تحقيق: د. علي جمعة محمد الشافعي، ط/1، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، سنة 1422هـ= 2002م، ص104.
([3]) الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب بن محمد الباقلاني البصري، (ت 403هـ) تحقيق محمد زاهد الكوثري المتوفى 1371هـ = 1952م، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الشركة الدولية للطباعة القاهرة، ط/4، 1421هـ، 2001م، ص30.
([4]) التوحيد محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي (المتوفى: 333هـ) المحقق: د. فتح الله خليف، دار الجامعات المصرية– الإسكندرية، ص 18.
([5]) العقيدة الإسلامية ومذاهبها، تأليف الأستاذ الدكتور قحطان عبد الرحمن الدوري، ط/ الثانية، سنة 1432هـ- 2011م، عن: كتاب– ناشرون، بيروت– لبنان، ص281.
([6]) دراسات في التصوف والفلسفة الإسلامية، تأليف: الدكتور صالح الرقب- الدكتور محمود الشوبكي، قسم العقيدة- كلية أصول الدين- الجامعة الإسلامية- غزة، ط/1، 1427هـ- 2006م، ص260.
([7]) النبأ: ٦- ١٥.
([8]) الفرقان: ٦١–٦٢.
([9]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف- المدينة المنورة، ط/1، سنة: 1426هـ، 2/193.
([10]) ينظر: شرح المواقف للسيد الجرجاني: 8/4، شرح العقيدة النسفية لشيخنا الدكتور عبد الملك عبد الرحمن السعدي، طبع مكتبة دار الأنبار– بغداد/ العراق، ط/1، 1408هـ= 1988م، ص49.
([11]) كتاب توحيد الخالق للدكتور عبد المجيد عزيز الزنداني، دار ابن كثير- دمشق، ط/1، 1/25.
([12]) الحج: 73، 74.
([13]) النحل:20.
([14]) كتاب توحيد الخالق، للدكتور عبد المجيد الزنداني 1/326.
([15]) كتاب الإيمان للشيخ عبد الحميد الزنداني، من إصدارات جامعة الإيمان، في صنعاء، سنة 2013، ص13.