التاريخ .. طريق لإعمار العقول !



عامر ممدوح
باحث واكاديمي
يقول أبو زيد الدباغ ( ت 696 هـ ) في كتابة ( معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان ) وهو يدون تاريخ بناء المسجد الجامع في المدينة على يد القائد الكبير عقبة بن نافع ( ت 63 هـ ) : (( اختلفوا بالقبلة ، فأقاموا أياماً ينظرون مطالع الشمس ومغاربها ، فأغتّم لذلك عقبة ، ودعا الله فأتاه آتٍ في منامه ، وقال له : إذا أصبحت فأحمل لواءك على عاتقك ، فإنك تسمع بين يديك تكبيراً ، لا يسمعه أحداً من المؤمنين غيرك ، فالموضع الذي يقطع عنك التكبير فيه ، فهو مصلاك ، وهو محراب مسجدك )) .
توقفت وانا اقرأ لطلبتي هذا النص قليلاً ، لم يستثيرني موضوع كرامات القائد الكبير قبولاً او رفضاً ، فجهاده يكفي ، وتضحياته أكبر كرامة ودليل على علو المقام ، ولكني تساءلت وأنا وسط قراءتي : إذا كان المسلمون انتظروا اياماً ينظرون مطالع الشمس دون قرار ، فكيف كانوا يؤدون صلاتهم اليومية ، وهم في تلك المرحلة المبكرة التي كانت فيها الصلاة تتمتع بقيمتها ومكانتها ؟!
هل توقفوا عن ادائها طيلة مدة انتظارهم لخيوط الشمس تدلهم على قبلة المسجد ؟ أم كانت لهم سبل اخرى غفل عنها المؤرخون في زحمة الحديث عن الكرامات والمقامات ؟!
مرة أخرى، لا يهمني اللحظة الخروج بنتيجة حول هذه المسألة ، ولكن الذي يهمني الكيفية المطلوبة للتعامل مع الواقعة والخبر التاريخي بالشكل الذي يوافق المنطق وطبيعة الأشياء ، وهو أمر لن يكون بتمحيص سند الرواية لوحدها ، وإنما وفق إعمال العقل الذي يمكننا من اتخاذ القرار النهائي حولها بين القبول أو الرفض ، وتقييمها بين الضعف والقوة !
ان الحدث التاريخي ، منقول عبر رواته ، وهم كما يعلم المختصون بعلم الجرح والتعديل ليسوا على درجة واحدة من الموثوقية والتدقيق ، وإذا كان الحديث النبوي الشريف لأهميته قد التزم في التعامل معه وفق قواعد هذا العلم بصرامة ، فإن تلك الصرامة تكون أخف وطأة دون شك ونحن نتكلم عن تاريخ الشام والعراق ومصر والمغرب والأندلس .
ولو أخذنا على سبيل المثال المحاولة الرائدة لأستاذنا العلامة الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة وتاريخ الخلافة الراشدة وفق قواعد المحدثين ، لوقفنا على عشرات الوقائع التي نجدها اليوم مسلمات وهي تضعف كثيراً أمام هذا الميزان .
وعموماً  .. التاريخ وهو يمثل فرعاً معرفياً مهماً ولازماً في مسارات النهضة المنشودة لا بد أن نعلم كيفية التعامل معه ، فلا نستسلم لمضامينه دون تثبت ، ولا نتقبل ما ينقله لنا الآخرون ، وواحدة من وسائل ذلك التثبت جعل المتلقي يربط بين الأحداث ، ويسلسلها ، وينتقل بكليته إلى ذلك الزمان ، فيركب الجمال ، ويعبر الصحاري ، ويحمل السيف ، ويمر بالمحيط ، مع عمرو وعقبة وطارق وموسى و ... ، وبدون ذلك  لن يكون قادراً بالفعل على التعامل معه ، وتحقيق الافادة المطلوبة منه ، لأنه سيكون فاقداً للقدرة على التركيز والتمييز .
وهنا لا بد أن يكون العلامة ابن خلدون ( ت 808 هـ ) حاضراً بيننا ، حين نبه في مقدمته الشهيرة إلى مغالط المؤرخين ووضع قواعد التعامل مع حوادث التاريخ ، وفي مقدمتها ، تكرار الأخبار بأعيانها من المؤرخين القدماء دون نظر وتمحيص للأخبار ، والجهل بطبائع العمران ( أي المجتمع البشري ) ، والتساهل في إيراد المعلومات ولا سيما ما يتعلق بالأعداد .
كما لا يفوتنا التذكير بمستلزمات دراسة التاريخ كما ثبتها ، وهي : العلم بقواعد السياسة  ، وطبائع العمران ،  والإحاطة بالحاضر من ذلك ، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينها من الخلاف وتحليل المتفق منها والمختلف ، فمن لم يعرف الماضي لم يعرف الحاضر .
هل هذا عمل المختص لوحده ، اهتماماً وممارسة ؟ دون شك أن المختص هو الأولى باتباع هذه القواعد ، والاهتمام بها ، ولكننا جميعاً مدعوون لعدم اهمال ذلك ، لأنه سبيل لتفكير سليم ، وأمة ناهضة ، ترنو للعودة إلى ميدان التأثير والفعل من جديد.
وفي عودة لمثالنا الذي ابتدأنا به  ، نجد أن الدراسات الحديثة كشفت بان محراب مسجد القيروان الذي بناه عقبة ينحرف قليلاً عن الاتجاه الصحيح ( احمد فكري : المسجد الجامع بالقيروان ، ص 22 ) ، وبالتالي بات من القطعي أن لا قيمة للحديث عن انتظار الشمس لعدة أيام كما تقول لنا الرواية المتداولة ، وإلا فكيف تتسق الكرامة مع انحراف القبلة ، وهو بالضبط ما يعزز القول أن ذلك المضمون يتنافى مع طبيعة الأشياء ويتقاطع مع منطقها .


شارك الموضوع

إقرأ أيضًا