جرعة تفاؤل



د. يوسف السامرائي
أكاديمي وباحث

بمقتل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فتح باب الفتن .
وبدأت الأمة الإسلامية تخوض صراعا من نوع آخر، في المجال الفكري والقيمي الأخلاقي والشمولي ، فظهر أهل الأفكار المنحرفة والمختلقة ، كل يقول حسب هواه ،وعلى أفضل تقدير حسب رأيه القاصر. ويخوض في مجالات الغيب التي تكفل الله للأمة بايضاح ما تحتاج إليه منه وسكت عما لا نفع فيه للأمة في الدارين. فخاضوا فيه.
وتركوا شيئا فشيئا عالم الشهادة الذي نحن مطالبون بالتفكير فيه واستعماره، فتفرقت الأمة - كما أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاث وسبعين فرقة .
فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. وفي بعض الروايات: هي الجماعة. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
فظهرت الطوائف التي بدأت تبث سمومها وتنخر في جسم الأمة،  من حيث يدري أصحابها ومن حيث لايدرون ، ومن حيث يقصد أصحابها ذلك ومن حيث لا  يقصدون.
وكان علماء الأمة العاملون المخلصون يذودون عن حمى الإسلام، في كل مكان وزمان من ساحات المساجد إلى سوح الوغى، بالعلم الصحيح والعمل والقلم واللسان والسنان وبالثبات على منهج السلف في العقيدة والفهم والعمل والسلوك .
حتى أناروا سماء الأمة وأوضحوا سبيل الهدى.
 كلما عفت آثاره وتاه الناس عن رسومه وكلما اشتبهت الأمور وتداخلت الحدود: بعث الله لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها .
فإذا بالأمة تمور مورا، وإذا بها تنتفض فيسقط عن جسدها ركام الضعف وغبار الوهن ، فإذا هي تسير سيرا نحو المجد وتزحف جيوش الموقنين بهديها نحو الثريا،  بعقيدة أبيض من اللبن وأحلى من العسل .
فمن عمر بن عبد العزيز إلى الشافعي إلى أحمد بن حنبل والمحاسبي والجنيد البغدادي إلى أبي الحسن الأشعري والطبري الى الغزالي والكيلاني والرفاعي وصلاح الدين والعز بن عبد السلام وابن تيمية. وألب أرسلان . هؤلاء الأئمة الأعلام،  وغيرهم كثير، يسلم بعضهم بعضا راية الإتباع لمنهج النبوة، وفق فهم ومنهج السلف الصالح، وراية التجديد والإبداع.  ورد الشبهات وانتحال المنتحلين وباطل المبطلين. وبعضهم كان إماما في السيف والجهاد ونشر العدل.
فكانت الأمة تقف شامخة تارة وتكبو تارة وتحبو تارة أخرى ، لكنها لم تمت ولم تستبح . ولكن مؤشر الإنحراف عن هدي النبوة بدأ يزداد ، وبدأت الأمة الإسلامية تفقد صفة من أهم صفات فكرها ومبادئها، وهي الشمولية .
فعالم بالشريعة بلا سلوك اخلاقي في مجال الروح.
ومستصوف امتلأ بالبدع والخرافات من مشاشة رأسه إلى اخمص قدمه ، لا يعرف الحلال من الحرام.
ومفكر جمد على النصوص فتحجر وآخر انطلق يلوي أعناق النصوص لتوافق فلسفة الإغريق واليونان.
وجندي لا يعرف من دينه سوى الشهادتين ، وتاجر يجمع المال من أجل المال ولا يعرف حق الله ولا حق الفقير، وسلطان لا يفكر إلا في كرسيه وخدمه وسلطنته فتفككت منظومة الأمة الإسلامية وفقدت شموليتها وتكاملها ، مما أدى إلى فقدانها سر قوتها . ولعل هذا ما يفسر سبب اجتياح المغول لحواضر الأمة الإسلامية وممالكها ، بسرعة وسهولة.
لأنهم لم يجدوا البنيان المرصوص الذي كان يشد بعضه بعضا.
بل منظومات مفككة فقدت اواصر تواصلها وترابطها وتكاملها. ( وللخلافة العثمانية حال قريبة من ذلك وإن كان مختلفا).
ولعل هذا أيضا هو السبب الذي جعل حركات الجهاد والتحرر القوية في العصر الحديث ، التي قادها أبطال عظام أمثال عمر المختار وعبد الكريم الخطابي وعبد القادر الجزائري ، الذين  سطروا ملاحم الجهاد والعز وأذلوا دولا عظمى مثل فرنسا وايطاليا والبرتغال. لكنهم لم يستمروا ودولهم لم تدم، لأن الأمة لم تتكامل في سلوكها وعملها وعلمها وتقدمها.
كل ذلك ، وغيره، دفع علماء الأمة إلى التفكير في أسباب الضعف والقوة والتشرذم والوحدة والذل والعز.

فظهرت حركات ودعوات الصحوة والتجديد ولم الشمل وايقاظ الأمة الإسلامية وبث الأمل والدعوة للعمل للعودة بالأمة إلى سابق عهدها وأيام عزها . .. وللحديث بقية.

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا