من قضايا الشورى



د. عبد الكريم العاني


اكاديمي وباحث
الشورى في اللغة: الشُّورَى والمَشُورَة بضم الشين مصدر "والشين والواو والراء أصلان مطَّردان، الأوَّل منهما إبداء شيء وإِظْهارُهُ وعَرْضه، والآخر أخْذ شيء،... من هذا الباب شاورتُ فلاناً في أمري،... فكأنَّ المستشير يأخذ الرأيَ من غيره"([1])، ومنها قوله U: } وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ{([2])، "وتقول منه شَاوَرْتُه في الأَمر واسْتشرته بمعنى، وفلان خَيِّرٌ شَيِّرٌ أَي يصلُح لِلْمُشاورَة وشاوَرَه مُشاوَرَة وشِوَاراً واسْتَشاره طَلَب منه المَشُورَة"([3]).
وفي الاصطلاح: "هِيَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْأَمْرِ لِيَسْتَشِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ وَيَسْتَخْرِجَ مَا عِنْدَهُ"([4])، وقد حض الله سبحانه وتعالى نبينا محمد r على الشورى بقوله عزَّ من قائل:}وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ{([5])، مع أن رسول الله r مؤيدٌ بالوحي لكن تفهيما لنا وتعليما، فالشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام([6])، وعن عليٍّ t قال: "سُئل رسول الله r عن العَزْم؟ قال r: "مُشَاوَرَةُ أهْلِ الرَّأْي ثُمَّ اتِّبَاعُهُمْ"([7])، بمعنى إذا شاورتهم في الأمر وعزَمْت عليه فتوكل على الله فيه([8]).
كذلك لأهمية الشورى في حياة المسلم هناك سورة في القرآن الكريم سميت بسورة الشورى، والشُّورَى "أُلْفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَمِسْبَارٌ لِلْعُقُولِ، وَسَبَبٌ إلَى الصَّوَابِ، وَمَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إلَّا هُدُوا"([9]). فالشورى في الاصطلاح إذن لا تختلف من حيث المضمون عن المعنى اللغوي.
vمن هم أهل الشورى: يرى ابن خلدون([10]) رحمه الله تعالى إن أهل الشورى وأهل الحل والعقد لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حل أو عقد أو فعل أو ترك. وأما من لا عصبية له ولا يملك من أمر نفسه شيئا ولا من حمايتها فلا مدخل له في الشورى أو أي معنى يدعو إلى اعتباره فيها، اللهم إلا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشرعية وهذه موجودة في الاستفتاء خاصة، وأما شوراه في السياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية والقيام على معرفة أحوالها وأحكامها"([11])، ومع ذلك فقد اشترط الإمام الغزالي رحمه الله تعالى على صاحب الشورى أن يكون أهلا لفهم الكتاب والسنة([12])، أما صاحب كتاب المنهج المسلوك في سياسة الملوك فقد وضع سبعة شروط لأهل الشورى كلها تقع ضمن دائرة المصلحة العامة وسد الذرائع: وهي الفطنة والذكاء، والأمانة، وصدق اللهجة، وعدم التحاسد والتنافس فيما بينهم، وأن يسلموا فيما بينهم وبين الناس من العداوة والشحناء، وأن لا يكونوا من أهل الأهواء، والسابعة يتفق فيها مع ابن خلدون في مقدمته وهي أن يكونوا من كبار الدولة ومشايخ الأعوان([13]).
 الذي أراه أن هذه الشروط شروطٌ عامة راعت الجانب الفني والأخلاقي بشكل عام، لذلك لم تذكر الشروط الخاصة للمشاور وهو التخصص في المجال الذي يستشار فيه، مثال ذلك أن سيدنا الفاروق t جعل الشورى في ستة من كبار الصحابة ممن اشتهر بالفتوى([14])، فكان ذلك شرطاً خاصاً في تلك المسألة، ومنها أيضاً إن القائد العسكري يشاور من له خبرة عسكرية وافية في أن يكون خبيرا في مجاله، مثاله أن رسول الله r أستشار في غزوة بدر الحباب بن المنذر([15])t وكان له رأي في الحرب والمكيدة، لذلك قال له رسول الله r: "لقد أشرت بالرأي"([16])
حكم الشورى: أُختُلِفَ في حكم الشورى بين الفقهاء هل هي واجبة أم مندوبة؟
فريق يرى أنها واجبة، وهو قول النووي([17]) رحمه الله تعالى من الشافعية وابن خويزمنداد([18]) من المالكية الذي يقول: "واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها([19])، مستنداً في ذلك لقول الله تعالى: } وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ[([20])، فالأمر هنا يفيد الوجوب، وفي ذلك يقول ابن عطية رحمه الله تعالى: "من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب"([21]). وأيدهم في ذلك من العلماء المحدثين الدكتور محمد الدريني بقوله:" أن الله U ذكر الصلاة والزكاة وقرن بهما الشورى، والصلاة والزكاة من أركان الإسلام فدل ذلك على أنها ركن من أركان الحكم في الإسلام"([22]).
وفريق يرى أنها مندوبة مستدلاً بنفس الدليل السابق من قوله تعالى} وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ[([23])، وقالوا أن الأمر يفيد الندب لا الوجوب، معللين ذلك إن مشورة الرسول r إنما كانت لتطيب النفوس ورفع الأقدار، يقول U: }فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ{([24]) كذلك لاستغناء رسول الله r عن المشورة لتأييده بالوحي، فهو r لا ينطق عن الهوى، وهو معصوم من جهة التبليغ والتطبيق ومن المعصية، وفي ذلك يقول ابن القيم: "اسْتِحْبَابُ مَشُورَةِ الْإِمَامِ رَعِيّتَهُ وَجَيْشَهُ اسْتِخْرَاجًا لِوَجْهِ الرّأْيِ وَاسْتِطَابَةً لِنَفُوسِهِمْ وَأَمْنًا لِعَتَبِهِمْ وَتَعَرّفًا لِمَصْلَحَةٍ يَخْتَصّ بِعِلْمِهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ الرّبّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: }وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ{([25])وَقَدْ مَدَحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِبَادَهُ بِقَوْلِهِ: }وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ{([26])"([27]).
فالأمر الوارد في القرآن بشأن الشورى قد أقترن بقرينة تدل على عدم الجزم اللازم لتعين الحكم في الوجوب، وذلك ظاهر في كون الشورى لا تكون إلا في الأمور المباحة ([28]) ومدح الله سبحانه وتعالى للمشاور قرينة تصرف الوجوب إلى الندب، لأن المدح قرينة على أن فعلها مرجح على عدم فعلها، فكان ذلك دليل على إن الشورى مندوبة للحاكم وليست واجبة. والله تعالى أعلم.
الذي أراه _والله تعالى أعلم_ أنَّ الشورى تكون في بعض المواضع واجبة خصوصا ما فيه تقرير مصير أمة أو بلد، أو الأمور ذات الطابع العام التي فيها من الخطورة ما فيها كإعلان الحرب وإقامة المعاهدات بعيدة المدى.
وتكون مندوبة في بعض المواضع ذات الطابع الخاص التي يمكن للحاكم أن يستأثر بالأمر فيها.




([1]) ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، باب الشين والواو وما يثلثهما، 3/175.
([2]) سورة الشورى، جزء من آية 38.
([3])ابن منظور: لسان العرب، فصل الشين باب الألف، 4/437؛ الفيروز آبادي: القاموس المحيط، باب الألف فصل الشين، 1/540.
([4]) ابن عربي محمد عبد الله أبو بكر (468-543هـ)، أحكام القرآن، تح: محمد عبد القادر عطا، (د.ط، دار الفكر للطباعة، بيروت، د.ت)، 1/389.
([5]) سورة آل عمران، جزء من آية 159.
([6]) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 4/149.
([7]) ذكره ابن كثير في تفسيره للقرآن الكريم عن ابن مردويه، 3/150.
([8])ينظر:المرجع السابق، 3/150.
([9]) ابن عربي: أحكام القرآن، 1/389.
([10]) وهو عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون المؤرخ الفيلسوف ورائد علم الاجتماع الحديث الذي ترك تراثا مازال تأثيره ممتدا حتى اليوم، ولد في تونس سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة للهجرة، تنقل بين فاس وغرناطة وتلمسان والاندلس ومصر وتولى أعمالا، اشتهر بكتابه العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر، وفيها المقدمة التي تعد من أصول علم الاجتماع وقد ترجمت لعدة لغات، ومن مؤلفاته الأخرى (شرح البردة) وكتاب في (الحساب) ورسالة في (المنطق) و (شفاء السائل لتهذيب المسائل)، توفي رحمه الله تعالى في مصر سنة ثمان بعد الثمانمائة للهجرة.
ينظر:: الزركلي: الأعلام، 3/330.
([11]) ينظر:: ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد الحضرمي(732-808هـ)، المقدمة، (ط5، دار القلم، بيوت، 1984)، ص 224.
([12])الإمام الغزالي: المستصفى، ص 144.
([13])الشيزري عبد الرحمن بن عبد الله بن نصر (ت_589هـ)، المنهج المسلوك في سياسة الملوك، تح: علي عبد الله الموسى، (ط1، مكتبة المنار، الزرقا، الأردن، 1978م)،ص483.
([14]) الغزالي: المنخول، ص 469؛ ابن قدامة المقدسي: روضة الناظر، ص 138.
([15]) وهو الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري الخزرجي، أبو عمر ويكنى بذي الرأي t، شهد بدرا، توفي t في خلافة الفاروق t.
ينظر:: ابن سعد: الطبقات الكبرى، 3/567؛ ابن عبد البر: الإستيعاب، 1/316؛ ابن حجر: الإصابة، تر (1554)، 2/10.
([16])ابن هشام عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري أبو محمد (ت_213هـ)، السيرة النبوية المعروفة بسيرة أبن هشام،  تح: طه عبد الرؤف سعد، (ط1، دار الجيل، بيروت، 1411هـ)، 1/620؛ أبن القيم أبو بكر محمد بن أبي بكر بن أيوب الدمشقي أبو عبد الله (691-751هـ)، زاد المعاد في سيرة خير العباد، تح: شعيب الأرناؤوط، عبد القادر الأرناؤوط، (ط14، مؤسسة الرسالة_مكتبة المنار، بيروت، الكويت، 1405هـ_1986هـ)، 3/240؛ ابن كثير إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي أبو الفداء(ت- 774هـ)، السيرة النبوية، 3/402.
([17]) وهو الفقيه الأصولي الحافظ الزاهد أحد الأعلام شيخ الإسلام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري بن حسن الحزمي الدمشقي الشافعي ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة للهجرة، اشتهر بزهده وسعة علمه وكثرة تصانيفه في علوم كثيرة، منها الأذكار، ورياض الصالحين وشرح صحيح مسلم، والمجموع، توفي رحمه الله تعالى سنة ست وسبعين وسبعمائة للهجرة.
ينظر:: السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، 8/395؛ ابن قاضي شهبة: طبقات الشافعية، 2/153؛ ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، 7/278.
([18]) وهو محمد بن أحمد بن عبد الله خويزمنداد أبو بكر المالكي العراقي رحمه الله تعالى الفقيه الأصولي، معروف بآرائه الشاذة من تصانيفه، كتاب كبير في الخلاف، كتاب في أصول الفقه و اختيارات في الفقه، توفي رحمه الله تعالى سنة تسعين وثلاثمائة للهجرة.
ينظر:: ابن فرحون: الديباج المذهب، ص 268.
([19]) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 4/250.
([20]) سورة آل عمران، جزء من آية 159.
([21])المرجع السابق
([22])الدريني، خصائص التشريع، ص 419.
([23]) سورة آل عمران، جزء من آية 159.
([24])سورة آل عمران، جزء من آية 159.
([25])سورة آل عمران، جزء من آية 159.
([26])سورة الشورى، آية 38.
([27]) ابن القيم محمد : زاد المعاد، 3/265.
([28]) ينظر:: ابن حجر: فتح الباري، 17/105.

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا