نشأة الخوارج


د. أحمد ياسين الحسني
باحث عراقي


       إن بذور هذه الفِرقة الضالة، نشأت من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث تم الاعتراض عليه ووصموه بصفات تؤدي إلى  كفر أصحابها.
1-    فعن جابر بن عبد الله   رضي الله عنهقال: أتى رجل رسول صلى الله عليه وسلم بالجعرانة([1]) منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها، يعطي الناس، فقال: يا محمد، اعدل، قال: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟  لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل.  فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني، يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله، أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية.([2])
وفي رواية: " فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم  حتى رُئِي الغضب في وجهه .... وقال : إنه سيكون لهذا أو لأصحابه نبأ ".  وفي رواية: " فغضب حتى تورد خداه ، ثم قال : أيأمنني الله عزوجل على أهل الأرض ولا تأمنوني ؟ ....".   وفي رواية " ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ..." ([3])
2-    عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله  من اليمن بذهيبة في آديم مقروظ لم تُحصّل من تربتها ، قال : فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن بدر وأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل ، فقال رجل من أصحابه : كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء ؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءاً ، قال : فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار، فقال : يا رسول الله أتق الله ، قال : ويلك أولستُ أحقَ أهل الأرض أن يتقي الله ، قال: ثم ولى الرجل ، قال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ قال: لا لعله أن يكون يصلي ، فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم ، قال: ثم نظر إليه وهو مقف فقال: إنه يخرج من ضئضيء هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، وأظنه قال : لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود "([4])
    قال العيني([5]): ذُهيبة:  تصغير ذهبة،  مقروظ: مدبوغ ،  لم تُحصّل: أي لا زالت تبرأً، عيينة: بن بدر الفزاري وكان من الجرارين أي يقود عشرة ألاف مقاتل، فقام رجل: هو ذو الخويصِرة واسمه حُرقوص بن زهير التميمي أو السعدي أو أسمه نافع أو عبد الله , يمرقون: أي يخرجون بسرعة من الدين من الطاعة دون الملة،  قتل ثمود: وبرواية عاد أي استئصالهم بالكلية ([6]).
3-    عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذو نكاية للعدو واجتهاد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أعرف هذا، فقالوا: يا رسول الله نعته كذا وكذا، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: ما أعرفه، فبينما هم كذلك إذ طلع الرجل فقالوا: هذا يا رسول الله، فقال: ما كنت أعرف هذا، هذا أول قَرن رأيته في أمتي إن به لسعفة من الشيطان، قال: فلما دنا الرجل سلم فرد عليه القوم السلام، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نشدتك بالله هل حدثت نفسك حين طلعت علينا أنه ليس من القوم أحد أفضل منك ؟ قال : اللهم نعم، قال: فدخل المسجد يصلي، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكررضي الله عنه : قم فاقتله، فدخل أبو بكر المسجد فوجده يصلي، فقال أبو بكر في نفسه إن للصلاة لحرمة وحقاً ولو استأمرت رسول الله، قال: فجاء إليه، فقال له: أقتلته أقتلته أقتلته ؟ قال : لستَ بصاحبه .
   ثم قال: أذهب يا عمررضي الله عنه فاقتله، قال: فدخل عمر المسجد، فإذا هو ساجد، قال: فانتظره طويلاً، ثم قال في نفسه: إن للسجود لحقاً، ولو أني استأمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد استأمره من هو خير مني، قال: فجاء إلى رسول الله قال: أقتلته ؟ قال: لا رأيته ساجداُ أو رأيت للسجود حقاً، وإن شئت يا رسول الله أن أقتله قتلته، قال: لستَ صاحبه.
  قمْ يا علي رضي الله عنه فاقتله، أنت صاحبُه إن وجدته، قال: فدخل علي رضي الله عنه فلم يجده، قال: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: لو قتل اليوم ما اختلف في أمتي رجلان حتى يخرج الدجال "([7])
والحديث برواية أخرى " كان رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يغزو معنا فإذا رجع دخل المسجد فجعل يصلي فيطيل الصلاة، حتى جعل بعض الأصحاب يرون أنه له فضل عليهم ... وذكر الحادثة ... ثم انصرف ودخل المسجد فخط خطة برجله ثم صف كعبيه ثم قام يصلي ..."([8])
4-    عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  إن منكم من يقاتل على تأويله (القرآن) كما قاتلتم على تنزيله، قال : فقام أبو بكر وعمر رضي الله عنه فقال : لا ولكن خاصف النعل وعلي يخصف نعله([9])
وهذان الحديثان الأخِيران نصان من رسول الله صلى الله عليه وسلم  على أن علياً رضي الله عنه هو قامع الخوارج.
مما مضى تبين أن بذور الاعتراض والانشقاق والتطاول والخروج على الإمام الحق كانت من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنها كانت حالات فردية، ولو حللنا الأسباب التي أدت إلى هذا الخروج، لوجدناها مسائل تتعلق بتصرف الإمام الحق، ظاهرها فيه محاباة لبعض المواطنين على بعض، وباطنها فيه مصلحة عامة للجميع، إلا أن جميع المواطنين ليسوا على درجة واحدة من الإيمان والفهم، فتهيأت الأسباب لظهور نزعتهم الاعتراضية، ولا ننسى أن المعترضين ليسوا أراذل القوم فقط، أو من أراد الله تعالى أن يغويه ويضله، فقد كان رهط الأنصار (رضي الله عنهم) في نفوسهم شيء، وهذه الاعتراضات وكلام النفس لا نستطيع أن ننكرها؛ لأنها ضمن الإمكان النفسي في الطبيعة البشرية، ولكننا كما قدمنا هي بذور إن سقيت تطورت فتتحول إلى خلاف ثم اختلاف حتى تصل إلى الخروج والبغي وقد تصل إلى التكفير والخروج على الإمام الحق، وهذا ما حدث عقب الخلاف السياسي الشنيع بين علي ومعاوية (رضي الله عنهما) فالإمام الحق علي رضي الله عنه فنازعه سياسيا طلحة والزبير وعائشة (رضي الله عنهم أجمعين) أولا فحدث ما حدث من الخروج على الإمام الحق قبل استقرار الأمر إليه فآلت الأمور إلى معركة الجمل وسفكت دماء كثيرة من المسلمين الموحدين المحبين المعظمين لقدر الرسول صلى الله عليه وسلم ولقدر أصحابه (رضي الله عنهم)، ثم تطور الخلاف بين علي ومعاوية _ رضي الله عنهما _ فآلت الأمور إلى الخروج والقتال في وقعة صفين التي سفك فيها دم الآلاف من خيار الناس، ثم تطورت الأحداث بعد مسألة التحكيم فعصفت الأفكار في جانب من جيش علي رضي الله عنه فكفروا عليا ومعاوية والحكمين ثم كفروا من رضي بالتحكيم وانتهت إلى خروجهم وتحزبهم ضد الإمام الحق، فكانت الخوارج التي اجتمع فيهم (التكفير و الخروج).
إنَّ الخلاف السياسي العقيم ولاسيما إذا طال أمده هو القادح لفكرة الخروج عن دائرة الطاعة لولاة الأمر.
إنَّ منظر الدماء الحمراء والأشلاء المترامية لخير الناس من المواطنين والمصلين وحفاظ القرآن والقراء والزهاد والعباد من الصحابة وكبار التابعين له دوي كبير في نفوس المشاركين بأي طرف كان.


[1] - منطقة قرب حنين وزع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم .
[2] - رواه البخاري ومسلم وأهل السُنن واللفظ لمسلم، دار: إحياء التراث العربي. باب: ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم: 1063 (2/740).
[3] - البخاري ، الحديث 3414 (3\1331).
[4] - البخاري ، الحديث 4094 (4\1581).
[5] - بدر الدين محمود بن أحمد العيني الحنفي (762- 855هـ) علامة وفقيه ومحدث ونحوي ومؤرخ، ولد في عينتاب وإليها ينسب، وأقام في حلب ودمشق والقدس والقاهرة، من مصنفاته: عمدة القارئ شرح صحيح البخاري، البناية شرح الهداية، المقاصد النحوية. انظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، للسخاوي (10/ 131). وكذا الأعلام للزركلي (7/ 163).
[6] - عمدة القاريء، بدر الدين العيني، الحديث 4351 (18\7).
[7] - المطالب العالية بزوائد المساند الثمانية، ابن حجر العسقلاني, الحديث 4441، (18/221) تحقيق: سعد الشتري. وكذا انظر : كتاب الشريعة للآجري، الحديث 49 (1/249).
[8] - المطالب العالية ، الحديث : 4442 (18/226)
[9] - مسند الإمام أحمد ، الحديث 11307  (3/33)  قال الأرنؤوط : صحيح .

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا