شبهة حديث جئتكم بالذبح


شبهة حديث جئتكم بالذبح
د عبد الستار عبد الجبار
عضو الهيئة العليا للمجمع الفقهي العراقي

إن من أكبر مشكلاتنا في هذا العصر سوء الفهم للنصوص الشرعية، والتي يترتب عليها سوء السلوك والتطبيق المشوه للإسلام.
ومشكلة سوء الفهم التي نعاني منها اليوم أخطر من انعدام الفهم، لأن عديم الفهم يُفهَّم وسيءَ الفهم يَتصور نفسه فاهماً، فهو يحتاج إلى إقناع بأن فهمه خطأ، ويحتاج إلى إقناع آخر بالفهم الصحيح، وللأسف الشديد نجد هذا كثيرًا في زماننا.
وقد أعطى سوء الفهم هذا لنصوص الشرع صورة همجية للمسلم جعلته عدوًا للإنسانية والحضارة، بينما نصت الشريعة على كرامة الأنسان بنص قطعي الثبوت والدلالة فقال تعالى }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً{ الإسراء70
ومعنى كرمنا: فضلنا، وبنو آدم هم الجنس البشري بمختلف عقائده وأديانه، فهو مفضل بالعقل والعلم والقدرة على النطق والتعبير وباعتدال الخَلق وغير ذلك، والنص يخبر أن الله I قد سخر لهم ما يحملهم في البر من دواب وسائط وفي البحر من سفن ثم ذلل لهم الأرض ورزقهم من الطيبات والملذات، وفضلهم على كثير ممن خلق كالبهائم والوحوش.
و(تفضيلا) توكيد لمكانة هذا الجنس الذي خلقه الله بيده بينما خلق الخلق بكن فكانوا ونفخ فيه من سر روحه وأسجد له ملائكته وجعله خليفته، فالمفضل لا يجوز أن يهدر دمه لأتفه الأسباب.. وهكذا ينظر الإسلام للإنسان كقيمة عليا.
ثم كُلف هذا الإنسان بعمارة الأرض وتشييد الحضارة فقال على لسان نبيه صالح u }يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ{ هود61
ومعنى أنشأكم من الأرض: ابتدأ خلقكم بخلق آدم منها، ثم استعمركم أي جعلكم عماراً تعمروها بالسكن والتشييد فيها (فاستغفروه) من الشرك (ثم توبوا) ارجعوا (إليه) بالطاعة (إن ربي قريب) من خلقه بعلمه (مجيب) لمن سأله، فنحن مأمون بعمارة الأرض مشاركة مع غيرنا من أبناء الجنس المكرم، ولم نؤمر بإبادة الأجناس والأديان.
وقد ورد هذا الحديث في سياق قصة، وقصته وردت من طرق متعددة، من أقواها ما ورد عن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن العاص أنه سئل: ما أَكْثَرَ ما رَأَيْتَ قُرَيْشاً أَصَابَتْ من رسول اللَّهِ r فِيمَا كانت تُظْهِرُ من عَدَاوَتِهِ؟ قال (حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْماً في الْحِجْرِ فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ r فَقَالُوا: ما رَأَيْنَا مِثْلَ ما صَبَرْنَا عليه من هذا الرَّجُلِ قَطُّ سَفَّهَ أَحْلاَمَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا، لقد صَبَرْنَا منه على أَمْرٍ عَظِيمٍ، أو كما قالوا. قال: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذا طَلَعَ عليهم رسول اللَّهِ r فَأَقْبَلَ يمشي حتى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفاً بِالْبَيْتِ فلما أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ ما يقول، قال: فَعَرَفْتُ ذلك في وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى فلما مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَعَرَفْتُ ذلك في وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فقال: )تَسْمَعُونَ يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده لقد جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ( فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حتى ما منهم رجلا الا كَأَنَّمَا على رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ حتى أن أَشَدَّهُمْ فيه وصاه قبل ذلك ليرفأه بِأَحْسَنِ ما يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ، حتى انه لَيَقُولُ: انْصَرِفْ يا أَبَا الْقَاسِمِ انْصَرِفْ رَاشِداً فَوَاللَّهِ ما كُنْتَ جَهُولاً.
قال: فَانْصَرَفَ رسول اللَّهِ r حتى إذا كان الْغَدُ اجْتَمَعُوا في الْحِجْرِ وأنا مَعَهُمْ فقال بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمْ ما بَلَغَ مِنْكُمْ وما بَلَغَكُمْ عنه حتى إذا بَادَأَكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ فَبَيْنَمَا هُمْ في ذلك إِذْ طَلَعَ رسول اللَّهِ r فَوَثَبُوا إليه وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ: له أنت الذي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ لِمَا كان يَبْلُغُهُمْ عنه من عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ قال: فيقول رسول اللَّهِ r: نعم أنا الذي أَقُولُ ذلك، قال: فَلَقَدْ رأيت رَجُلاً منهم أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ، قال: وَقَامَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ r دُونَهُ يقول وهو يَبْكِى }أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ ربي الله{ ثُمَّ انْصَرَفُوا عنه، فإنَّ ذلك لأَشَدُّ ما رأيت قُرَيْشاً بَلَغَتْ منه قَطُّ)([1])
وقصة اجتماعهم في الغد في الحجر عليه r وأخذهم بمجامع ردائه في الصحيح، وفي سند رواية أحمد محمد بن اسحق وهو مدلس وقد صرح بالسماع فزال إشكاله وبقية رجاله رجال الصحيح([2]).
ومنها: ما ورد عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا أَرَادُوا قَتْلَ رَسُولِ r إِلا يَوْمًا رَأَيْتُهُمْ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ r يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ فَقَامَ إِلَيْهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَجَعَلَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ ثُمَّ جَذَبَهُ حَتَّى وَجَبَ لِرُكْبَتَيْهِ r وَتَصَايَحَ النَّاسُ فَظُنُّوا أَنَّهُ مَقْتُولٌ، قَالَ: وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ t يَشْتَدُّ حَتَّى أَخَذَ بِضَبْعَيْ رَسُولِ اللَّهِ r مِنْ وَرَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ }أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ{ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنِ النَّبِيِّ r فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ r فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ مَرَّ بِهِمْ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: )يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ إِلا بِالذَّبْحِ( وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَا مُحَمَّدُ مَا كُنْتَ جَهُولا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r )أَنْتَ مِنْهُمْ(([3])
وفي السيرة الحلبية 1/471، عن عثمان بن عفان t أنهم كانوا ثلاثة نفر: عقبة ابن أبي معيط وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف، وأن رسول الله r قال فيهم )إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح الله على أيديكم عاجلا... فوالله لقد ذبحهم الله بأيدينا يوم بدر(.
وتعدد الطرق يعطي الحديث قوة فلا يمكن رده بالضعف الذي في بعض طرقه لأن بعضها يخلو من هذا الضعف، وهي باجتماعها تتقوى.
ولكن المتأمل في الرواية يجد أن الحديث خاص في ناس معينين، فكان مع نفر من سادة قريش وليس من خطاب البلاغ العام لكل الناس فقد خاطب به معشر قريش، وخص الثلاثة المذكورين (عقبة ابن أبي معيط وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف).. وقوله لأبي جهل )أَنْتَ مِنْهُمْ( يدل على هذه الخصوصية، ووجود مسلمين قرشيين غير داخلين في الخطاب يؤكدها.
وهذا يعني أنه لا يجوز تعميمه على كل الأقوام غير المسلمة لأن القصة في واقعة خاصة والسبب خاص واللفظ خاص، ولا يجوز تعميم الخاص، هكذا يقول الفهم السليم.
وحمل الحديث على عموم قريش أو عموم الناس يعارضه الواقع، فهو لم يذبح كل قريشٍ ولا كل الناس، والتعميم يتعارض مع نصوص قرآنية ونبوية منها:
$ قوله تعالى }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ{ الأنبياء107 فالعالمين تشتمل على المؤمن والكافر، فهو رحمة لهم ببيان طريق الهداية وأسباب الرحمة لهم، والذبح أبشع صور القتل وهو لا يتناسب مع الرحمة، فكيف يكون الرحمة المهداة للعالمين وهو قد جاءهم بأبشع أنواع القتل؟
والمفسرون يذكرون أنه رحمة للكفار والمؤمنين، ومن رحمة الكافرين أنهم لم يعاقبوا بمثل ما عوقب به الكفار المتقدمون من الطوفان والصيحة وشبه ذلك، وذلك استنباطا من قوله تعالى }وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{ الأنفال33 فإذا قلنا إنه جاء بالذبح فكيف نوفق بين الذبح لهم وعدم تعذيب الله لهم ما دام فيهم r؟
$ بل ثبت أنه كان أشدَّ رحمة بقريش من غيرهم فلم يستأصلهم بالذبح بل دعا لهم بالهداية ورجا لهم الصلاح، فعندما أرسل الله I له جِبْرِيلُ u مع مَلَك الْجِبَالِ لِيأْمُرَهُ بِمَا شاء وقال له ملكُ الجبال: إن شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهم الْأَخْشَبَيْنِ (الجبلين المحيطين بمكة) قال النبي r )بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ الله من أَصْلَابِهِمْ من يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شيئا(([4]) فلم يرجُ الرحمة لهم فحسب بل لنطفهم التي في أصلاب الرجال، ولو كان جاءهم بالذبح لما رجى لهم ذلك.
$ ومن رحمته بقومه أن يحدثهم عن نبي غيره r كما ورد عن ابن مسعود t )كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى النبي r يَحْكِي نَبِيًّا من الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وهو يَمْسَحُ الدَّمَ عن وَجْهِهِ وَيَقُولُ اللهم اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(([5]) فإذا كان يُعلم أتباعه أن يكونوا هكذا مع أقوامهم وهم يؤذونهم فكيف يكون هو r مع قومه؟ وهل يرضى أن يكون نبي غيره خيره لقومه أكثر من خيره هو r؟ ولو كان أرسل إليهم بالذبح لما قص عليهم خبر هذا النبي الذي آذاه قومه وهو يدعو الله لهم.
$ ولا أدل على رحمته بقومه من يوم فتح مكة الذي أراد أن يسميه بعض الأنصار بيوم الملحمة، فسماه r يوم المرحمة، وبعد فتح مكة وتكسير الأصنام جمعهم أمام الكعبة صفوفًا ينتظرون ماذا سيفعل بهم، وسألهم )يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته }لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ{ يوسف92 اذهبوا فأنتم الطلقاء(([6]) فأي أخ أكرم منه لأهله، ولو كان جاء بالذبح لأمر به في هذا اليوم ولقد كانوا يستحقونه، ولكنه الرحمة المهداة.
$ ووصف النبي r بأنه جاء بالذبح فيه إساءة له ولرسالته، وفيه سوء أدب معه r ووصفٌ للرسالة الخاتمة بما لا يليق، فهو رفض أن يقتل رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول عندما قال فيه }لَئِنْ رَجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ منها الْأَذَلَّ{ فَبَلَغَ النبي r فَقَامَ عُمَرُ فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هذا الْمُنَافِقِ، فقال النبي r )دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ الناس أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ(([7]) فهو هكذا مع رجل ليس من أصحابه ولا من قومه ولا من المؤمنين، وهو هكذا حتى لا يقال وتوجه له تهمة القتل، فما بالك بتبني الذبح منهجًا في التعامل مع الآخر؟
اللهم إنا نعوذ بك من سقامة الفهم.






([1]) مسند أحمد بن حنبل 2/218، مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، حديث رقم 7036، وابن حبان، الصحيح 14/525، ذكر بعض أذى المشركين رسول الله r عند دعوته إياهم إلى الإسلام، حديث رقم 6567. ومسند البزار 6/456، حديث عبد الله بن عمرو، حديث رقم 2497. 
([2]) انظر: الهيثمي، مجمع الزوائد، 6/16.
([3]) صحيح ابن حبان 14/529، ذكر جعل المشركين رداء المصطفى r في عنقه عند تبليغه إياهم رسالة ربه I، حديث رقم 6569. ومصنف ابن أبي شيبة 7/331، حديث رقم 36561. مسند أبي يعلى 13/324، حديث رقم 7339.
([4]) رواه البخاري 3/1180، حديث رقم 3059. ومسلم 3/1420، حديث رقم 1795.
([5]) رواه البخاري 3/1282، حديث رقم 3290، ومسلم 3/1417، حديث رقم 1792.
([6]) ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق الأرنؤوط 3/407.
([7]) رواه البخاري 4/1861، حديث رقم 4622.

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا