الدولة المدنية في العراق.. مشروع استراتيجي ام تكتيكات مرحلية؟



الدولة المدنية في العراق.. مشروع استراتيجي ام تكتيكات مرحلية؟
  عمار وجيه
سياسي وكاتب

ابتداءً، ثمة فرق كبير بين المعلومة التي ترد من جهات صديقة ذات خبرة وتخصص، وبين الأخرى التي تملى على المواطن أو الشعب إملاءً.
الأولى تنساب بالإقناع، عبر دورة تدريبية أو لقاء تشاوري بين ممثلي الدول او البرلمانات أو رؤساء الدوائر ونحو ذلك. فيها مثلاً، يستمع موظف أو مسؤول في دولة نامية من آخر في دولة متقدمة. المعلومة والخبرة تتسلل بهدوء إلى العقول والأفئدة ثم تواجهها أسئلة طبيعية: كيف نكيّفها مع ظروفنا وأوضاعنا؟ وكيف نقنع صناع القرار؟ وما الميزانية المطلوبة؟ وهكذا.

أما أن يفرض مفهوم ما مثل مفهوم (الدولة المدنية) مع الاحتلال كما تفرض الطماطم الناضجة مع الغضة الطرية، فهذا امر يستوجب المراجعة، فقد لا تختلف عن طريقة فرض المحاصصة والدستور وفلسفة العراق الجديد القائمة على اعتبار السنة أقلية، ولكن هذه المرة سيختلف الممثلون شكلاً أو مضموناً.

ومما يدعم شعار المدنية، ردة فعل المواطن المتذمر من ممارسات ولاية الفقيه، وفساد المستفيدين من ثيوقراطية الفقيه، ومن فوضى تمازج أو تصادم الأهواء الإيرانية مع الأمريكية. وكلها عوامل تسهم في تشويه شكل ومضمون الدولة المدنية.

 وذلك يعيد إلى ذاكرتنا حال العراقيين قبل الاحتلال، فقد كان تسعة أعشارهم ينشدون التغيير، ولكن تسعة اعشار هؤلاء لم يكونوا يمتلكون صورة واضحة المعالم لفلسفة الحكم القادم. صحيح انهم كانوا يتعطشون للتداول السلمي، لكن التفاصيل الأخرى لم تكن قد طبخت بعد. العلماني والإسلامي كلاهما يمقت الاستبداد لكن ثمة خلاف كبير حول شكل النظام الذي يصلح للعراق.

الدولة المدنية كتبت فيها أدبيات هائلة في الغرب والشرق وترجمت، ولها تطبيقات في دول إسلامية ابرزها ماليزيا وتركيا، فلا حاجة لمزيد من التنظير، إنما يكفي أن نقلب الكتب ونتابع أشرطة الفديو ونطلع على آراء مفكرينا وتشخيصهم لمواطن النجاح والإخفاق.

ومعلوم أن تعريف الدولة المدنية في الغرب يختلف كثيراً عنه في مناطقنا. فالغرب يجعلها بمقابل الدولة الدينية الثيوقراطية، وهذا النموذج الكنسي غير موجود في بلداننا إلا بنسبة ما في نموذج ولاية الفقيه، وبنسبة أكبر في تجربة داعش، وهذه لا يمكن بحال اعتبارها دولة لأنها تفتقر إلى مقومات المقبولية الإقليمية والدولية، فهي حركة تمرد فوضوية وليست مشروع دولة.

الدول العربية بعد سقوط الدولة العثمانية لم تخرج عن الإطار المدني بالإجمال، فالكل لديه دستور وقوانين وجيش وشرطة، من عُمان شرقاً إلى المغرب وموريتانيا غرباً. المشكلة التي تفاقمت أنه في الستينات تحولت معظم الأنظمة الجمهورية إلى انظمة استبدادية. ومع ذلك بقي القانون سيد الموقف في الأحوال المدنية وفي الجنح والجنايات، وفي كثير من تفاصيله يستقي من الشرع الإسلامي، وفي العراق بالأخص كان المذهب الحنفي سيد المراجع.

اما ظلم الحكام وإعلانهم الأحكام العرفية وإنشاؤهم محاكم الثورة ومصادرتهم الحريات ومنعهم تشكيل الأحزاب والصحافة المعارضة وقمع المتظاهرين وإصدار أحكام الإعدام لمن يقف في وجه الحاكم، واتخاذ القرارات الاستراتيجية مثل تأميم النفط ومحاربة الجوار دون إذن ممثلي الشعب، فهذه الحماقات لم تختلف كثيراً عن الثيوقراطية. لا بل إن كان ثمة افتراض وجود (ثيوقراطية إسلاموية) فعلى الأقل تمتلك مصادر تشريع من الوحيين ويمكن للحاكم أن يقترب فيها من الصواب حتى لو استبد، أما الثيوقراطية القائمة على نزوات الحاكم بأمره فهي أقسى وابعد عن الصواب.
علماً أن الإسلام ليس فيه ثيوقراطية، بل تسعة أعشار احكام السلم والحرب قائمة على المصالح والمفاسد وهي منضبطة بقواعد ومقاصد يتفق عليها العقلاء فضلاً عن أهل الشرع. وللمستشارين والخبراء والبرلمانيين الحق في تقديرها بل وإلزام الحاكم بالقرار بصددها.

لذا علينا قبل الاندفاع المحموم نحو الدعوات الغربية ان نفكك معاضلنا إلى محاور وتساؤلات:
كيف نذوب أجندات الاحتلال مع الوقت وننقله من مرحلة الهيمنة على القرار السياسي إلى مرحلة المنفعة الاقتصادية كي يتلاشى أثره مع الوقت؟
كيف نتخلص من أجندة الولي الفقيه التي فشلت في إيران ثم صدرت فشلها إلينا؟
وكيف نتخلص من فوبيا الدول الأقليمية من أمريكا والتي كان ثمنها تقديم الشعب العراقي أضحية وقرباناً لتلك الدول؟
كيف نعالج العبودية لدى شعوبنا والمتمثلة بالرغبة في الطواف حول القوي الظالم؟
كيف ننجح في الاستفادة من ثقافات الشعوب والدول المتقدمة من دون أن نبيع ثوابتنا وقيمنا؟
وكيف نبث روح الدين الإسلامي من جديد في شعوبنا، فنحيي الشهامة والرقابة الذاتية والوفاء والحرص على الممتلكات الشخصية والوطنية وحب الخير للناس والرغبة في العطاء والنماء ونحو ذاك؟

أما الزج بوزراء يطلق عليهم مجازاً (تكنوقراط) وأغلبهم موظفون لدى الحزب الحاكم أو محل اتفاق بينه وبين بريطانيا تحت قاعدة (شَيّلني وأشَيّلك) فهذه لا تمت إلى المشروع المدني بصلة.

يجب أن يتنبه الشعب المسلم أن الاستسلام للغرب ربما تترتب عليه مصالح وتدرأ فيه مفاسد، لكن الثمن سيكون باهضاً جداً إذ نرى أنفسنا مع الوقت أدوات لإجهاض التجارب الرائدة في المنطقة. وقد رأينا بوضوح موقف الإمارات وخادمها السيسي من التجربة التركية، لأن كليهما لم يفهم بأن التعاون والتنسيق العربي والإسلامي بما فيه من تنازلات متقابلة أجدى من الخضوع التام للغرب والشرق. وأنه لا مناص من صناعة إرادة حقيقية لشعوبنا مهما كان الثمن، فهو أرخص من ثمن الخنوع.
هذه السلبية لم تقتصر على الإمارات وحسب، بل إن أغلب معارضي أردوغان في الداخل التركي يسهمون بشكل أو آخر في محاولات إفشال مشروع التنمية وتمزيق الدولة التركية، وهم جميعاً يدّعون أنهم يسعون إلى دولة مدنية في الوقت الذي يعلمون انه من المستحيل الوصول إلى سقف في التنمية اعلى من سقف حزب العدالة.

الدولة المدنية الإسلامية مشروع أصيل، سبق به سيدنا عمر رضي الله عنه الغرب باثني عشر قرناً، ثم تبعه الامويون والعباسيون والأندلسيون والعثمانيون بنسب أو أخرى.
وعلى هذا فالمشروع المدني استراتيجي وليس تكتيكياً، لكنه لن يتبلور وينضج قبل أن نجد مخرجاً من الأزمات التي وقعت فيها الأمة، وحتى ذلك الحين لا بأس من التلويح بالمدنية توازياً مع مشاريع الإنقاذ، ليس لأننا سننجح في صياغته في ظل كل الفوضى وفرض النموذج المستورد بل لنذكر العراقيين أن المجتمع المسلم مجتمع مدني من الطراز الأول.

المهم أن لا نلهث وراء المحتل بلا وعي ولا خيار ترضاه عقولنا وتؤطره قيمنا الإسلامية الراسخة.


شارك الموضوع

إقرأ أيضًا