أهلية من يتولى تعيين المصلحة




أهلية من يتولى تعيين المصلحة

أ.م.د صلاح الدين محمد النعيمي
باحث في السياسة الشرعية

من خلال متابعتي لما يجري في بلدنا بصورة خاصة من تضارب في الفتاوى حيرت الناس، واعتزاز كل ذي رأي برأيه مدعيا أنه أفتى بذلك من أجل مصلحة الامة، أحببت أن أدلو بدلوي مبينا – ولو بصورة مختصرة – من له الحق في تعيين المصلحة، أو بمعنى آخر ما هي أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها من يحدد المصلحة، سيما إذا كانت المصالح  تتعلق بمصير الأمم والشعوب والمجتمعات فهذه لا يستطيع الإنسان العادي أن يُدركها ويقدرها لأنها تتعلق ببقاء الأمم والشعوب أو فنائها، فلرب قرارٍ يُتخذ من شخص غير مؤهل يؤدي إلى كارثة تسيل بسببها الدماء وترمل النساء وييتم الاطفال وتهدم البيوت وتدمر المدن وتنتهك المساجد حتى لا يستطيع الانسان أن يسير مطمئنا على نفسه ... الخ.
لذلك وجب على من يتولى استعمال المصلحة أن يكون مؤهلاً لاستعمالها، مؤهلاً لتولي المسؤولية، مؤهلاً لاتخاذ القرار لإخراج الناس من الأزمات التي تعصف بهم.
ونحن هنا نوجز أهم تلك الصفات بالآتي:
الصفة الأولى: التجرد لطلب الحق
هذه الصفة من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها الشخص الذي يتولى استعمال المصلحة، ذلك لأنها صفة إيمانية أخلاقية تنبع من داخل النفس لا يطَّلع عليها إلا الله U.
قال الإمام أحمد: (لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه، الثانية أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، والثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته، والرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس، والخامسة: معرفة الناس)([1]).
 وإخلاص النية يعني أيضاً: استقلال الفكر والتجرد من قيود التقليد، وأغلال العصبية للفِرَق والأشخاص والطائفة والعشيرة والقومية والحزب ونحوها، فالذي يبحث عن الحق وهو مقيد بهذه القيود والأغلال لن يتعامل مع النصوص والأدلة إلا من حيث أنها أدوات لتأييد من ينتمي إليهم.
يقول ابن الجوزي –رحمه الله-: (اعلم أن المقلد على غير ثقةٍ فيما قلَّدّ فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل، لأنه إنما خُلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة)([2])
واليوم –للأسف- قد ابتلينا بأغلال العصبية والتقليد الأعمى للأشخاص والطوائف والقوميات والأحزاب والهيئات والعشيرة والمدينة والمنطقة بغض النظر عن الحق، المهم أن ينصر جماعته وإن كانوا مخطئين، وأن ينتقد الآراء المعارضة وإن كانت مصيبة، وصدق فينا قول الشاعر:
فعين الرضا عن كل عيب كليلة


كما أن عين السخط تبدي المساويا
وفي المعنى نفسه:
وعين البغض تبرز كل عيبٍ


وعين الحب لا تجد العيوبا([3])

بناءً على ما تقدم وجب على من يتولى استعمال المصلحة أن يتجرد لطلب الحق.
الصفة الثانية: فهم مقاصد الشريعة على كمالها
أصبح من المسلمات أن الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح الناس، واستقرَّ بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب (الضرورية، الحاجية، التحسينية) فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فهم عن الشارع قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي r في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله.([4])
ومقاصد الشريعة: هي المعاني والأهداف الملحوظة للشرع في جميع أحكامه أو معظمها، أو هي الغاية من الشريعة، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها، ومعرفتها أمر ضروري على الدوام ولكل الناس، وللمجتهد عند استنباط الأحكام وفهم النصوص، ولغير المجتهد للتعرف على أسرار التشريع، فإذا أراد المجتهد معرفة حكم واقعة من الوقائع احتاج إلى فهم النصوص لتطبيقها على الواقع، وإذا أراد التوفيق بين الأدلة المتعارضة استعان بمقصد التشريع وإن دعته الحاجة إلى بيان حكم الله في مسألة مستجدة عن طريق القياس أو الاستصلاح أو الاستحسان ونحوها، تحرى بكل دقة أهداف الشريعة.([5])
وإنما يتأتى فهم مقاصد الشريعة من خلال الممارسة والتتبع لها فتكسب المجتهد قوة يفهم منها مراد الشرع من ذلك وما يناسب أن يكون حكماً له في ذلك المحل وإن لم يصرح به.([6])
أما إذا لم يحسن الشخص الذي يتصدى لاستعمال المصلحة فهم مقاصد الشريعة، فإنه حينئذ قد تختلط عليه المصالح المتزاحمة فيقدم المصالح الكمالية على الضرورية –مثلاً- ونحوها.
الصفة الثالثة: مَلَكة الاستنباط
لا بد لمن يتولى استعمال المصلحة أن يكون ذا كفاءة علمية تؤهله لأن يستنبط الأحكام للمستحدثات –في كل عصر من الأعصار- التي لم يرد بشأنها حكم، وذلك عن طريق المصلحة.
والاستنباط: هو استخراج المعاني من النصوص بفرط الذهن وقوة القريحة([7])...................
قال الشاطبي: إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها، وقد بينا هذا الشرط.
والآخر: التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه ثم قال (وأما الثاني فهو كالخادم للأول فإنما التمكن من ذلك إنما بوساطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولاً، ومن هنا كان خادماً للأول، وفي استنباط الأحكام ثانياً لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط، فلذلك جعل شرطاً ثانياً، وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة لأنه المقصود، والثاني وسيلة)([8]).
إذاً فمَلَكة الاستنباط إنما تنشأ من خلال ممارسة العلوم الشرعية وفهمها والإحاطة بالأدلة والعلوم المساعدة والإحاطة بمقاصد الشريعة وأسرارها والعلم بمصالح الناس وأعرافهم حتى يستنبط الأحكام على وفق ذلك ولا يوقع الناس في الحرج والعسر والمشقة([9])، ولأهمية هذا الشرط نجد أن كثيراً من العلماء([10]) يرى أنه من الضروري أن توجد في المجتهد ملكة الاستنباط، وكذلك أن يكون ذكي الفؤاد متوقد الذهن حتى يكون مؤهلاً لاتخاذ القرار.
الصفة الرابعة: معرفته لأقسام المصلحة
ذكرنا فيما تقدم أن الأصوليين والفقهاء قسموا المصلحة بتقسيمات عدة، وعلى وفق اعتبارات معينة، لذا لا بد لمن يتولى استعمال المصلحة أن يكون على دراية بهذه الأقسام والاعتبارات حتى يتسنى له الترجيح بين المصالح المتزاحمة على وفق أهميتها ومرتبتها وبقدر تحقيقها للمنافع ودرئها للمفاسد.
أما إذا جهل هذه الأقسام والاعتبارات فإنه حينئذ لا يكون مؤهلاً لاستعمال المصلحة فقد يهدر المصلحة بدلاً من أن يحافظ عليها لأن من جهل المقدمات تعذر عليه إدراك النتائج.
ويظهر ذلك أيضاً في حالة التعارض بين شرين أو ضررين، فقصد الشارع هنا دفع أشد الضررين كما قال الإمام الغزالي –رحمه الله-: (إذا تعارض شران أو ضرران قصد الشارع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين بأخفهما)([11]) هذا لمن عرف أقسام المصلحة، أما إذا لم يعرفها فيخشى عليه تقديم دفع الأخف على الأشد، ولا يجوز([12]) حينئذ دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا.
الصفة الخامسة: فهم الواقع ومعرفة الناس
ينبغي لمن يتصدى استعمال المصلحة أن يفهم الواقع الذي يعيشه وأن يواكب التطور الحضاري وأن يكون عارفاً بأحوال الناس وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم لأن الحكم المبني على المصالح الدنيوية لا يبقى على حاله، بل يتغير بتغير المصالح أو الزمان أو المكان، أو يتغير لحدوث ضرورة أو فساد أهل زمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه للزم الناس الحرج والضيق والمشقة، ولخالف –أيضاً- مقاصد الشريعة المبنية على تحقيق مصالح الناس.([13])
لذا كان لزاماً على من يتعرض للفتوى أن يكون مطَّلعاً على أحوال الناس وعلى كل ما يطرأ من تغيرات على الواقع ليتمكن من تحقيق المصلحة المرجوة للمجتمع.
قال ابن القيم –رحمه الله-:([14]) (معرفة الناس هذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم ... وإلا كان يفسد أكثر مما يصلح فإنه إذا لم يكن فقيهاً في الأمر وله معرفة بالناس تصور له الظالم بصيغة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصور له الزنديق بصورة الصدِّيق، والكاذب بصورة الصادق ولبس ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيهاً في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وهذا كله من دين الله).
والأمثلة التي تبين لنا تغير المصلحة من زمان إلى آخر بسبب تغير الأحوال كثيرة –خصوصاً في بلدنا العراق-، منها:
1-تعيين حراس لحماية المساجد من الاعتداءات.
2-غلق الطرق –وإن كانت رئيسة- المؤدية إلى المسجد خصوصاً في يوم الجمعة.
3-تعاون أهالي المناطق لحماية مناطقهم وبيوتهم من أي اعتداء.
وهذه الأمور لم تكن موجودة قبل ذلك، لكن الضرورة اقتضتها لما حدث من تغير كما هو معلوم.
هذا وينبغي –أيضاً- لمن يتصدى إلى استعمال المصلحة أن يكون مطَّلعاً على كل التطورات والثقافات والعلوم والمعارف ونحوها.
وأرى أن يكون مجلس شورى أو مؤسسة من جميع التخصصات الشرعية، والعلمية، والعسكرية، والطبية ... ونحوها يرجع إليها في حال تعرضه لمسألة ليست من اختصاصه، وبهذه الحالة يتمكن من تحديد المصلحة الراجحة من غير أن ينفرد بالرأي لوحده، ويدخل هذا كله في قوله تعالى: ]وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ[([15]).
وأخيراً: هذه هي أهم الشروط التي أراها، وقد وضع العلماء شروطاً أخرى مما لا يتسع المقام لذكرها لذا أحيل القارئ الكريم إلى بعض مراجعها.([16])





أ.م.د صلاح الدين محمد النعيمي
باحث في السياسة الشرعية










ـــــــــ الهــــــــــــــوامـــــــــــــــش ـــــــــــــــــــ
([1]) هذه الخصال الخمس نقلها الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين: 4/199.
(2) تلبيس إبليس لابن الجوزي: 81-82، نسخة مصورة (د. ط، د.، ت)
(3) المستطرف في كل فن مستظرف، لشهاب الدين محمد أحمد أبي الفتح  الأبشيهي، تحقيق: د. مفيد محمد (ط2/ دار الكتب العلمية، بيروت، 1986): 1/455، ونسبهما لمحمد اليمني في قصة سؤال الملك أنوشروان لحاشيته عن رأيهم في تنصيب ابنه هرمز على الملك.
(4) ينظر: الموافقات للشاطبي: 4/106.
(5) أصول الفقه للزحيلي: 2/1017.
(6) ينظر: الإبهاج للسبكي: 1/8.
(7) الاستنباط في اللغة: استخراج الماء من العين من قولهم: نبط الماء إذا خرج من منبعه، التعريفات للجرجاني:38 .   
(8) الموافقات للشاطبي: 4/106-107.
(9) ينظر: مناهج الاجتهاد، لمدكور: 2/365.
(0[1]) كابن بدران، عبد القادر بن بدران، ذكر ذلك في كتابه: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي (ط2/ مؤسسة الرسالة، بيروت، 1401 هـ)، شروط المجتهد: 372-374.
([1]1) المستصفى للغزالي: 1/256.
([1]) القول لابن تيمية –رحمه الله-، ينظر: مجموع الفتاوى: 23/343.
(2[1]) ينظر: أصول الفقه للزحيلي: 2/835.
(3[1]) عند شرحه للخصال الخمس التي ذكرها الإمام أحمد بن حنبل، وهذه هي الخصلة الخامسة: ينظر إعلام الموقعين لابن القيم: 4/204-205.
(4[1]) سورة الشورى: من الآية 38.
(5[1]) ينظر في الشروط: المستصفى للغزالي: 1/342-343 ؛ الورقات للجويني: 29 ؛ روضة الناظر لابن قدامة: 352 ؛ الموافقات للشاطبي: 4/106-107 ؛ إعلام الموقعين لابن القيم: 4/199-205 ؛ الإبهاج للسبكي: 1/8 ؛ المدخل لابن بدران: 372-374 ؛ إرشاد الفحول للشوكاني: 381 ؛ مناهج الاجتهاد لمدكور: 2/364-366 ؛ أصول الفقه للزحيلي: 2/1017 ؛ الموازنة بين المصالح لأحمد عليوي: 134-139.

























شارك الموضوع

إقرأ أيضًا