حطام اسمه العراق


 د. عمار وجيه
كاتب وسياسي

في فندق ڤانرويال- أربيل التقيت البروفيسور بادريگ أومالي للمرة الثالثة. أومالي السبعيني أستاذ في جامعة بوسطن في ولاية ماساشوسيتس شرق الولايات المتحدة، إيرلندي الأصل، مهتم بشأن الحروب والنزاعات الأهلية. زار العراق مرتين في الأقل وتطوع لعقد ملتقيات بين أطراف النزاع الإثني والطائفي.

في ذلك الفندق كان الحديث مركزاً على كركوك. وفي جلسة شاي تحدثنا عن غياب المشروع الوطني مقارنةً بدول الجوار. وبينت له أن العراق ولد في ١٩٢٤ عليلاً، واريد له بإرادة بريطانية أن يبقى هكذا وتبقى مشكلة كردستان عالقة بلا حل لعقود طويلة.

تسلسلت معه تاريخياً حتى وصلنا إلى عام ١٩٩١ وتحديداً إلى يوم ٢٨-٢-١٩٩١ حين أجبرت القوات العراقية على الانسحاب التام من الكويت، لتكون الثمرة على الأرض انقساماً مجتمعياً ثلاثياً. الكرد تمت حماية إجوائهم بحظر الطيران العراقي ما بين خطي ٣٢ إلى ٣٦ عرضاً. الكل يدخل أراضيهم بحرية؛ الأمم المتحدة، الأمريكان، البريطانيون، الفرنسيون، وحتى الإسرائيليون، إلا جيش صدام الذي لم يقترب منهم إلا مرة واحدة بعد ذلك بعملية تكتيكية مشتركة مع البارزانيين لإبعاد الجلاليين في ٣١ آب ١٩٩٦.

الشيعة أريد لهم أن يهانوا ويعاملوا مواطنين من الدرجة الثانية عقوبةً على انتفاضتهم التي أطلق عليها النظام مسمى "الغوغاء". وسواء أستدرج صدام إلى ذلك أو كانت بمحض إرادته فالنتيجة سواء وهي التمهيد لدولة الشيعة في العراق وقد صارت.

بقي السنة في تخبط إلى يوم الاحتلال، ليأتي الفصل الثالث من التقسيم بعد اشتداد المحنة عليهم وتحديداً في يوم تفجير المرقدين في سامراء في ٢٢-٢-٢٠٠٦ واستمرت حتى يومنا هذا كي تنضج فكرة الإقليم السني وتتبلور.

البعثيون والعروبيون أمثال د غسان العطية حاولوا أن يحولوا دون الانقسام المجتمعي داخل البيت العربي العراقي. وكم طالب العطية أن يكون هناك اقليم عربي اسوة بالإقليم الكردي لكن دون جدوى.فالبيئة الشيعية ما تزال محكومة  من إيران نفوذاً وثقافةً إلا أقل القليل. كما إن اي مشروع عروبي يمكن أن يجد له صدىً في الجنوب الشيعي لا يمكن إلا أن يضمن للشيعةبقاء السيادة على العراق. وإلا فمن غير المعقول أن تطلب من المثقف الشيعي أن يتخلى عن حماية إيران من دون ان تضمن له دوام الزعامة والمكاسب. هذا الطرح وإن كان يعدّ خطوة نحو الأمام في راب الصدع بين عرب العراق سنة وشيعة، لكنه لن يطمئن سنة العراق الذين ذاقوا الويلات من شيعة بلادهم قبل غيرهم، وبالتالي فإن من لا يريد النجاح للمشروع العروبي مثل إيران وبعض الكرد وربما حتى دول أخرى سيكون لهم دور في تقويضه بشتى الطرق.

بالعموم ما زال ثمة صراع شرس بين المؤمنين بالأقاليم الثلاثة او الأكثر من الثلاثة، وبين الداعين إلى الإقليم العربي العابر للطائفية. السبب الرئيس للصراع ليس إيديولوجياً بل مردّه عند اصحاب المشروع السني الخوف من فشل المشروع العروبي الذي جرّب منذ الستينات وكان سبباًللانتكاسات تلو الأخرى، ولم يقدّم حلولاً واقعية توقف الهيمنة الطائفية والتغيير الديمغرافي لحد اللحظة.

المصيبة أن المالكي خلال سنوات حكمه الثمانية استدرج إلى ما استدرج إليه سلفه صدام قبل ذلك ولكن بطريقة أخرى. المالكي كان مسروراً وفخوراً حين كان يردد أنه لن يخوض حروباً او مغامرات ضد دول الجوار، لكنه لم يفطن إلى أنه خاض حرباً ضد جزء مهم من الجمهور الشيعي في بغداد والجنوب يوم ضرب جيش المهدي في صولة الفرسان من غير ان يجري مصالحة حقيقية مع التيار الصدري بعد ذلك، سيناريو شبيه بضرب ما سماه صدام بالغوغاء. وخاض حرباً ضد السنة في المحافظات الستة إذ لم يستجب لمطالبهم بل فتح الباب على مصراعية لداعش. كما خاض حرباً اقتصادية ضد الكرد يوم حرمهم من حصتهم من النفط ١٧٪ وقدم بذلك هدية مجانية لغريمه مسعود ليذكر الشعب الكردي بالمثل الشعبي الشائع (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق).

النتيجة لم تختلف كثيراً عما حصل لصدام. وقد يكون المالكي معذوراً في بعض ما ذهب إليه، لكن الصورة الإجمالية لم تكن في صالحه وأبعدت فرصة المصالحة مسافة أكبر.

ولا أظن أن المالكي أو خلَفه ادركوا أن العراق سيتفتت أكثر من ذلك. العبادي من جهته خفف الضغط على الكل ليوجد اجواءً نسبية من الارتياح لدى الفرقاء، من غير أن يسعى حثيثاً لمعالجة الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية العالقة ولو خطوة واحدة إلى الأمام.

انهار الاقتصاد، واستمر التصعيد الطائفي فبالرغم من تغيير لهجة رموز السنة نحو التعايش بقيت القنوات الشيعية تصعّد في خطابها الطائفي. الذبح والتهجير في ديالى وحزام بغداد لم يتوقف. مشاكل الكرد مع بغداد لم تحل، وقانون النفط والغاز معلق.

رافق كل ذلك عوامل أخرى نحتت من النسيج الاجتماعي للمكونين الشيعي والكردي، وأهمها فوضى داعش التي أججت العداوات إلى أقصاها.

فالحزبان الرئيسيان في كردستان زاد خلافهما في الرؤية حول التعامل مع إيران، والپككا، والملف السوري، وتركيا، وطريقة تحرير نينوى، والصلاحيات في الإقليم. وانعكس كل ذلك سلباً على الثقة المتبادلة وظهر جلياً على شكل تشدد أمني في سيطرات ومنافذ الدخول والانتقال من محافظة كردستانية إلى أخرى. فضلاً عما حصل من منع رئيس البرلمان الكردستاني من الدخول إلى أربيل على خلفية خلاف تشريعي.

 في بغداد والجنوب الشيعي تنامى الخلاف نتيجة كثرة ضحايا الحشد الذين قاتلوا داعش وإصرار إيران على دخول الحشد إلى الأنبار ونينوى، ما عقد وأخر التحرير. وثالثة الأثافي، الانهيار الاقتصادي الذي بدد آخر حلم شيعي لرؤية عراق مزدهر يحكمه اتباع آل البيت.

 الخلاف الشيعي تنامى وتحول إلى تظاهرات في بعدها الليبرالي حقيقية وفي بعدها المذهبي ليّ أذرع للمنافسين. فقد تجرأ الصدر على إرسال رسالة عنيفة لإيران ربما لم تكن تتوقعها بهذا الشكل.

 قبل ايام فوجئت إيران بهتافات ساخنة في أوقات ساخنة ومنطقة ساخنة، يصرخ فيها الجمهور الصدري: إيران برة برة! أين؟ في ساحة الاحتفالات التي يعظمها البعثيون لأنها ترمز لانتصار العراق على إيران في ٨-٨-١٩٨٨.

وكأن رسالة الصدريين لسادتهم في إيران: بإمكاننا أن نعيد الحياة إلى ماضي العراقيين متى نشاء. فاعرف حدّك يا "سليماني" وليس بإمكانك أن تتخطانا بعد اليوم.
الصدريون ليسوا أغبياء ليعيدوا المجد للبعثيين، لكنهم يمتلكون أوراقاً محلية تؤهلهم أن يؤججوها دون أن تحرق اصابعهم.

هذا الحراك المستفز لإيران اضطرها أن تدخل بقوة عن طريق سرايا الخراساني وأن تُرفع الأعلام الإيرانية بتحدٍّ في وسط بغداد، ولا يستبعد أن يكرّس ذلك مزيداً من الشعور السلبي لدى شيعة بغداد ليرددوا صدى هتافهم: إيران برة برة.

هذه الأحداث وغيرها أسهمت في تفتيت النسيج الشيعي. الصدريون ضد خط المحافظين ذوي الولاء لخامنائي، والمجلس لن يكون مسروراً من استفحال نفوذ الصدريين، وحزب الدعوة يخسر نفوذه بعد إبعاد المالكي وفشل العبادي وقبل ذلك انشقاق الجعفري.

آخر تفتت يمكن أن يحصل داخل النسيج السني هو الإسفين الذي يدقه الإعلام البعثي ويستفيد منه العروبيون بين من يعتزّ بسنيته من دعاة الإقليم ومن يعتزّ بعروبته أمثال العطية وغيره. وإمعاناً في ضرب مشروع الأقاليم يتهم سنة العراق الذين اسسوا جبهة التوافق بأنهم تبع للحزب الإسلامي، والحزب الإسلامي جناح الإخوان، والإخوان مرفوضون خليجياً ومصرياً. وإن استمر الحال هكذا قد يخسر الفريقان: السني والعروبي.
ولو أمعنا النظر اكثر لوجدنا ان الانقسام وصل إلى المحافظات والأقضية. ابن البصرة لا يكترث لابن النجف، وابن الفلوجة لديه مصيبة كبيرة تشغله عن ابن سامراء.

العراق اليوم تفتت ويتفتت اكثر مع الوقت، وإيران يوماً بعد يوم تعجز عن توحيده.
السؤال: هل المطلوب أن يباع العراق خردة للولايات المتحدة لتعيد بناءه على طريقتها؟ يبدو الأمر هكذا. ولكن كيف ستعيده؟ وهل ستنجح في فرض التيار المدني؟ أظن من الصعب ذلك في القوت الحاضر. لكن تبقى سيناريوهات الاقاليم اقرب للواقع.

      

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا