بين نصر الفرد ونصر الجماعة (ضوابط ومفاهيم)


د. صباح حمدان الكبيسي
أكاديمي وباحث

أود أن أوجه اليوم كلامي في هذا المقال إلى العاملين الصادقين الممتلئين بيقين نصر هذا الدين وهذه الأمة الذين قد تطرأ عليهم لحظات من الشعور بالانهزام واليأس مما يجري في عالمنا الإسلامي.

لقد كان الدافع لكتابة هذا المقال هو استشهاد زعيم الجماعة الاسلامية في بنغلادش الشيخ مطيع الرحمن نظامي، والذي أُعدم على يد الطغمة العلمانية وبأسباب واهية هذا الرجل ربى اجيالا من الشباب المسلم في بنغلادش وقاد الحركة الاسلامية في بنغلادش ردحا من الزمن وبالرغم من كل المناشدات الدولية لأيقاف التنفيذ الا ان الله عزوجل أكرمه بالشهادة وقامت الحكومة البنغلاديشية باعدامه.

ان خسارة علم من اعلام الدعوة والدين في هذا العالم الاسلامي والذي يملأ القلب حزنا، بل والاحزن من ذلك الصمت الدولي والاقليمي عن هذه الجريمة النكراء غير المبررة كل ذلك قد يزرع الحزن واليأس والقنوط في قلوب الملايين من الشباب المسلم في مشارق الارض ومغاربها بسبب مايرونه من هوان دم المسلمين ورخصه ومن صمت العالم وسكوته وتواطئه على قتل علماء المسلمين وقادتهم ورموزهم فضلا عن شعوبهم وعوامهم في مصر وسوريا والعراق وافغانستان وغيرها من بلاد المسلمين حتى ليقول من لايعرف سنن الله في خلقه وفي ملكه لماذا يحدث هذا والى متى ، ومتى سنرى نصر الله تعالى.

لذلك اردت ان ابين في هذه العجالة وبدون تفصيل طويل بعض المفاهيم والضوابط لنفرق بين نصر الفرد ونصر الامة او الجماعة المسلمة , فنحن على يقين أن الشيخ مطيع الرحمن رحمه الله تعالى قد انتصر وانه قد نال الشهادة والكرامة من الله لا نشك في ذلك ولا نرتاب ، وانه فاز كما فاز الاولون عندما كان يطعن احدهم وهو يصيح بأعلى صوته (فزت ورب الكعبة)، أو كما كان يقول الامام احمد بن حنبل رحمه الله تعالى (إنما هي ضربة بالسيف ثم الذهاب الى الجنة).

إن من اعظم الاخطاء هو الخلط بين المفاهيم والتصورات أو الجهل ببعضها، ومنها الخلط وعدم التفريق بين الاهداف النهائية (الغاية التي من اجلها خلقنا) الثابتة وبين الاهداف المرحلية المتغيرة في مسيرة هذه الحياة, فأن الهدف الغائي الثابت هو عبادة الله لنيل رضاه والجنة, والاهداف المرحلية هي وسائل للوصول الى الهدف النهائي الاخير، لان الدنيا كلها وسيلة للعبور الى الاخرة .

والخلط كذلك بين نصر الفرد ونصر الامة او الجماعة وتمكنها، فان من اعظم اسباب زرع التفائل وروح الامل وانتاج جيل للصحوة الاسلامية من جديد يبتعد عن روح الهزيمة ونفسية الانكسار والقنوط واليأس وقعود الكسول القانط، هو الفهم الصحيح لهذه المفاهيم والضوابط ليعيش حرا كريما مستيقنا بنصر الله لأوليائه وان طال عليه الأمد مشمرا عن ساعد الجد والعمل متطلعا لرضى الله في أعماله وأقواله.

فمن المفاهيم والضوابط الي يجب ان نفهمها:

ان غياب النصر علامة دالة على فساد في الأيمان او فساد في العمل او في كليهما ومانراه من حالة الأمة ينبئك عن مظاهر فساد إيمانها او فساد أعمالها.

لذلك كان من شروط النصر ان النصر حليف لمن أمن بالله حق الأيمان وأحسن العمل في سبيله لذلك نرى الكثير من المسلمين يعتقد او يتمنى على الله أن ينصر الأمة المسلمة على غيرها من اعدائها باعتبار ان الأمة الأسلامية خير من غيرها من الأمم رغم الفساد الذي فيها , فأن مثل هذا التصور الخاطئ الذي يصادم سنن الله في خلقه ويعارض الواقع فربما كان سببا في فتنته عن دينه , وهذا مانراه اليوم في أجيال تركت دينها ونبيها وقرأنها لأنها تريد النصر بدون أن تؤدي شروطه واستحقاقاته كما قال بنو اسرائيل لموسى "عليه السلام" (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ).

لذلك جعل الله جل وعلا الأيمان والعمل الصالح شرطين للنصر والتمكين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

لذلك جعل الله سبحانه وتعالى مخالفة الصحابة لأمر من أوامر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) سببا من أسباب خسارة المسلمين لمعركة أحد حتى أن الصحابة أندهشوا واستغربوا من الهزيمة بالرغم من وجود رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقودهم وهم أصحابه فخاطبهم الله في كتابه الكريم بأيات بينات ليزول اللبس والأندهاش: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

لذلك كان من سنة الله إن أية جماعة او أمة إنطبق عليها الوصف الشرعي والمراد الرباني جاءها وعد الله والتمكين لامحالة فأنظر وتدبر.

والأمر الأخر إن من سنن الله في كونه وهي حقيقة مستنبطة من دروس التاريخ الماضي: أن الحق لا ينتصر لمجرد أنه حق بل لابد من قوة تسنده وفئة تعاضده وأنصار يقومون به وينصروه كما قال الشيخ الاسلام إبن تيمية رحمه الله تعالى في آية الحديد: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، إن الدين لا ينتصر إلا بكتاب هادي وسيف ناصر، وهذه من أعظم السنن التي هي قانون إلهي كوني ماضي تترتب بمقتضاه المسببات على الأسباب وهذا القانون لايتبدل ولايتغير (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا).

فمن يعتقد أن النصر يأتي من أجيال غرقت بالملذات والشهوات وضاعت في تفاهات الغرب ومصائده ومكائده وتركت ربها ونبيها ودينها ونست أو تناست سنام هذا الدين وفرضه الأعظم الذي هو الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال فهي أجيال مغرورة غلطت في فهمها وتصورها للنصر والتمكين.

الأمر الأخر إن للنصر مظاهر علينا فهمها (العزة والمنعة والامن وسعة العيش)، فليس شرطا أن ترى كل مظاهر النصر وتدركها بل قد ترى بشائر النصر وتموت قبل أن ترى كل النصر ببشائره ومظاهره فإن من اصحاب النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من مات واستشهد ولم يرى النصر او رأى بشائره فقط , وكما كان يقول شيخنا اياد العزي (رحمه الله تعالى) أذن بلال في يوم الفتح على ظهر الكعبة وحمزة ومصعب وامثالهم تحت التراب استشهدوا في معركة أحد لم يروا الفتح والنصر وإنتهاء طغيان قريش وجبورتها.

بل إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع ما بشر به أصحابه من فتح فارس والروم فإنه إنتقل إلى الرفيق الأعلى وأكمل أصحابه الكرام (رضي الله عنهم) مسيرته ففتحوا فارس والروم وقهروا أعظم إمبراطوريتين في الأرض في بضع سنين.

المفهوم الأخر إن إستعجال النصر بدون دفع جميع إستحقاقاته ليس صحيحا ( قصة سيدنا خباب بن الأرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فالمسلم مأمور بالأيمان وبالعمل الصالح وبالصبر على مشاق الطريق، فالنصر لا يأتي الا بجهد بشري منضبط قال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).

ومفهوم أخر أن النصر مضمون لهذا الدين ولمن تمسك به وليس متعلق بشخص ولا بجماعة, وهذه الأمة بعد انتقال نبيها الكريم (صلى الله عليه وسلم) إلى الرفيق الأعلى إنتصرت وفتحت مشارق الأرض ومغاربها, ولقد فهم الصحابة الكرام هذه القاعدة والسنة الربانية,فهذا خير الخلق بعد الانبياء سيدنا الأمام أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) يقول والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) مسجى على سريره والصحابة قد أصابهم الذهول والصدمة والحيرة من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)يقول وكله ثقة بموعود الله لهذا الدين ولمن تمسك به بالنصر والتأييد (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت) لذلك بين الله عزوجل صفة الصحابة الذين نصرهم في كتابه العزيز (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) إذن العلة أنهم أدوا ما عليهم من إستحقاقات كالإيمان بالله والجهاد في سبيله ثم مع كل ماقدموه من تضحيات لم يبدلوا ولم يغيروا.

المفهوم الأخير:الفرق بين مفهوم نصر الفرد ونصر الأمة او الجماعة.
فإن نصر الفرد ليس حتما من الله وإن كان أجره عند الله محفوظا فما كان الله ليضيع عمل عامل والجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان.

فحقيقة النصر الفردي يتمثل في رضى الله والفوز بالجنة والنجاة من النار بعد إيمان وعمل صالح وثبات على الطريق كما قال تعالى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).

وقد يتحقق هذا النصر للإنسان المؤمن في عهد الإستخلاف و في عهد الإستضعاف، في ظل حكم الفراعنة والطغاة أو في ظل حكم الرسل والأنبياء والخلفاء (امرأة فرعون - مؤمن آل فرعون- مؤمن ال ياسين) نالوا الشهادة و دخلو الجنة في ظل حكم الطغاة.

ومثال على نصر الأفراد نوح عليه السلام (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)، ويوسف عليه السلام (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). ونصر الأفراد لن يتحقق إلا بالعبادة والثبات والعمل الصالح من دون يأس ولاقنوط كما قال تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)، وقوله تعالى :( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).

اما نصر الأمة او الجماعة المسلمة الذي هو إنتصار الدين والدعوة والمبادئ, فنصرها مربوط بنصر الدين والمبادئ والطاعة الحقة لله ولرسوله, وتكون أعلى مظاهره العزة والتمكين وانتصار المبادئ والقيم والعقائد والاخلاق.

لذلك كان من أعظم الأخطاء ذلك الخلط بين مفهوم نصر الفرد ونصر الامة او الجماعة ,فقد ينتصر الفرد بموته واستشهاده وبموته تنتصر مبادؤه ودعوته (الغلام المؤمن _ الإمام احمد _ إبن تيمية _ سيد قطب)

لذلك فرق سلفنا الصالح بين نصر الفرد الذي يتحقق بموت الانسان على طاعة الله وفي مرضاة الله فيفوز بالجنة بالرغم انه قد لايرى نصر الامة او الجماعة المؤمنة

فهذا يقول (لإن عشت حتى أكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة) والأخر ينادي (قوموا موتوا على مات عليه رسول الله) (صلى الله عليه وسلم) والأخر في رمقة الأخير يخبرنا مستبشرا (إني لأجد ريح الجنة دون جبل أحد) وذاك يصيح فرحا (فزت ورب الكعبة) وموسى (عليه السلام) سبقهم يركض مناديا ربه( وعجلت إليك رب لترضى ) ، وهذا يصلب وهو ينشد الشعر فرحا :

ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي

ولو أردنا إستقصاء الأمثلة لما إنتهينا من كثرتها واستفاضتها.

إذن الشيخ مطيع الرحمن رحمه الله تعالى فاز وانتصر وانتقل الى الرفيق الأعلى شهيدا ثابتا على الحق ، يقول في أخر كلماته : (لقد عشت ثلاثة وسبعون عاما ومصاب بأمراض مختلفة ويمكن أن ألبي نداء الموت في أية لحظة, ولكن يشاء الله أن يكرمني بالشهادة في سبيله, فلا تجزعوا ولا تطلبوا العفو من أحد سوى الله ولا تدعوا لي بالحياة بل أدعوا لي بالثبات والقبول عند ربي , فالشهادة في سبيله أسمى أماني) .

وأخيرا أوجه نصيحتي لكل شاب من شباب هذه الأمة فأقول: يا أخي كن في القافلة والركب وأعمل واثبت وانتظر موعود الله بلا تسرع ولا يأس ولاتهور وإياك أن تتخلف عن القافلة أو الركب أو أن تحيد عن طريق الحق وأهله, فثق ياأخي إنه سيبكي دما كل من تخلى عن القافلة والركب كما بكى أبو خراشة حينما دعاه الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) الى الإسلام فقال:لا حتى ينصرك الله على قومك , فلما فتح الله على رسوله أعظم فتح (فتح مكة) جعل يبكي بكاء مرا لأنه تختلف عن الركب ولم يكن فيه ، فلا تكن كأبي خراشة .

اللهم لا تقبضنا ونحن متخلفين عن الركب أو نسير على غير جادة الحق وأهله ياكريم .





شارك الموضوع

إقرأ أيضًا