ترويج العمل الإغاثي.. بين المصالح والمفاسد




محمد نذير الراوي
يجد العاملون الإسلاميون في المجال الاغاثي بعض الحرج في مناقشة هذا الموضوع، ويجدون حرجا أكبر حينما يُتهمون في نياتهم حين يحاولون حث الناس على التصدق من خلال نشر مناشطهم الاغاثية المختلفة.
ولا شك أن هذه القضية من احتياجات الساحة، والخوض فيه عسِر، لأن لها تشعبات مختلفة، وقد حدثت بالفعل تجاوزات ومشاكل إنسانية وشرعية وتربوية.
وليست مهمة هذا المقال البحث في نوايا العاملين على الساحة اليوم وانما وضع بوصلة يمكن أن توجه نحو المسار الصحيح.. وهذه ليست الا اضاءة تحتاج الى دراسة علمية وميدانية..
وسنحاول أن نغطيه من خلال ملاحظات متفرقة:
لا يتعدى العمل الاغاثي أن يكون صورة من صور الصدقات في شكله التنظيمي الحديث.. مهمته إيصال العون للمحتاجين، وغايته نيل رضا الله تعالى.
فالأمر أولا وآخرا يتعلق بتدين العامل في الحقل الاغاثي، فنحن نتكلم عمن هو حريص من خلال عمله ذاك على صفاء قلبه، وإصلاح تقواه، وتزكية نفسه، لبلوغ رضا ربه ومولاه.
ونحسب أن غالب الإسلاميين (وهم رواد هذا المجال بلا منازع) هدفهم مندرج تحت: خير الناس انفعهم للناس، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، و: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا )) .. وغيرها من نصوص نور الوحي الهادية لهذا السبيل..

المشكلة الكبيرة:
هي في أعماق هذا الكائن البشري المعقد، الحامل لشهوة عظيمة في حب الظهور والوجاهة وكسب السمعة الحسنة ونشر اعماله الفضيلة.. ولا يستثنى من هذا الا مختلف من اجتباه الله، أو من داوى نفسه وعالجها حتى صارت ملكه..
الرياء مثلا.. تلك الخصلة التي حاربها الشرع وسعى بتشريعات مختلفة لإنهائها ومجاهدتها أو التقليل منها جهد الاستطاعة.. والتي لا يمكن تجاهلها طيلة حياة الانسان.. خصوصا اذا باشر الاعمال الخيرية المختلفة.. وعرف بالتفرغ لها.. في زمنٍ استجدت فيه فنون من الرياء سهلة ولذيذة..

كيف سيسعى الانسان للمحافظة على قلبه وتدينه وهو ينشر ويظهر ويسعى ليُعرف بالمغيث الكريم ذي المروؤة..؟! وأمواج العمل تعصف به من كل جانب.. لا تدعه يقف ليراجع بوصلته..

قلب المؤمن لا يَصلح الا بأعمال السر.. كذا جزم العارفون بطِبِّهِ.. والذي يخاطر بقلبه في بحر شهوات الظهور مغامر.. وعلى المغامر أخذ عدته.. وهو على نفسه بصير.. وبحال قلبه خبير.. وسيقف يوما بين يدي العلي الكبير..

ما يريده المؤمن من عمله الصالح: إصلاح قلبه، ومغفرة ذنبه، والثواب، ورضا الرب، والجنة، والنجاة من هول يوم الدين.. والأحاديث الواضحة تخبرنا أن ذلك الهدف بعيد مع نيات مختلطة وأهداف مختبطة.. فأي قيمة تبقى لتلك الأعمال..؟!

تذكرة وموعظة..
نعم.. إن من "محكمات الشريعة" وقواعدها الكبرى في إصلاح الحياة والإنسان: الحث على إخلاص الأعمال والتوجه الدائم نحوه سبحانه وحده بلا شريك، ومحاربة الشرك الخفي والرياء والتسميع.. وقد ورد في ذلك من النصوص ما لا يحصى.. وأهل الدعوة أخبر الناس بها.. وإنما نذكرهم بطرف منها هنا ليتم المقصود:
·        فحديث إنما الأعمال بالنيات مشهور واضح، ومن سمع سمع الله به، وروى الإمام أحمد وغيره مرفوعا: (من عمل من هذه الأمة عمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب)، وفي المسند أيضا: )إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء، يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء) .وأخبرنا أن الرياء يكون صغيرا حتى ليبقى منه في قلب المؤمن ما هو كدبيب النمل!
·        وروى ابن خزيمة مرسلا: (لا يقبل الله عملا فيه مثقال حبة من خردل من رياء (.
·        بل المرعب أن المتصدق يؤتى به كأول من يستفتح بهم اشتعال النار في الجحيم عقوبة له على تسميعه بصدقاته وأن نفسه كانت تدعوه للعمل الخيري ذالك ليقال عنه: منفق متصدق كريم صالح..
·        وحديث شداد بن أوس مرفوعاً ( من صلى يرائي فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ، وإن الله عز وجل يقول : أنا خير قسيم لمن أشرك بي ، فمن أشرك بي شيئاً فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به . أنا عنه غني ) رواه أحمد .
·        قال تعالى: ((وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله)). قال البغوي: هذا نفي معناه النهي، أي: لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله.
·        وبالجملة: فإسرار الأعمال وسيلة شرعية مطردة في أعمال البر لضمان صلاحية قبولها.
·        قال الحسن البصري رحمه الله: إنْ كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس وإن كان ليصلي الصلاة الطويلة وعنده الزوار ومايشعرون به ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا.

هل هو استثناء؟
المشكل هنا.. أن الشريعة المطهرة أجازت إظهار الصدقات دون سائر أعمال الخير.. ومدحت المظهر كما مدحت المـُسر.. وقد يشكل هذا على الناظر أول وهلة.. إذ كيف يحث الشارع على إخفاء الأعمال.. ثم يأمر بإظهار نوع منها؟
وفي ذلك سر قد نعرفه وقد نجهله.. ولكن الواضح  أن ذلك لهدف عظيم.. وأنه بضابط مخصوص.. سنأتي عليه بعد ذكر نصوص الإظهار..
1.     قال الله تعالى: ((إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) [البقرة:271] أي: فنعم شيئا إبداؤها، وهذا مدح جلي، وتوجيه عليّ، من عند من يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
2.     وقال تعالى: ((الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [البقرة 274]. مدح الله عز وجل المنفقين علانيةً كما مدح المنفقين سراً ورتب لفاعل كليهما أجرًا وأمْناً.
3.     وقال تعالى : ((قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ(( [إبراهيم: 31]. فهذا أمر مباشر بالانفاق علانيةً.

فالجمع بين السر والعلانية يقتضي أن لكل منهما موضعا تقتضيه الحال وتفضله المصلحة لا يحل غيره محله.
اما الحكمة التي نحاول تلمُّسها من روح الايات في تشريع صدقة العلن:
·        أن في إظهار هذا العمل الصالح حث على التنافس والتقليد في الخير خصوصا لمن هو موضع اقتداء، وخصوصا أيام الكوارث والنوازل، فإن تهييج العواطف قضية إنسانية استغلها الشرع في أحسن الصور، وقد رأينا في هذه المحن من تنافس الوجهاء والكبراء الكثير، بل في تنافس الشباب وإنشاء مشاريع تطوعية رائعة أكثر.
·        وفي ذلك أيضا اختبار لمدى تماهي الانسان مع شهوته في الإظهار.. هل يكون إظهاره طبيعيا اعتياديا أم جنونيا مبالغا فيه.
·        وفي ذلك أيضا تعليم للإنسان أن يراقب قلبه حتى وهو يعمل العمل الصالح أمام الناس، فإن من تعود على العمل الصالح في الخفاء لم يختبر قلبه حقا.
·        وفي ذلك إشارة إلى أن الرياء وسائر أعمال القلوب غير مرتبطة دوما بحال وصورة ونمط.. بل قد يبتلى بها المسر كما يبتلى بها المعلن.. وإن كان العلن مظنة غالبة لها.

وأما الضابط:
فهو أن هذه الآيات مربوطة ربطا مباشرا بالمحكم من الشرع، ومنه ما تقدم من الحث على إخلاص العمل، وكونه شرطا لقبول كل الأعمال، وكون الرياء يحبط العمل، وينزل غضب الرب تعالى.
فـ(صدقة العلن+نية صادقة)= القبول باذن الله .. ولا يمكن القول أن (صدقة العلن)(خلوص النية) مطلقا.. وإن كانت مظنتَها وقرينة عليها في الظاهر.
ولا يعني أبدا أن الإذن بصدقة العلن هو إذن بالتسميع أو الرياء أو الإشهار.. بل لابد من مراعاة آداب الإخلاص أكثر في صدقة العلن، إذ هي عسيرة حينئذ، ولذا نص كثير من العلماء على أن من لم يملك نفسه ورأى قلبه مائلا نحو الرياء والتسميع ورأى ميلا للخلق دون الخالق فإن تشريع صدقة العلن لا يكون له بل لغيره، فيدعها ويسر بصدقته ويسلم لدينه، ولذا قال قتادة: كلٌّ مقبولٌ إذا كانت النية صادقة، وصدقة السر أفضل.
وقال الطبري: من كان إماما يُسْتَنُّ بعمله، قاهرا لشيطانه، استوى ما ظهر من عمله وما خفي، ومن كان بخلاف ذلك فالإخفاء في حقه أفضل وعلى ذلك جرى عمل السلف.
فالإظهار وإعلان الصدقة استثناء، وإنما شرع لأجل الحاجة، فكأنه ضرورة والضرورة تقدر بقدرها، قال ابن حجر: قد يستحب إظهار العمل ممن يقتدى به على إرادته الاقتداء به ويقدر ذلك بقدر الحاجة. وقال ابن عبد السلام: يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدي به أو لينتفع به ككتابة العلم ومنه حديث (لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي).
ولما ذكر ابن العربي بأن مظهر الصدقة يكسب إشاعة السنة وحسن الاقتداء به: علق القرطبي قائلا: هذا لمن قَوِيَتْ حالُه وحسُنت نيته وأمِن على نفسه الرياء ، وأما من ضعف عن هذه المرتبة فالسر له أفضل.
وقال ابن حجر الهيتمي: وقد أثنى الله على القسمين فقال (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) لكنه مدح الإسرار لسلامته من تلك الآفة وقد يمدح الإظهار فيما يتعذر الإسرار فيه كالغزو والحج والجمعة فالإظهار المبادرة إليه وإظهار الرغبة فيه للتحريض بشرط أن لا يكون فيه شائبة رياء فمتى خلص العمل من تلك الشوائب ولم يكن في إظهاره إيذاء لأحد فإن كان فيه حمل للناس على الاقتداء والتأسي به في فعله ذلك الخير والمبادرة إليه وذلك لكونه من العلماء أو الصلحاء الذين تبادر الكافة إلى الاقتداء بهم فالإظهار أفضل لأنه مقام الأنبياء ووراثهم ولا يخصون إلا بالأكمل ولأن نفعه متعد ولقوله عليه السلام: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة) وإن اختل شرط من ذلك فالإسرار أفضل.
أفضلية صدقة السر :
وقد بحث العلماء مسألة: أيهما أفضل، إظهار الصدقة أم إخفاؤها؟ وخلاصة خلافهم أنهم على ثلاثة آراء:
الأول: أن صدقة السر أفضل مطلقاً، سواء أكانت واجبة أم مندوبة.
الثاني: أن ما كان واجبا فالاظهار فيه أفضل، وما كان مستحبا فالإسرار افضل. وعلة أفضلية العلن في الواجب إظهارا للشرائع، ودفعا للتهمة.
الثالث: أن الاسرار أفضل إلا لمن يُقتدى به، فيجوز له أن يظهر صدقته ليتبعه الناس، وأما سائر الناس فالعلن لهم خلاف الأولى.
وقد عبَّر الإمام الغزالي عن أخذ الصدَقَة في الخفاء: "أنَّه أبْقى للستر على الآخِذ، فإنَّ أَخْذَه ظَاهِرًا هَتْكٌ لستر المروءة، وكشفٌ عن الحاجة، وخروجٌ عن هيئة التعفُّفِ والتصوُّنِ المحبوبِ الذي يحسب الجاهلُ أهلَه أغنياء من التعفُّف"، وكذلك "أنَّ في إظهارِ الأخذِ ذُلاًّ وامتهانًا، وليس للمؤمن أنْ يُذِلَّ نفسَه" وقال في فوائد إخفاء الصَّدقة بالنسبة للناس: "إنَّه أسلم لقلوب النَّاس وألسنتهم، فإنَّهم ربَّما يحسدون أو ينكرون عليْه أخْذَه ويظنُّون أنَّه آخذٌ مع الاستِغْناء، أو ينسبونه إلى أخذِ زيادة، والحَسَدُ وسوءُ الظنِّ والغيبةُ من الذنوب الكبائر، وصيانتهم عن هذه الجرائم أوْلى. "!!!
وفي الحديثصدقةُ السر تطفئ غضب الرب .
وفي الحديث عد من السبعة الذين يظلهم الله بظله) : ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم  شماله ما أنفقت يمينهيعني مع شدة القرب بين اليمين والشمال ، لأن حساب الدراهم ومناولة الأشياء بتعاونهما ، فلو كانت الشمال من ذوات العلم لما أطلعت على ما أنفقته اليمين
ففي ذلك مبالغة في الحث على الإخفاء أيما مبالغة.
قال الآلوسي: الآثار والأحاديث في أفضلية الإخفاء أكثر من أن تحصى.

رأي: أن الإسرار يكون عند التواصل مع الفقير فقط
وبعضُ العلماءِ يرى أنَّ أفضليَّةَ إخفاءِ الصَّدقةِ مقيَّدَةٌ بإيتاء الفُقراء خاصَّةً، لا في كلِّ الصَّدقات؛ تماشيًا مع منطوق الآية، يقول ابنُ القيم: تأمَّل تقييدَه تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصَّةً، ولم يقُل: (وإنْ تُخفوها فهو خيرٌ لكم)، فإنَّ مِنَ الصَّدقةِ ما لا يمكن إخفاؤه؛ كتجْهيزِ جيشٍ وبناءِ قنطرةٍ، وإجراءِ نهرٍ أو غير ذلك.
قال السعدي: وفي قولهوإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم فائدة لطيفة، وهو أن إخفاءها خير من إظهارها إذا أعطيت للفقير، فأما إذا صرفت في مشروع خيري، لم يكن في الآية ما يدل على فضيلة إخفائها، بل هنا قواعد الشرع تدل على مراعاة المصلحة، فربما كان الإظهار خيرا، لحصول الأسوة والاقتداء، وتنشيط النفوس على أعمال الخير

المفاسد التي تطرأ على صدقة العلن:
1.     الرياء والتسميع، وقد تقدم الاسهاب في ذلك.
2.     العجب، وهو محبط للأعمال، قال الترمذي: وصدقة السر أفضل، لأن الذي يسر العمل لا يخاف عليه العجب ما يخاف عليه من علانيته.
3.     اتباع النفقة المن والأذى حين يتم إعلان صور المستفيدين وفضحهم على الشبكات أمام ملايين المتابعين، قال ابن عاشور: تفضيل لصدقة السر لأن فيها إبقاء على ماء وجه الفقير ، حيث لم يطلع عليه غير المعطي، وذكر محمد رشيد رضا في معرض تفضيل صدقة السر أن من ميزاتها: إكرام الفقير وتحامي إظهار فقره وحاجته.

ملاحظات على آيات إعلان الصدقات:
ونعيد نقل الايات الآذنة بإعلان الصدقة ونعلق عليها:
1.     قال الله تعالى: ((إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) [البقرة:271]
ففي هذه الآية مقابلة واضحة بين إبداء الصدقات وإخفائها.. ولكن الملاحظ أنه حينما ذكر الإبداء وصف الصدقة بالمدح، ولكنه خصص الخيرية لنفس المتصدق بكونها سرا، وكأن الصدقة المعلنة فائدتها مجتمعية، وفائدة صدقة السر مجتمعية تربوية، خصوصا إذا قلنا هنا بأن خير ليست على صيغة التفضيل كما قال بذلك بعض المفسرين.
وختم الآية بقوله: ((والله بما تعملون خبير)) ليذكر النفوس بأن الله مطلع على سرائرها أخفت أم أعلنت.
2.     وقال تعالى: ((الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [البقرة 274]. جاءت هذه الآية في ختام الكلام عن الصدقات في سورة البقرة، وكأنها جامعة شاملة لأفضل نماذج المتصدقين، وهم أولئك الذين يتصدقون على كل أحوالهم لا يبالون بليل ولا نهار ولا سر ولا علانية، وعوضهم بعوض عظيم، ولكن ليس في الاية حث على مجرد الإعلان، بل اعلان الصدقات هنا مندرج تحت مجمل حال المتصدق المذكور، وفي تقديم الليل والسر إشار إلى أفضلية الإخفاء.
3.     وقال تعالى : ((قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ(( [إبراهيم: 31]. هذه الآية الوحيدة التي جاء الأمر فيها مباشرا بالصدقة علانية، لكن الملاحظ فيها:
·        أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخاطبا هو بأن يوصل هذا التكليف.
·        وأن المخاطبين بهذا التكليف هم عباد الله المؤمنون وهؤلاء صنف متميز من أهل الإسلام.
·        وأنه قدم إقامة الصلاة على الصدقة، فلا تنفع صدقة ممن لا يقيم الصلاة.
·        وأنه ذكرهم في نهاية الاية بيوم القيامة باليوم الذي لا تساوي فيه العقود ولا العلاقات شيئا، في إشارة للتخويف لما قد يتكسب به المتصدقون علانية من الوجاهة والمكاسب المالية.
·        قال أبو زهرة: أبو زهرة: هذه الآية الكريمة تُفيد أنَّ الصدقات في كلِّ أحوالها خيرٌ محضٌ، ما دام المنفِقُ قد خَلُص من الرياء وجانَبَ المنَّ والأذى، وإذا كان ثمة تفاوتٌ فهو في حالِ النَّفْسِ والاحتياط للرياء وسدِّ مداخله.

وههنا نذكر كلاما جيدا لابن العربي يذكر فيه تفصيلا في الموازنة بين صدقة السر والعلن:
قال ابن العربي : وليس في تفضيل صدقة العلانية على السر ، ولا تفضيل صدقة السر على العلانية حديث صحيح ولكنه الإجماع الثابت (أي على أفضلية صدقة السر)، فأما صدقة النفل فالقرآن ورد مصرحا ، بأنها في السر أفضل منها في الجهر ، بيد أن علماءنا قالوا : إن هذا على الغالب مخرجه ، والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف بحال المعطِي لها، والمعطَى إياها، والناس الشاهدين لها . أما المعطي: فله فيها فائدة إظهار السنة وثواب القدو، وأما المعطى إياها: فإن السر له أسلم من احتقار الناس له ، أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها وترك التعفف ، وأما حال الناس: فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم ، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطي لها بالرياء وعلى الآخذ لها بالاستغناء ، ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة ، لكن هذا اليوم قليل . 

المؤسسات لا كالأفراد:
بقي أن نقول: هذه القضايا تبحث قديما لتدرس أحوال الأفراد المتصدقين، فإن للمؤسسات فقهًا يجعل الناظر فيها يُعِد لها ضابطها الخاص وفقهها المختلف عن فقه الفرد..
وهذا صحيح.. فإن في العمل المؤسسي مندوحة كبيرة عن الظهور للفرد.. وحماية لقلبه بانضمامه تحت إخوانه.. وللمؤسسة من الرعاة والمانحين من يستوجب إدامتهم بالتوثيق والنشر..

مظاهر سلبية:
وهنا لابد من التنبيه على جملة من المظاهر السلبية المصاحبة لعملية إعلان العمل الإغاثي مما لا يتعلق بتدين أصحابها:
1.     ما يتعلق بكسر كرامة المستفيد من هذه الإعانات، فكثير من الصور ملأت الدنيا لكرام من الناس ضاعت سمعتهم وامتهنت كرامتهم وإنما اضطرهم الجوع لقبول هذا الذل، ولهذا الزمان من الفضائح ما يصعب نسيانه، خلاف زمن الملفات على الرفوف. وكل الناس كرام، وحماية كرامتهم من أعظم حدود الشرع المحمية بأسوار عظيمة. فمن أظهر الناس فقد أذلهم وأهانهم.
2.     ما يفعله بعض السياسيون من نشر إنجازاتهم ليثبتوا لجمهورهم إخلاصهم وقدرتهم على الاستمرار في دورة انتخابية قادمة.. والسياسيون متهمون.. ولم يجنِ على براقش أحد.. وأكثر الناس مبالغة في ذا الأمر هم.. مستلزمات العمل!.
3.     تتعمد بعض الشخصيات إظهار نفسها في كل فيديو أو صورة لأعماله الخيرية، فيرفق كل منشور مع اسم المشروع والجهة الداعمة باسمه الشخصي، حرصا منه على توثيق ذلك للمانحين ولزيادة الثقة فيه، وشخصنة مثل هذه الموضوعات مشكلة تختلف عن ترويج مؤسسة خيرية، ففيها الخوف من استغلال ذلك للمنافع الشخصية..
4.     من المظاهر السلبية التي تحاول كسب تعاطف المانحين تصوير الناس على أسوأ حال، وإظهارهم بأبشع منظر من التخلف والعشوائية والخلل، وتصويرهم وهم يتقاتلون على التافه من الأشياء، أو ينامون على المزابل، وهذا وإن كان حقيقيا وواقعا أحيانا، ولكن تعمد ذلك فيه من المفاسد الكثير، وفي الجهة المقابلة: يتعمد البعض تكليف الناس بالوقوف على هيئة معينة وانتظار لحظات هي على كاهل الكريم أثقل من الجبل، ليتم التصوير وفق وضع ما.
5.     أن يصير التوثيق هوسا لدى العاملين، ومثال ذلك إيقاف بعض الأعمال الخيرية لتعذر تصويرها بمستوى معين من التوثيق، خصوصا حينما لا يكون التوثيق ضروريا، وقد حصل. وقد استغرق ترتيب مائدة إفطار كبيرة ساعات لتظهر وفق نمط لصورة احترافية ما، حتى تأخر إطعام الناس ورجع بعضهم جائعا منهكا آيسا، وقد حصل. أو صفحة فيس بوك صرف لترويجها الف دولار قبل أن أن تكمل ألف مستفيد، وقد حصل.
6.     لا نريد أن نتطرق لمظاهر بائسة نربأ بأهل المعالي الانحدار نحوها، مثل التي على نحو "سيلفي والنازح -المسكين- خلفي" أو أي واحد من مدرسة "شوفوني" الريائية، والترويج لحملات وهمية أو ضعيفة ترويجا غير حقيقي، وسرقة جهود الغير، وكون الفريق الإعلامي أكبر من الاغاثي، أو المبالغة في رصد المبالغ لشراء معدات التصوير الغالية، أو مباغتة النساء وتصويرهن من غير حجاب، أو المغيث الأنيق الحريص على ألبسته الباهضة الواقف بين آلاف الفقراء المطحونين..
7.     الزيادة على الحاجة في النشر والترويج، فبعض المانحين يشترط أن يصل إليه التوثيق ليتأكد، فيجتهد العاملون عليها بنشر ذلك في صفحات مؤسستهم او صفحاتهم الخاصة او مجموعاتهم بحثا عن داعمين أكثر وعن سمعة أفضل في ريادة أعمال الإغاثة.
8.     كثرة المؤسسات العاملة في الساحة طيب مبشر، وزيادتها يوما بعد يوم طيب، وتبرز أحيانا مشكلة الانفصالات، وتشويش النفوس، والتنافسات غير الشريفة على الداعمين، ويصل ذلك إلى المجال الإعلامي فتراه واضحا في الصفحات، وقد بلغني أن مؤسسة طبعت ملابس للتوثيق خاصة للعاملين فيها قبل مباشرة العمل ضربا لمؤسسة منافسة، ولم تكمل المؤسسة عملها وبقيت الملابس الباهضة بانتظار تلك الكاميرا ان تصورها يوما.
9.     التنافس بين المؤسسات للسباق نحو تقديم الخير بولغ فيه فضيّع علينا مظاهر جميلة كانت تملأ هذا المجال، مثل "فاعل خير"، "كافل يتيم مجهول"، مبلغ تحت وسادة لا يعرف من أين أتى، كيس يومي على الباب مجهول المصدر، مؤسسة رائدة بلا ضجيج، عامل في المجال الإغاثي كثير الصدقة من ماله ومال عياله...الخ


نعم، في العمل خير، وبعض شبابنا يضربون أمثلة عظيمة في البذل والجهاد والعمل المتواصل حتى وهم صيام، بلا مقابل مادي، وبعضهم ترك عمله ودراسته وواصل الليل بالنهار ليخدم الناس، وبعضهم ترك حياة الرغد والرفاهية ليجد سعادته بين أهله في المخيمات تحت أشعة الشمس الحارقة، فلهم الفضل على القاعدين، ولهم منا عن أهلنا الشكر وحفظ معروف أهل المروؤات، ونسأل الله أن يكفر عنهم من وجد في نيته غبش، ولكننا نبقى نبحث عن الصفاء حتى نبلغه.

وهنا نعطي بعض الاقتراحات والإضاءات السريعة:
·        هل تكون الصدقة محرمة؟ الجواب: نعم، اذا قصد بذلك غير وجه الله.
·        تحصل في أحيان كثيرة أن يفتح باب للصدقات فيتنافس الناس في التبرع فيما يشبه المزاد العلني، وقد كانت تحل النكبات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيبسط ردائه فيجيء كل واحد بما تجود به نفسه، علانية لا سرا، وهذه الصورة لعلها هي الصورة التي تنطبق تماما على الصدقة العلنية أكثر مما يفعله الاعلاميون في المؤسسات الاغاثية، ولكن هنا نجد مبررا كبيرا لهذا العمل إذ التنافس واضح، والتعاون كبير مباشر، أما في حالات النشر في وسائل التواصل ففي كثير منها ينعدم السبب، وتكون مظنة خراب القلوب..
·        هذا الذي يعلن صدقته وينشرها ويظهرها للناس إما أن يكون هو المتصدق بالفعل المباشر لإعطائها للمحتاجين، وإما أن يكون واسطة بين المتبرع والمحتاج، أو أن يكون الجهة المكلفة بنشر التبرعات، فلا بد أن تكون النصيحة لكل منهم على حسبه.
·        من المخارج من مشكلة المبالغة في التوثيق أن يكون ما يعطى للمانح من صور ومقاطع غير ما ينشر على العامة، فنكسب بذلك ثقة المانح، ودعمه، وتعاطفه، ونكسب حفظ كرامة الناس وحماية سمعتهم.
·        يلاحظ أن تراكم الالاف من التجارب الإعلامية في المجال الاغاثي ولا يزال هناك قصور وعشوائية في استغلاله بأفضل الطرق، ونقترح إنشاء ورش لتبادل التجارب لترشيد الجهود والموارد وللوصول للمطلوب باحترافية موزعة عند الجميع.
·        مراعاة مشاعر الناس ومستقبلهم وعوائلهم، واحترام خصوصياتهم، ومحاولة عدم نشر صور وجوههم قدر الإمكان، وقد قرررت وزارة الشؤون الاجتماعية في قطاع غزة معاقبة من ينشر صورة يظهر فيها المستفيد من الاعمال الخيرية بوضوح، فلابد من مراعاة مفهوم إنساني نبيل وهو (ضمان كرامة المحتاج) من قِبل الباذلين، تأمّل قوله تعالى)) : فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلَا تَنْهَر)) ، وأقرأ قوله تعالى: ((كلا بل لا تكرمون اليتيم)).
·        بالإمكان الاقتصار على توثيق بعض فعاليات الحملات الاغاثية لا كلها، كما ينص النظام الداخلي في احدى الجمعيات الخيرية الكبيرة على أن التوثيق يجب أن لا يزيد على 10% من مجموع نشاطاتها. ولا أقل من مراعاة ما يسمى بـ "اخلاقيات الصورة" عند الإعلاميين.
·        وضع حد للاستغلاليين والنفعيين والمتسلقين على جراحات الناس، الذين وصفهم غراهام هانكوك في كتابه (سادة الفقر) بأنهم الراقصون في الأزمات والسائحون في الكوارث.
·         ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل، وانما تنجح المشاريع وتدوم وتكبر ويحصل أثرها وينتفع بها يوم الفرزع الأكبر بمقدار رضا الله عنها، وليكن شعار العاملين قوله تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءًۭ وَلَا شُكُورًا).
·         قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه : لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله، وتصغيره، وستره ، فإذا أعجلته هنيته ، وإذا صغرته عظمته ، وإذا سترته أتممته 
·        الذي يُنفِقُ في يُراقبُ اللهَ - سبحانه وتعالى - في عملِه ويخشاه ويرجوه ويأملُ أنْ يَتقبَّلَ منه؛ كما قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون)) [المؤمنون: 60، 61]، قال ابن كثير: أي: يعطون العطاءَ وهم خائفون وَجِلُون أن لا يُتقبَّلَ منهم؛ لخوفهم أن يكونوا قد قصَّروا في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من بابِ الإشفاق والاحتياط، ولو ادعى الناس كلهم أنهم مكتملوا النيات محافظون على قلوبهم مسيطرون على مشاعرهم ونياتهم، فلمن يكون التورع؟
·        إذا جمع الإنسان على نفسه: عدم اتهام النفس، والبعد عن الناصحين، والسعي وراء اسمه، وحب الأمجاد، ونسيان المحاسبة والمعاقبة، وإغفال حال قلبه، فإن إيمانه لا يمسكه مع هذا الحال إلا الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا.. وحتى كاتب هذا المقال مفتون مختبر، وكل عامل.
·        في آخر المطاف نقول: هذا زمن الكوارث والنكبات، وإطعام الجائعين وإيجاد مأوى لهم واجب على المسلمين جميعا لا يسقط إلا بتحقيق الكفاية لهم، فحملات الإغاثة هذه نراها من الواجبات، والواجبات لا شرف لمراءٍ فيها، بل العامل فيها باذل لما أوجبه الله عليه، وقد أجمع العلماء على أفضلية إعلان ما هو واجب من النفقات المالية، ولكن كيف ستكون أخلاقيات هذا الإعلان؟ وكيف سيكون حال النية في قلب معلنها؟ هذا الذي لن يستطيع أحد أن يسيطر عليه، وإنما يكون تقليل الضرر بدوام النصح، واتهام النفس، والتدريب على الإخلاص، وعلاج داء القلب بأدويته المخصوصة، واستعمال السنة الابراهيمية العتيقة، حينما كان يردد كثيرا أثناء رفع قواعد البيت: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)).


عمّو تعبت ولا تلام المتعبة

قف لا تصورني فلست المذنبة

صور دمائي ان اردت و نزفها

صور معالـــم امتي المتخشبة

صور جراحي لا تصور دمعتي

و اكتب على وجه الدماء: معذبة






شارك الموضوع

إقرأ أيضًا

1 التعليقات:

التعليقات
3 يوليو 2016 في 3:26 م حذف

يا شيخ هذا بحث مو مقال طولتها. جزاك الله خير.
الصدقة و المقال الفكري و الاعمال الخيرية بعمومها تستوجب ظهور اشخاص فيها. فلو لم تكتب ان كاتب المقال هذا هو فلان فربما لا اقرأه ولو لم يكن في الاغاثة فلان فكيف لي ان اثق بهم و ارسل لهم دعمي.

رد
avatar