وحد القبلة



د. صباح الكبيسي
 
عندما قرأت سيرة الإمام المجدد بديع الزمان النورسي مجدد تركيا لفت إنتباهي وشدني موقف مر بالأستاذ النورسي في سنوات تحوله من سعيد القديم إلى سعيد الجديد وتركه الدنيا والسياسة ومشاكلها وتفرغه لخدمة الدين والقرأن يقول رحمه الله : كنت حينها أقرأ كتاب فتوح الغيب للشيخ عبد القادر الكيلاني وفي نفس الوقت كنت أقرأ في كتاب المكتوبات للإمام المجددي الخالدي وكنت محتارا ً مَن منهم أتخذه شيخاً وقدوةً لي ثم أثارتني جملة في كتاب المكتوبات للشيخ المجددي يقول فيها وحد القبلة فقلت في نفسي كيف أوحد القبلة ثم ألقي في روعي من أين يأخذ الشيخ عبدالقادر الكيلاني والشيخ المجددي ومن أين يستمدون فقلت يأخذون من القرأن العظيم ومنه يستمدون إذن لماذا لا أتخذ من القرأن قدوة وإماما أخذ منه وأستمد علمي وعقيدتي واذواقي  فقررت وحسمت أمري أن أتخذ القرأن إماما وقدوة لي في كل صغيرة وكبيرة في حياتي ولا أتجاوزه ولا أتقدم عليه بشيء مهما صغر أو كبر.
هذا الموقف دفعني لأن أفكر لماذا لا نتعامل مع القران كما تعامل النورسي ونستمد منه علمنا وعقيدتنا وأذواقنا ومشاعرنا وشعائرنا وكل صغيرة و كبيرة في حياتنا الدنيا ويقينا هذا هو ألذي فعله سيد القدوات سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم ) وصحابته الكرام (رضي الله عنهم ) حيث لم يكن عندهم كتاب سوى القرأن الكريم ولا يعرفون إماما إلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ألذي تمثل بالقرأن فكان قرأناَ يمشي على الأرض وكذلك كان أصحابه الكرام كانوا مصاحف تمشي على الأرض من شدة تطبيقهم وإتباعهم للقرأن العظيم .
ومما يحضرني في هذا المقام موقف شيخ الاسلام إبن تيمية (رحمه الله تعالى ) ذلك الإمام المجدد المجاهد ألذي جاهد في الله حق جهاده بيده وبلسانه وبقلمه وبسيفه ولم يدخر وسعأَ في مقارعة أعداء الله وأعداء الإسلام وكان بحق عالماَ ربانياَ عاملاَ وكان من الذين عرف عنهم تمسكه بكتاب الله إستدلالا وإستنباطا وتطبيقا ودفاعا حتى أضحت كتبه مناراَ لكل مصلحِ ومجددِ وعاملِ للإسلام حتى يومنا الحاضر ومع ذلك لما سجن في أخر عمره الشريف في قلعة دمشق كتب إلى تلميذه الإمام إبن قيم الجوزية يقول : ( والله لو أنفقت ملىء هذه القلعة ذهباَ للذي سجنني ما وفيت حقه ولقد فتح الله علي في هذا السجن من علوم القرأن ما يتمنى بعضه كبار العلماء وإني نادم على إضاعة الكثير من عمري في غير القرآن الكريم ) .
هذا إبن تيمية الإمام الهمام المجدد المجاهد العالم العامل يقول هذا ، قولوا لي بربكم فماذا نقول نحن؟ ألا تعتقدون أنه قد ينطبق أو ينطبق علينا وصف رسولنا الكريم لتعاملنا مع كتاب الله العظيم : ( وقال الرسول يارب إن قومي إتخذوا هذا القرأن مهجوراَ ) .
لذلك فهم تلميذه إبن القيم الدرس جيداَ وحفظه ووعاه فعاش بالقرأن وللقرأن وعمل به وسبح في تدبره الزمان الطويل ثم قال معلما الناس : ( لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرأن بالتدبر والتفكر فإنه يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الإحوال ألتي بها حياة القلب وكماله وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة ألتي بها فساد القلب وهلاكه ) .
 لذلك نراه يبين لنا أنواع هجر القران ألتي وقعنا فيها كلها أو بعضها ، يقول رحمه الله : وهجر القرأن أنواع: أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وأمن به ، والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه ، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم ، والرابع: هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه، والخامس: هجر الإستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به ، ثم يقول : وإن كان بعض الهجر أهون من بعض .
إذن لنبحث لماذا نهجر كتاب الله لماذا لا نتخذه إماماَ وقدوةَ ومنهجاَ في حياتنا والله جل وعلا يقول لنا : (ومن أَعرض عن ذِكري فإِن له معيشةً ضنكاَ ونحشره يوم القيامة أعمى).
ثم نأتي نسأل لماذا يحدث لنا ألذي يحدث من ضياع وتقتيل وتهجير وتغريب وذل وصغار وتسليط غثاء الأرض  وشذاذها على أهل الحق والخير، أليس ذلك عقوبةَ لإبتعادنا عن منهج الله وكتابه وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم ) .
ونرى خط الإبتعاد عن كتاب الله يمضي قدماَ، بطيئا وبشكل يخفى عن كثير من الناس في أول الأمر، ثم بخطى متسارعة وبصورة سافرة بعد ذلك. فبعد أن كانت الأمة مجمعة الكلمة على العمل بكتاب ربها، وتستمد تشريعاتها من أحكامه، بدأت في التخلي عنه شيئا فشيئا فعاقبها الله بأن سلبه من يدها، إلى أن أصبحت لا تعمل به ، وبالطبع كان هناك دوراَ رئيسياَ لأعداء الأمة في الوصول إلى هذه الحالة ألتي أصبحنا عليها.
لذلك لا نبحث بعيداَ عن الخلل ، إن الخلل يكمن في أنفسنا نعم في أنفسنا، ولو أردنا أن نبسط بعض أسباب ذلكم الخلل نقول :
أولاً: الإنشغال بغير القرأن عن القرأن ، فقد أصبح جل إهتمامنا وشغلنا بغير القرأن الكريم مما أدى إلى التشاغل عنه وهجره .
ثانياَ: عدم التهيئة الذهنية والقلبية عند قراءة القرآن الكريم:
فعند قراءتنا للقرأن الكريم لا نختار المكان الهادئ البعيد عن الضوضاء إذ أن المكان الهادئ يعين على التركيز وحسن الفهم وسرعة التجاوب مع القراءة ، ويسمح لنا كذلك بالتعبير عن مشاعرنا إذا ما استثيرت بالبكاء والدعاء، وعدم لقائنا بالقرأن في وقت النشاط والتركيز بل في وقت التعب والرغبة في النوم .
من ناحية أخرى إنا لم نعمل على إستجماع مشاعرنا قبل القراءة، ولم نتخد الوسائل المؤدية لذلك كالدعاء وتذكر الموت، والإستماع إلى المواعظ .
ثالثاَ: عدم القراءة المتأنية والتركيز معها:
فعلينا ونحن نقرأ القرأن أن تكون قراءتنا متأنيةَ هادئةً مرسلةً ، وهذا يستدعي منا سلامة النطق وحسن الترتيل، كما قال تعالى:( ورتل القرأن ترتيلا) .
وعلى الواحد منا ألا يكون همه عند القراءة نهاية السورة ، بل لا ينبغي أن تدفعنا الرغبة في ختم القرأن إلى سرعة القراءة .
رابعاً: عدم التجاوب مع القراءة:
فالقراءة خطاب مباشر من الله عز وجل لجميع البشر، وهو خطاب يشمل أسئلةً وإجابات ووعداَ ووعيداَ ، وأوامر ونواهي ، فالتجاوب مع تلك العناصر يساعدنا على زيادة التركيز عند القراءة وعدم السرحان .
إن قراءة القرأن بغير هذه الطريقة الصحيحة والتي أرادها الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) والتي يرتجى منها الثمرة الطيبة في إنتاج مؤمن عالماَ بمراد الله عاملاَ بمنهج الله وداعياَ إليه ومضحياَ من أجله .
والخوف كل الخوف أن ينطبق علينا وصف نبينا (صلى الله عليه وسلم ) في حديثه ألذي
رواه الدارمي في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلى القرأن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة, يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب , أعمالهم طمع لا يخالطه خوف , إن قصروا قالوا سنبلغ, وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا, إنا لا نشرك بالله شيئا.
نعوذ بالله من ذلك

لذلك أنصح لنفسي ولكل من يقرأ هذه الكلمات أن نوحد القبلة وأن لا نعددها فكفانا ضياعاَ وكفانا هجراناَ لعل الله يطلع علينا ونحن وقد وحدنا القبلة نحو كتابه العظيم وأتجهنا إليه بوجوهنا وقلوبنا وعقولنا فرحمنا ورفع عنا ما نحن فيه أفراداَ وأسر ومجتمعات وشعوب وليس ذلك على الله بعزيز .

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا