دروس من واقع الدولة النبوية في المدينة ( دراسة في الإجراءات والتطبيقات )


عبد العزيز الجميلي
أكاديمي وباحث


الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه محمد  و على آله وصحبه ومن والاه.
ذكرنا في موضوعنا السابق أننا سنتناول تباعا، الاجراءات التي رسمها وطبقها الرسول صلى الله عليه وسلم، رغم كل التحديات في حينه، ومنها كانت قاعدة انطلاق الأمة، ومن هذه الاجراءات: التهيئة والتأسيس ، الاستشراف والتخطيط ،  والبناء ، واختيار المكان.
وقد تناولنا التهيئة والتأسيس، والاستشراف، وفي هذا الموضوع نتناول التخطيط واختيار المكان لما لهما من الأهمية الكبيرة في حياة الأمم والدول والجماعات.

ثالثا: التخطيط
التخطيط النبوي لإيجاد موطن الدعوة ، وتهيئة وبناء المجتمع المدني، وتنظميه ، وتطويره  ، وكيف أقام الرسول صلى الله عليه وسلم دولة و بنى نفوساً وجمع أشتاتاً ووّحد أمة، وأسس مجتمعاً لم يعرف التاريخ له مثيلاً، وكل ذلك بتخطيط بارع وأسلوب جامع.
يقول الأستاذ أحمد مدهار :
ومن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يتجلى لنا أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى تخطيط ، وأن بناء الأمة يحتاج هو الآخر إلى تخطيط واستراتيجية ، وأن تسيير الأمة وشؤونها الاجتماعية والاقتصادية والحربية تحتاج إلى تخطيط محكم .بل عبادتك لله تعالى تحتاج إلى تخطيط .
1 . لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وسط مجتمع يسوده الكفر والشرك والمنكرات ، فكان من تخطيط الله تعالى لهذه الدعوة أن يبدأ بالأقرب فالأقرب قال تعالى ((وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ))[1] ، إذ لو بدأ بالناس جميعا من الوهلة الأولى لقضي على الدعوة في مهدها وقبل أن ترى النور .
وما زالت الدعوة سرا حتى اشتد عضد المسلمين بإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فجاء الأمر بالجهر بالدعوة (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)  النحل (94) ، ﴿فاصدع بما تؤمر﴾ [الحجر/94]
2 . ثم جاء حدث الهجرة العظيم ، ولم يكن بالأمر الهين ، فأعين قريش وجواسيسهم على محمد صلى الله عليه وسلم لا تنام ، والمؤامرات لقتله تنسج بالليل والنهار ، ومع هذا وذاك استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج من بينهم سالما غانما معافا ، وكل ذلك بالتخطيط المحكم .
لقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم الترتيبات اللازمة للهجرة ، متى يخرج ومن يخرج معه ، والراحلة القوية ، والزاد ، ومن يتبعهم ليمحوا أثرهم ، ومن يزورهم ليوصل أخبار قريش إليهم ، والوجهة العكسية لمباغتة العدو ......كانت خطة وتخطيطا يعجز عنه خريجو أكبر معاهد التخطيط العالمية اليوم .
3 . ثم يصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ولكم أن تتصوروا ظروف المدينة ، الأوس والخزرج أعداء الدهر ، والمهاجرين الضيوف لا مال ولا أسرة ، وعلى مشارف المدينة أعين تتربص من وراء حصونها إنهم اليهود بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع ، وهنا تظهر مرة أخرى حنكة القائد محمد صلى الله عليه وسلم في التخطيط لاستقرار الجبهة الداخلية والخارجية[2] .

فبنى صلى الله عليه وسلم المسجد وجمع فيه المسلمين من أوس وخزرج الأنصار والمهاجرين وخطبهم خطبة الإخاء فآخى بينهم ، بين قويهم وضعيفهم ، وقريبهم وبعيدهم ، ولكم أن تقرأوا في الإخاء قصصا عجيبة وعظيمة . فحقق الاستقرار الداخلي .
ثم بعدها ربط معاهدات مع اليهود فضمن الاستقرار الخارجي ، لينشغل في بناء الأمة من الداخل .
4 . بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلم هذه الأمة مبدأ الشورى والتشاور وهو الذي كان يستشيرهم ويشاورهم في أمور كثيرة امتثالا لأمر ربه ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين) آل عمران - الآية 159، ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾. [سورة الشورى الآية: 38].
لم يوصِ وهو في مرض الموت وكان بإمكانه ذلك ، حتى يدفع الأمة أن تتخذ من الشورى مبدأ شرعيا لا محيد عنه وكان الأمر كذلك من طرف الصحابة رضوان الله عليهم [3].

- مهارات التخطيط الاستراتيجي عند الرسول صلى الله عليه وسلم
رسالة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هداية البشر إلى العقيدة الخالصة والشريعة الصحيحة.
ومدار سيرته كلها هي تحقيق هذه الرسالة التي بدأها بعد اختيار الله له رسولا إلى الناس إلى أن توفاه الله عز وجل ..
كان لرسول الله تخطيطا استراتيجيا محكما في سنواته الأولى من البعثة صحيح انه كان وحيدا لكن كان لديه إيمان قوي بالرسالة و كان يملك رصيدا عاليا من الأخلاق العظيمة .
وقد كان لنبينا (صلى الله عليه وسلم ) أربع استراتيجيات سعى إلى تحقيقها وهى..
1- تبليغ ما ينزل عليه من الوحي
2- أن يدخل الناس في دين الإسلام
3- تكوين دولة الإسلام والعمل على امتدادها و توسيعها
4- تربية الجيل المؤمن القيادي الذي يحمل الدعوة في حياته وبعد وفاته(صلى الله عليه وسلم)
هذه الاستراتيجيات شكلت رؤيته الدعوية وفي إجمال رؤيته (صلى الله عليه وسلم) (تبليغ الوحي و إسلام الناس وتكوين الدولة وتربية الجيل المؤمن).
ولتحقيق الرسالة والرؤية والأهداف واجه النبي (صلى الله عليه وسلم) تحديات كبيرة متمثلة في أعداء الدعوة وهم ستة أصناف وهم ..
قريش و القبائل العربية والمنافقون واليهود والفرس والروم...
وقد حدد النبي (صلى الله عليه وسلم ) إستراتيجية خاصة للتعامل مع كل صنف منها في طبيعة التعامل معها بهدف التفوق عليها... [4]

رابعا : اختيار المكان
يذكر محمد عبد الله محمد خضر عن سبب الهجرة إلى يثرب قائلا :
إن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لـيثرب بتأييد وتوفيق من الله تعالى، روعيت فيه اعتبارات دقيقة ، كيف لا والهجرة لم تكن فقط موقفا تعبديا ينتظر منه الحماية للمسلمين فحسب، بل كان حكما ربانيا بإنشاء دولة الإسلام  فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتطلع إلى مستقبل الإسلام والمسلمين خلال المراحل المقبلة، لم يقع اختياره على يثرب بالصدفة، هو الذي كانت له تجارب مع مواقف أخرى داخل وخارج الجزيرة العربية: بني حنيفة، الطائف، الحبشة .. بل لاشك أنه وفق لهذا الاختيار بتأييد من ربه لاعتبارات يمكن أن نجمل أهمها فيما يلي :

أولاً: الموقع الجغرافي للمدينة: إن الموقع الجغرافي لأية مدينة يعتبر من أهم العوامل التي تحدد مدى تطورها وازدهارها، بل إن نشأة وتطور كثير من المدن والحواضر يرجع في المقام الأول إلى الخصائص الجغرافية التي تميز موقعها، و(يثرب) تمتاز بموقعها الجغرافي على طريق تجارة الشام عصب الاقتصاد القرشي ومتاخمتها لمنطقة حضارية عريقة في الشمال حيث التيارات المسيحية والثقافات الإغريقية تتجاذبها وتدفع بتأثيرها إلى الحجاز .
ثانياً: توافر بنية اقتصادية معتبرة من خلال تنوعها ومستوى تطورها، فهناك الزراعة التي تعتبر يثرب إحدى أهم واحاتها في الجزيرة العربية إلى جانب الطائف وعسير وحضرموت ... فهذه المناطق كانت تمتاز بخصوبة أراضيها ووفرة مياهها وكثرة وتنوع أغراسها ، وقد كان التطور الزراعي في (يثرب) حصيلة الخبرة الزراعية التي أتى بها اليهود من بلاد الشام من جهة والعرب التي هاجرت من بلاد اليمن من جهة ثانية ، أما فيما يخص النشاط الصناعي والحرفي فقد قامت في (يثرب) مجموعة من الصناعات خاصة تلك تعتمد على الإنتاج الزراعي المحلي . كما عرفت بعض الصناعات التعدينية كصناعة الأسلحة والآلات المستخدمة في الري والزراعة .
وأخيرا فإن النشاط التجاري كان له حضوره أيضا بحكم موقع يثرب كنقطة على طريق الشام فضلا على أن فائض الإنتاج الزراعي والصناعي يقتضي تطوير أساليب التجارة لصرفه نحو الخارج .
ثالثا: من الناحية السياسية والاجتماعية ، كانت (يثرب) تعيش في ظل تنوع ديموغرافي يطبعه اختلال في موازين القوى لصالح اليهود على حساب العرب، كل ذلك في ظل غياب سلطة سياسية مركزية موحدة  .
هذه باختزال شديد هي الوضعية التي كانت تميز يثرب عشية الهجرة إليها[5] .



[1]  الشعراء: 214.
[2] ( الأستاذ أحمد مدهار ، من محاضرة : التخطيط للحياة منهج نبوي ، منتديات الدكتور طارق سويدان )

[3] ( الأستاذ أحمد مدهار ، من محاضرة : التخطيط للحياة منهج نبوي ، منتديات الدكتور طارق سويدان )

[4] (موسوعة على خطى الحبيب ، مجموعة ناصر العبيد ، التزكية النبوية والتربية البشرية ، ص 1 )
[5] (  محمد عبد الله محمد خضر ، من مقال : الهجرة النبوية وتأسيس المدينة الإسلامية ،  http://dubeibat.ahlamontada.com/t294-topic )

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا